فقه السيرة النبوية (30)

تأسيس النظام العام والإدارة والتعايش السلمي والأمن العام (الوثيقة أو الصحيفة)

كانت المدينة عشية وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشكل مزيجاً إنسانياً متنوعاً من حيث الدين والعقيدة، ومن حيث الانتماء القبلي والعشائري، ومن حيث نمط المعيشة، ففيهم: المهاجرون من قريش، والمسلمون من الأوس والخزرج، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاثة، بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب من الموالي والعبيد والأحلاف وكانت موارد رزقهم متنوعة بين العمل في التجارة والزراعة والصناعة والرعي والصيد والاحتطاب ، وكان توزيعهم السكني قائماً على هيئة قرى أو آطام وحصون، تحيط بها البساتين والأراضي المزروعة، يدخلون حصونهم بعد حلول الظلام ويحرسون منازلهم خوف الغزو والغارة، ويبلغ عدد آطامهم تسعة وخمسين أطماً أو حصناً، ولكل عشيرة منهم زعامةٌ تقوم على رعاية شؤونها وضمان عيشها وأمنها، ولم تندمل بعدُ جراحات الأوس والخزرج التي خلفتها بينهم حربُ بعاثُ. ويمكن وصف الحالة العامة في المدينة بأنها قائمة على تحكم النظام العشائري وأعراف القبائل السائدة، مع شيوع الجهل والأمية لدى معظم سكان يثرب، بينما كان أهل الكتاب أهل علم ودين لكنهم يمارسون الربا واستغلال التجارة ويعملون على إثارة النزاعات بين الأوس والخزرج ليتمكنوا من ضمان سيادتهم ومصالحهم وسلامتهم ..

ولا شك في أن النموذج النبوي الذي بدأ تطبيقه في المدينة يتوزع في مسارين متوافقين :

أولهما : يتعلق بالمسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله وانقادوا لشرع الله يعملون به ويطبقونه.

وثانيهما: يتعلق بالتآلف والتعايش السلمي بين المسلمين وبين من لم يعتنق الإسلام من الوثنيين من الأوس والخزرج، وأهل الكتاب.

وأعظم مهمة أنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إقامة نظام عام ودستور شامل لجميع ساكني المدينة من المسلمين ومن سواهم من سكان المدينة.

كان لهذا العهد أهمية تاريخية حضارية متقدمة في مسار التاريخ البشري

أطلق العلماء المسلمون على هذا العهد أوصافاً وتسميات منها

دستور الدولة البلدية بالمدينة: ويصفوه بأنه أقدم دستور مسجل في العالم 

ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال: «ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة». 

نص الوثيقة . 

1- هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم. 

2- إنهم أمة واحدة من دون الناس. 

3- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 

4- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 

5- وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 

6- وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 

7- وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 

8- وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 

9- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 

10- بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 

11- وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 

12- وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل، أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 

13- وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. 

14- ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن. 

15- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 

16- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم. 

17- وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. 

18- وإن كل غازية غزت يعقب على بعضها بعضا. 

19- وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 

20- وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن. 

21- وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 

22- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 

23- وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم. 

24- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 

25- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 

26- إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. 

27- وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 

28- وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 

29- وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف. 

30- وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 

31- وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يتوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 

32- وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. 

33- وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم. 

34- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. 

35- وإن بطانة يهود كأنفسهم. 

36- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم. 

37- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. 

38- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم. 

39- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 

40- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 

41- وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. 

42- وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. 

43- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. 

44- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. 

[وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها].

45- أ- وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه أو يلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. 

ب-على كل أناس حقهم من جانبهم الذى قبلهم. 

46- وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبَ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. 

47- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

تحليل للوثيقة .

1- تحديد مفهوم الأمة. 

تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم «أمة واحدة» (المادة21) وقد جاء به القرآن الكريم قال تعالى ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) [الأنبياء: 92].

وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس «من دون الناس» فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء.

ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها، واعتزازها بذاتها يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس. 

وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة، ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود، من ذلك: 

أن اليهود لا يصلون بالخفاف فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رؤوسهم بالحناء والكتم، واليهود تصوم عاشوراء والنبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقال: «لا تشبهوا باليهود» والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا شك أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار، ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزًا بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يؤمن بعقيدته. 

واعتبرت الصحيفة اليهود جزءا من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصراً من عناصرها ولذلك قيل في الصحيفة: «وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم» (المادة 16) ثم زاد هذا الحكم إيضاحا في المادة (25) وما يليها، حيث نص فيها صراحة بقوله: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين...). 

وبهذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس-بمقتضى أحكام الصحيفة- سبباً للحرمان من مبدأ (المواطنة). 

2- المرجعية العليا لله ورسوله. 

جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصت على مرجع فض الخلاف في المادة (23)، وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم» والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول صلى الله عليه وسلم على الدولة فقد حددت الصحيفة مصدر السلطات الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تنفيذ أوامر الله من خلال دولته الجديدة، لأن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالى؛ لأنه بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين .

لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى، قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ? أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) [الزمر: 2،3]. وقال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) [النساء: 105] فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب، فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله، وكما أن العبادة لا تكون إلا عن وحي منزل، فكذلك لا ينبغي أن يحكم إلا بشرع منزل، أو بماله أصل في شرع منزل. 

وقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا، يرجع إليها سكان المدينة بمن فيهم اليهود بموجب المادة (43)، لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خير القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [المائدة: 42]. 

ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية فنزلت الآية: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [المائدة: 45]. 

وبهذه الصحيفة التي أقرت المادة (43): «على أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسوله صلى الله عليه وسلم» أصبح للرسول صلى الله عليه وسلم سلطة قضائية مركزية عليا يرجع إليها الجميع، وجعلها ترجع إلى الله وإلي الرسول صلى الله عليه وسلم ولها قوة تنفيذية؛ لأن أوامر الله واجبة الطاعة وملزمة التنفيذ، كما أن أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هي من الله، وطاعته واجبة. 

وبذلك أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة، وفي نفس الوقت رئيس السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية؛ فقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلطات الثلاث بصفته رسول الله المكلف بتبليغ شرع الله، والمفسر لكلام الله، والسلطة التنفيذية بصفته الرسول الحاكم، ورئيس الدولة، فقد تولى رئاسة الدولة وفق نصوص الصحيفة، وباتفاق الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة، ممن شملتهم نصوص الصحيفة في المادة (36) التي تقرر أنه «لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم» ولهذا تأثير كبير في عدم السماح لهم بمحالفة قريش أو غيرها من القبائل المعادية، وهناك المادة (43) التي ذهبت إلى ما هو أبعد وأصرح من ذلك إذ قررت أنه (لا تجار قريش ولا من نصرها) ولم يرد في الصحيفة اسم لأي شخص ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

3- إقليم الدولة. 

وجاء في الصحيفة: «وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة» مادة (40) وأصل التحريم أن لا يقطع شجرها، ولا يقتل طيرها، فإذا كان هذا هو الحكم في الشجر والطير فما بالك في الأموال والأنفس فهذه الصحيفة حددت معالم الدولة: أمة واحدة، وإقليم هو المدينة، وسلطة حاكمة يرجع إليها وتحكم بما أنزل الله. 

إن المدينة كانت بداية إقليم الدولة الإسلامية ونقطة الانطلاق، ومركز الدائرة التي كان الإقليم يتسع منها حتى يضع حدًّا للقلاقل والاضطرابات ويسوده السلم والأمن العام. 

وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليثبتوا أعلاماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب. 

جعل هذا العهد يثرب بلداً محرما

.لذلك نجد الحرمة أو عمل تطبيقي لإحلال الأمن والسلام في المدينة.

عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها" يعني المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدت الظباء ما بين لا بتيها ما ذعرتها، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى )

ومن فروض حرمتها: حرمة النفس والمال والمتاع والأعراض وحرمة الأشجار والنبات والحيوان واللّقطة

قال صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ما بين حُرتيها وجِمامها، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها ولا يلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها _يعني أنشد_ ولا يقطع شجرها إلا أن يعلف رجل بعيراً ولا يحمل فيها سلاح لقتال) رواه أحمد.

ثم اتسع (الإقليم) باتساع الفتح، ودخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عم مساحة واسعة في الأرض والبحر وما يعلموها من فضاء، فمن المحيط الأطلسي غرباً ومناطق واسعة من غرب أوربا وجنوبها ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها، إلى أكثر أهل الصين وروسيا شرقاً، وكل شمال إفريقيا وأواسطهاإن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية، فهو يبدأ من عاصمة الدولة (المدينة) ويتسع حتى يشمل الكرة الأرضية بأسرها قال تعالى: ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [الأعراف: 128]. كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير منغلق على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها، إذا ما استجابت لدين الله تعالى الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا. 

فالدولة الإسلامية دولة الرسالة العالمية، لكل فرد من أبناء المعمورة نصيب فيها، وهي تتوسع بوسيلة الجهاد. 

4- الحريات وحقوق الإنسان. 

إن الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم، في صياغة موادها وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض، فقد كانت موادها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها يقول الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا: «ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور في جملتها معمولاً بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم... وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دوَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم ». 

فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن، إلخ، فحرية الدين مكفولة: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم» قال تعالى: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة: 256]. وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة. 

إن الدولة الإسلامية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس، وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه. 

أما مبدأ المساواة؛ فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة حولها، منها: «أن ذمة الله واحدة» وأن المسلمين «يجير عليهم أدناهم» وأن «بعضهم موالي بعض دون الناس» ومعنى الفقرة الأخير أنهم يتناصرون في السراء والضراء (المادة 15). وتضمنت المادة (19) أن «المؤمنين يبيء بعضهم علي بعض بما نال دماءهم في سبيل الله» قال السهيلي شارح السيرة في كتابه (الروض الأنف): (ومعنى قوله يُبيء هو من البواء، أي: المساواة). 

5- يتعاون المؤمنون في معاونة الذين تعرضوا لوضع مالي شديد من افتقار أو كثرة عيال، ولعل ذلك يشابه صندوق تكافل لجميع الأهالي، وخاصة في الفدية.

6- منع حدوث تجاوزات في روابط الولاء للحفاظ على الثقة والتعاون بين الجميع.

7- الجميع متعاونون في مقاومة أي معتدٍ أو آثم أو ظالم أو مفسد ولو كان ولد أحدهم، وفي ذلك سيادة للدستور والقانون تحقق من خلاله العدالة والمساواة ويتحقق الأمن والسلامة للجميع.

8- أعطى العهد امتيازاً للمؤمنين على الكافرين، يلزم عدم قتل مؤمن في كافر، ويلزم عدم نصرة كافر على مؤمن.

9- جميع المتعاهدين سواء، مكانة صغيرهم مثل مكانة كبيرهم في الحقوق والواجبات، وكلهم يدٌ واحدة وذو اعتبار واحد.

10- والمؤمنون واليهود سواء ينصر بعضهم بعضاً.

11- لا يجوز للمشركين المعاهدين في هذا العهد أن يجيروا مالاً أو نفساً لقريش، ولا يجوز القتل، وإذا وقع عدوان قتل على أحد فإن على الجميع إظهاره وجميعهم متعادلون في ذلك، وجزاء القاتل القتل إلا إذا قبل وليه العقل.

12- لا يحل لأحد ممن عاهد أن يحدث حدثاً أو يؤوي محدثاً وإذا فعل ذلك وقع عليه غضب الله ولعنته وحرمانه من الحقوق العامة.

13- من أخلّ بعهده من اليهود فإنه ظالم لنفسه وأهله وليس له على أهل هذا العهد ذمة ولا ميثاق.

14- يتحمل كل فريق مشارك في هذا العهد نصيبه في الحرب والسلم والنفقة وعليهم التعاون والمشاركة، وبينهم النصح والبر دون الإثم.

15- لا يتحمل أحد وزر غيره.

16- الالتزام بعدم إجارة قريش أو حلفائها أو من دهم يثرب. وعليهم جميعاً النصر على العدو.

17-هذا العهد لا يلغي الالتزامات السابقة له على المتعاهدين ولا يعفي ظالماً أو آثما من جزائه ومعاقبته.

18- ليس هذا العهد للحرب فقط بل للسلم أيضاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين