الكعبة الشريفة .. تاريخ وأحداث

 الحديث عن الكعبة الشريفة هو الحديث عن القداسة والعظمة، والمهابة والإيمان، وهو الحديث عن الملائكة والرسل والأنبياء، والحديث عن الكعبة هو الحديث عن التاريخ قبل أن يُكتب التاريخ، وهو الحديث عن عمارة البيت قبل أن تعمر الأرض، قال تعالى: "إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركا فيه آيات بينات مقام إبراهيم..." فهو أول البيوت عمارة في الأرض، وهو البيت المبارك والبيت الذي حوى الآيات البينات، وتقول العرب: إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وإن من أسماء الكعبة شرفها الله تعالى: البيت الحرام، قال تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد..." المائدة 97

ويقال: البيت العتيق، قال تعالى: "ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق" الحج 29

وسماه الله تعالى في سورة البقرة بالآية 125 البيت حيث قال جل وعلا: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى..."، ومن أسمائها المسجد الحرام فقد جاء في سورة المائدة قوله تعالى: "...ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان..."، والكعبة هي البيت المحرم، قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة..."، ويقال لها بكة؛ فقد ورد عن إبراهيم عليه السلام أن بكة موضع البيت (أي الأرض التي بُنيت عليها الكعبة) وأن ما حولها يسمى مكة. ويقال لها قادس ونادر والبنية وغيرها، وفي اللغة الكعبة هي الشيء المكعب، وسميت بذلك لكونها بناءً مربعا ومكعبا تقريبا.

• بناء الكعبة:

تذكر كتب التاريخ أن الكعبة بنيت اثنتي عشرة مرة عبر تاريخها الطويل من قبل هبوط سيدنا آدم عليه السلام إلى الأرض وإلى يوم الناس هذا؛ فأول من بناها الملائكة، ويقال أن قواعدها الأصلية الرئيسة والتي لا تزال قائمة عليها هي مِن وَضع الملائكة عليهم السلام، وذلك ما دل على قول الله تعالى: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" أي عرفناه مكانه ودللناه عليه في ذلك الوادي بتلك القواعد التي كانت ناهضة في وسطه بعد أن كان قد تهدم بناؤها بسبب الطوفان في عهد نوح عليه وعلى نبينا محمد الصلاة والسلام، وبقيت هكذا أرضا ناهضة بسبب تلك القواعد، كما أن قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل..." يُستشَف منه أن القواعد والأسس للبيت كانت موجودة وما قام به إبراهيم وإسماعيل إنما هو رفع البناء على تلك القواعد والله أعلم، وأما أول من بناها من البشر فهو سيدنا آدم عليه السلام.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: اختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه فقيل الملائكة، وقيل إن الله عز وجل أوحى إلى آدم عليه السلام: إذا هبطت ابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء. فهذا بناء آدم عليه السلام.

وقال علي رضي الله عنه: أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به، وكان هذا قبل خلق آدم، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الأنبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام. (1)

أما البناء الثالث وما يليه فكان بناء إبراهيم وإسماعيل، ثم العمالقة ثم جرهم، ثم قصي بن كلاب، ثم قريش، ثم عبدالله بن الزبير 65هـ ، ثم الحجاج بن يوسف الثقفي 74هـ ثم السلطان العثماني مراد الرابع 1040هـ .

• قصة إبراهيم وإسماعيل

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث مجيء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنه إسماعيل إلى مكة في حديث طويل قال فيه: "...ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال فاصنع ما أمرك به ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.

قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر (يعني المقام) فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولون: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).

وكان بناء الكعبة الذي بناه إبراهيم عليه السلام مستطيلا شاملاً للحِجر، وله بابان شرقي وغربي.

وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر –تعني الحِجر- "أمِن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليُدخلوا مَن شاؤوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض". وفي رواية قال لها: "يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم. (2)

• بناء قريش للكعبة:

وكان ذلك بعد غزو أبرهة وأصحاب الفيل للكعبة، وفي هذه المرة شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد بلغ من العمر 35 سنة، وسبب إعادة بنائها أن حريقاً كبيراً حدث فيها وذلك في أثناء محاولة تبخيرها، فكان حريقاً هائلاً أدى إلى ضعف البناء، ثم تبع ذلك مجيء سيل عظيم حطم أجزاء منها. عندها عزمت قريش على إعادة بنائها، ومن عجيب ذلك أنهم اتفقوا ألا يدخلوا في بنائها من المال إلا ما كان طيبا، وألا يكون فيما يُنفَق على بنائها مال مغصوب أو مسروق أو مهر بغي...إلخ، ولذلك قصرت بهم النفقة، فأخرجوا من جهة الحجر ثلاثة أمتار تقريبا لم يدخلوها في البناء، ومن مميزات هذا البناء أنهم رفعوا الباب عن مستوى المطاف ليُدخلوا الكعبة مَن أرادوا، وسُدَّ الباب الخلفي المقابل لهذا الباب حيث كان الزائر للكعبة سابقا يدخل من هذا الباب ويخرج من الآخر، وسقفوا الكعبة ولم تكن مسقوفة قبل ذلك، وجعلوا له ميزابا يسكب مياه الأمطار في الحطيم، ورفعوا بناء الكعبة بمقدار الضعف تقريبا فأصبح ارتفاع الجدار أكثر من ثمانية أمتار بعد أن كان أربعة. ولما أرادت قريش أن ترفع الحجر الأسود لتضعه في مكانه اختصمت بطون قريش فيما بينها فيمن يرفع الحجر ويحظى بهذا الشرف، حتى كادت تقع بينهم الحرب، ثم اصطلحوا على أن يحكم بينهم أول رجل يطلع عليهم من هذا الباب وقيل إنه باب الصفا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مَن خرج، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر الأسود في كساء ثم يرفعه زعماء القبائل؛ فرفعوه إلى مكانه ثم ارتقى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فوضعه في مكانه بيده الشريفة، فكان من بركته صلى الله عليه وسلم أن حل بذلك المشكلة التي كادت تسبب حروبا بين بطون قريش، وكان له في الوقت نفسه شرف وضع الحجر في موضعه المعروف.

  • عبدالله بن الزبير وبناء الكعبة:

نظرًا لما أصاب الكعبة من أضرار أثناء حصار جيش يزيد بن معاوية لمكة بقيادة الحصين بن النمير ورميه الكعبة بالمنجنيق قام عبد الله بن الزبير بعد أن بويع خليفة على المسلمين سنة 54هـ بإعادة بنائها على قواعد النبي إبراهيم عليه السلام، لما كان قد سمعه من خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حديثا يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قريشا نقصوا من بناء الكعبة لأن أموالهم قصرت بهم، ولولا حداثة قريش بالإسلام لأعاد بناءها وجعل لها بابين ليُدخل من أحدهما ويُخرج من الآخر، فأعاد عبدالله بن الزبير بناء الكعبة على هذا النحو وزاد في بنائها لتكون على قواعد البناء القديم في عهد إبراهيم وجعل لها بابين ليدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، وكان ارتفاعها سبعة وعشرين ذراعا وعرض جدرانها ذراعان، كما زاد مع إعادة هذا البناء توسعة المسجد الحرام فضاعف مساحته.

  • بناء الحجاج بن يوسف الثقفي للكعبة في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان:

لما أتم الحجاج بن يوسف الثقفي السيطرة على مكة والتخلص من عبدالله بن الزبير رضي الله عنه؛ كتب إلى الخليفة عبدالملك بن مروان أن الزبير قد زاد في البيت ما ليس فيه، وقد أحدث فيه باباً آخر، فكتب إليه عبدالملك: "سد بابها الغربي، واهدم ما زاد فيها من الحجر" وذلك لعدم علمه بحديث عائشة رضي الله عنها.

فهدم الحجاج منها ستة أذرع وبناها على أساس قريش وسد الباب الغربي وسد ما تحت عتبة الباب الشرقي لارتفاعه أربعة أذرع، ووضع مصراعان يغلقان الباب. وبهذا يكون الحجاج قد أزال كل التغييرات التي أحدثها بن الزبير وعاد بالكعبة مساحة وصفة إلى ما كانت عليه يوم بنتها قريش في الجاهلية.

 • بناء الوليد بن عبدالملك سنة 91هـ للكعبة:

داهم البيت الحرام زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك سيل عظيم جارف أصابه وما حوله بأضرار بالغة، فأعاد بناءها وزاد في مساحة المسجد. ويرى كثير من المؤرخين أن الوليد بن عبدالملك هو أول من استعمل الأعمدة الرخامية التي جُلبت من مصر والشام في بناء المسجد الحرام. وكان عمله عملا محكَما، وقد سقفه بالساج، وجعل على رؤوس الأساطين الذهب، وأزٌر المسجد من داخله بالرخام، وشيد الشرفات ليستظل بها المصلون من حرارة الشمس. وقُدرت تلك الزيادة بـ 2805 متر مربع تقريباً.

 • بناء السلطان العثماني أحمد الأول للكعبة:

بدت في عهد السلطان العثماني أحمد الأول تصدعات في جدران الكعبة وكذلك في جدار الحجر، وكان من رأي السلطان هدمها وإعادة بنائها من جديد، ولكن علماء السلطنة منعوه من ذلك، فأشار عليه المهندسون بدلا من ذلك بعمل نطاقين من النحاس الأصفر المطلي بالذهب واحد علوي وآخر سفلي. ورغم ذلك لم تصمد الكعبة طويلا وتهدمت جدرانها عقب أمطار غزيرة شهدتها مكة المكرمة في شعبان سنة 1039هـ الموافق إبريل 1630م، تحولت إلى سيل عظيم دخل المسجد الحرام وبلغ منتصفها من الداخل، ومات بسببه خلق كثير، وسقطت درجة السطح. وإثر هذا الخراب الكبير أمر السلطان مراد الرابع بتجديدها.

 • تجديد الكعبة في عهد السلطان مراد الرابع سنة 1040هـ الموافق 1630م.

كان هذا التجديد على أيدي مهندسين مهرة مصريين، وهذا البناء هو البناء الأخير للكعبة، وهو البناء الذي ما يزال ماثلا إلى اليوم، يطاف به ويصلى إليه. وكل ما حدث بعد ذلك كان ترميمات وإصلاحات فقط.

ويحسن هنا في هذا المقال أن نشير إلى أجزاء هامة، وأركان خاصة في بناء الكعبة، فكثيرا ما تُذكر أو نسمع عنها ولا ندري ما هي عدا المشهور المعروف منها:

1. الحجر الأسود وقد وردت في أصله أحاديث تبين أنه من الجنة وأن جبريل جاء به إلى إبراهيم عليهما السلام وهو يبني البيت ، وقال ابن حجر في فتح الباري: وقد وردت فيه – يعني الحجر الأسود – أحاديث ذكر منها حديث ابن عباس مرفوعاً: نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم. وأخرجه الترمذي وصححه. وهو حجر بيضوي الشكل أسود اللون ضارب إلى الحمرة ، موجود في الركن الجنوبي الشرقي من الكعبة.

2. باب الكعبة: وكان يصنع من الفضة، ويزين بكتابات عربية قرآنية، وربما طلي بالذهب. وفي العهد السعودي تم تركيب بابين : الأول في عهد الملك عبد العزيز آل سعود عام 1363 هـ والثاني في عهد الملك خالد بن عبد العزيز عام 1398 هـ وهو مصنوع من الذهب الخالص.

3. الميزاب ( مزراب ) : هو الجزء المثبت على سطح الكعبة في الجهة الشمالية ، وهو مصرف للمياه المجتمعة على سطح الكعبة. والميزاب الموجود في الكعبة المشرفة إلى العصر الحاضر هو الميزاب الذي عمله السلطان عبد المجيد في القسطنطينية وركب سنة 1276هـ.

4. الشاذروان: وهو ما ترك من حجر أساس البيت الحرام خارجاً ويسمى تأزيراً. لأنه كالإزار للأساس.

5. حجر إسماعيل: ويقال الحطيم ، وهو حائط مستدير على شكل نصف دائرة يقع شمال الكعبة، يحيط بالمنطقة التي تركتها قريش من الكعبة يوم بنتها في الجاهلية كما أشرنا سابقاً.

6. الملتزم : هو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة ومقداره نحو مترين، وهو موضع إجابة الدعاء كما جاء في الأحاديث النبوية

7. مقام إبراهيم : هو ذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء الكعبة المشرفة لما ارتفع البناء. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وكانت آثار قدميه ما تزال ظاهرة فيه ، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها ، ولهذا قال أبوطالب في قصيدته المعروفة باللامية : وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة **** على قدميه حافياً غير ناعل

وعن أنس بن مالك قال : رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم. ومما يحسن ذكره عند الحديث عن المقام أن نذكر أنه كان ملصقاً بالبيت حيث تركه إبراهيم عليه السلام عند تمام البناء. أما مكانه المعروف اليوم فهو إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك. وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرأي رآه، حتى يتمكن المصلون من الصلاة خلفه بعيداً عن مزاحمة الطائفين ، وأقره عليه من حضره من الصحابة، ثم أخر مرة أخرى وحفظ في صندوق من الزجاج في التوسعة السعودية الجديدة. 

8. الركن الشرقي: هو الركن الذي يكون بجوار باب الكعبة ويقابل بئر زمزم تقريباً، مثبت فيه الحجر الأسود. 

9. الركن اليماني: هو ركن يلي الركن الغربي حسب جهة حركة الطواف، وهو الركن الموازي لركن الحجر الأسود.

10. الركن الشامي : هو ركن يلي الركن الشمالي حسب جهة الحركة في الطواف ، ويقع على الجانب الغربي من حجر إسماعيل.

11. الركن العراقي : هو ركن يلي الركن الشرقي حسب جهة الحركة في الطواف ، يقع على الجانب الشرقي من حجر إسماعيل.

12. كسوة الكعبة : هي قطعة من الحرير المنقوش عليها آيات من القرآن الكريم تكسى بها الكعبة. وزعموا أن تبعاً الثالث أحد ملوك اليمن هو أول من كسا البيت ـ وأوصى به ولاته من جرهم ، وهو الذي جعل له باباً ومفتاحاً.

13. شريط الرخام : خط من الرخام يمتد أمام الحجر الأسود كان يستدل به على بداية ونهاية الطواف وقد تمت إزالته الآن منعاً لتدافع الناس وللازدحام ، واستعيض عنه بمصابيح خضر رفعت في جدار الرواق المقابل للحجر الأسود.

ومن تمام حديث الكعبة ( المفتاح ):

• للكعبة مفتاح يودع عند بني شيبة من قبيلة قريش الذين لهم سدانة الكعبة ، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ هذا الحق لهم يوم فتح مكة.

 قصة مؤلمة:

إن من أشد وأقسى وأمر وأفظع ما مر بالمسلمين وبالبيت الحرام والكعبة الشريفة عبر التاريخ هو استيلاء القرامطة عليها وغدرهم بالحجاج وأهل البيت ، وسرقة الحجر الأسود ، وذلك في يوم التروية من موسم الحج لسنة ( 317 ) هـ ، فبعد أن التأم جمع الحجيج وكانت الكعبة أشد ما تكون ازدحاماً ومهابة وتعظيماً، خرج عليهم القرمطي أبو طاهر – لعنه الله – في جماعته ، والناس بلباس الإحرام، فهتك أمن البيت وحرمته ، وانتهب أموالهم ، واستباح قتالهم فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة خلقاً كثيراً من الحجاج ، ثم جلس على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله ، والدماء تسيل وهو مشرف عليهم ويقول عبارته القبيحة: " أنا الله وبالله أنا ، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا " – لعنه الله – فكان الناس يفرون من أصحابه ويتعلقون بأستار الكعبة ، فلا ينفعهم ذلك شيئاً بل يقتلون وهم كذلك. فلما تم له ما أراد من الجرائم والأعمال القبيحة ، أمر بدفن القتلى في بئر زمزم ، وفي ساحات المسجد الحرام ، وهدم قبة زمزم ، وقلع باب الكعبة ، ونزع الكسوة وشقها ومزقها بين أصحابه، ونزع ميزاب الكعبة ثم أكمل تلك الأعمال الشنيعة بفعلة لا تزال في سوئها وشناعتها دليلاً على سوء نيته وطويته وطوية هذه الطائفة الباطنية الملحدة المنتسبة إلى ( حمدان قرمط )، فعمد إلى الحجر الأسود فاقتلعه وأخذه معه إلى بلادهم فمكث عندهم اثنتين وعشرين سنة، وكان عند اقتلاعه يقول مستهزئاً – لعنه الله – : "أين الطير الأبابيل وأين الحجارة من سجيل " ورغم المحاولات الكثيرة لاسترداد الحجر سواء بالإغراء أو الترهيب فإنها لم تغن شيئاً، ولم يُعِد الحجر إلى مكانه إلا بعد أن كتب المهدي الفاطمي إليه يأمر برده لأنه بفعلته هذه سلط الناس على طائفتهم وكشف باطنهم وكشف كفرهم وإلحادهم وحقدهم على الإسلام. فرد الحجر بعد ذلك إلى مكة المكرمة وكان ذلك في ذي القعدة من عام تسع وثلاثين وثلاثمائة هجرية . 

والناظر في حال المسلمين في تلك الحقبة يجد أنهم كانوا متفرقين مختلفين متناحرين، في كل بلدة ملك وسلطان ورئيس وقائد، اختلفوا فيما بينهم ، واستعان بعضهم على بعض بأعدائهم ، فحتى الخلفاء كانوا ألعوبة بيد الوزراء والسفهاء، فنزلت بهم تلك المصيبة العظيمة ، وألم بهم هذا الخطب الجسيم وبأقدس مقدساتهم وأطهر أرضهم. فما أحرى الأمة في هذا الزمان أن تلتفت إلى وحدة الصف، وجمع الكلمة ، وترك التنابز والاحتراب والاختلاف، فإن حالنا اليوم بتلك الحال شبيهة ، والطريق إلى الهاوية قريب إن لم نتدارك أمرنا، ونجمع شملنا ونلتقي على كلمة سواء، ترضي ربنا وتنهض بها أمتنا. 

وختاماً: خراب البيت الحرام:

إن بقاء الحياة على هذه الأرض مرتهن ومرتبط ببقاء البيت الحرام. فإن زالت الكعبة من الأرض ، فقد دنت النهاية واقتربت الساعة ، وذلك لأن الكعبة المشرفة في الأرض هي رمز التوحيد ، ورمز العبودية لله تعالى في الأرض، ومنار العدالة والأخوة والمساواة، وهو الحمى الذي يلجأ إليه كل خائف ومظلوم ومضطهد، وكذا كل عابد وطائع وراغب في الدار الآخرة وبما عند الله تعالى ، قال تعالى مخاطباً إبراهيم عليه السلام : "وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود " وقال : " ومن دخله كان آمنا " ، فإذا ذهبت هذه البنية ، فإن الحياة عندئذ لابد منتهية. روى البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة." (3) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً." (4) وعنده أيضاً عن شعبة قال : "لا تقوم الساعة حتى لا يُحَج البيت." (5) .

فإذا انقطع التوحيد ، قامت الساعة حينئذ على شرار الخلق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 =========

1- قصة البيت الحرام د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم الخرعان صـ12-13 بتصرف

2-رواه البخاري وغيره (فتح الباري) الجزء الثالث صـ514

3- صحيح البخاري حديث رقم 1591

4-صحيح البخاري حديث رقم 1595

5-صحيح البخاري، جزء من حديث رقم 1592

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين