توثيق نسبة الصحيح إلى صاحبه(2)

نسخة الفربري

(سلسلة مقالات تتعلق بتوثيق نسبة صحيح البخاري إلى مؤلفه، ومدى قيمة نسخة الفربري، وشرح أحاديث مشكلة من الصحيح)

قالوا: ما فائدة رواية كتب الحديث؟

قلت: لها فوائد كثيرة إذا تم تلقيها قراءة على الشيوخ أو سماعا منهم، ومن تلك الفوائد ضبط الكلمات، واستيعاب معاني المفردات، واستشراح الحديث، والتعلم من أخلاق شيوخ الحديث وطلبته الذين طبقوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم في حياتهم وتأدبوا بآدابه واهتدوا بهديه، وأدناها الاتصال الإسنادي بأصحاب تلك الكتب، ومن طريقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعم الفائدة الأخيرة الذين أخذوها بالإجازة وحدها دون القراءة والسماع؟

قالوا: وهل تعتمد نسبة هذه الكتب إلى أصحابها على هذه الرواية؟

قلت: لا تعتمد عليها، ولكن الرواية تزيدها إحكاما وتوثيقا.

قالوا: ما أشهر روايات صحيح البخاري؟

قلت: هي روايات المحدث الثقة أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري (ت 320هـ)، والإمام الحافظ الفقيه القاضي أبي إسحاق إبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي (ت 295هـ)، والإمام المحدث الصدوق أبي محمد حماد بن شاكر النسوي (ت 311هـ)، والشيخ المسند أبي طلحة منصور بن محمد بن علي البزدوي (ت 319هـ)، والإمام القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي (ت 330هـ).

قالوا: أخبرنا عن الفربري من هو؟

قلت: هو راوي الجامع الصحيح عن البخاري، سمعه منه بفربر مرتين. قال: سمعت الجامع في سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة أخرى سنة اثنتين وخمسين ومائتين. حدث عنه: الفقيه أبو زيد المروزي، والحافظ أبو علي بن السكن، وأبو الهيثم الكشميهني، وأبو محمد بن حمويه السرخسي، ومحمد بن عمر بن شبويه، وأبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي، وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، وإسماعيل بن حاجب الكشاني، ومحمد بن محمد بن يوسف الجرجاني وآخرون.

قالوا: من عدَّله؟

قلت: خفي على كثير من الناس في عصرنا معنى التعديل، يظنون أن التعديل مقصور على تعديل شخص وتزكيته لفظا، وهو جهل بحقيقة الأمر وتنكب عن عُرف أهل هذا الشأن، اعلموا أن الرواة نوعان: الأول غير المشهورين منهم، فيحتاج إلى تعديلهم وتزكيتهم لرفع جهالة أعيانهم وجهالة أحوالهم وترقيتهم إلى مرتبة العدول المزكَّين، والثاني الأعلام المشهورون فلا يحتاج إلى رفع جهالة أعيانهم لأنهم معروفون، ولكن قد يحتاج إلى تعديلهم وتزكيتهم لا سيما إذا اختلف المعدلون والمزكون فيهم، ولا عبرة باختلاف غيرهم، وإذا وثق الحفاظ بهم واعتمدوا على روايتهم من دون طعن فيهم، فهو أكبر من التعديل لفظا، ولم يزل الناس منذ القديم يروون الصحيح عن الفربري معتمدين عليه، ومحيلين على أحاديثه محتجين بها، ويترجمون له ناعتين إياه براوي الصحيح، وممن دأب على ذلك الرواة عنه ثم الرواة عنهم من غير طعن فيه، وهم أئمة أعلام عليهم مدار الحديث النبوي الشريف، وذكر الفربريَّ الدارقطني (ت 385هـ) في المؤتلف والمختلف له في مادة فربر وقال: منها محمد بن يوسف بن مطر الفربري الراوي لكتاب الصحيح عن محمد بن إسماعيل البخاري، واعتمد على روايته الخطيب البغدادي (ت 463) وأخرج أحاديث كثيرة من طريقه في كتبه، وقال ابن ماكولا (ت 475هـ) في مادة الفربري: أما الفربري فجماعة منهم محمد بن يوسف بن مطر الفربري، حدث بالجامع الصحيح عن البخاري، وتتابع على الوثوق بروايته والإحالة عليه الأئمة الحفاظ ابن نقطة، وابن عساكر، والسمعاني، والمزي، والذهبي ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقول أبي بكر السمعاني (ت 510هـ) في أماليه: كان ثقة ورعا" ليس إلا كشفا عن هذ المعنى وتأييدا لذلك الوثوق والاعتماد.

قالوا: أخبرنا بمدى صحة نسخة الفربري وهل هي كاملة؟

قلت: نسخة الفربري من أوثق النسخ، انتسخه من أصل البخاري، وسمعه منه مرتين كما سبق، وروايته أتم الروايات، وما فيه من بياض فقد تبع فيه الإمام البخاري نفسه، وكان قد ترك في نسخته بياضات ولم يزل يعدل ويزيد وينقص فيها وينقح ويراجع ما يكتبه حتى وفاته، فرواية الفربري وغيره للصحيح تعكس نسخة الإمام البخاري نفسه لكتابه، ولما مات البخاري انقطعت إمكانية التعديل والزيادة، واستغنى النساخ عن البياضات. ومن عناية الفربري بالصحيح أنه راجع النسخة التي عند أبي جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري، فانتفع بها، ومن الاستفادات التي اقتبسها الفربري من ابن أبي حاتم في كتاب المناسك: قال محمد بن يوسف الفربري: وجدت في كتاب أبي جعفر قال أبوعبد الله: الزبيربن عدي كوفي، والزبير بن عربي بصري، وفي كتاب المظالم: قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر قال أبوعبد الله تفسيره أن ينزع منه يريد الإيمان..

وفي مقدمة فتح الباري: قال الشيخ محيي الدين نفع الله به: ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب أرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيرا من الأبواب عن إسناد الحديث واقتصر فيه على قوله: "فيه فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم" أو نحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد، وقد يورده معلقا، وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسئلة التي ترجم لها وأشار إلى الحديث لكونه معلوما، وقد يكون مما تقدم وربما تقدم قريبا، ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة، وفي بعضها ما فيه حديث واحد، وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله، وبعضها لا شيء فيه البتة، وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدا وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه، ومن ثمة وقع من بعض من نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب فأشكل فهمه على الناظر فيه، وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في أسماء رجال البخاري فقال: أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي، قال: حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشمهينى ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث، قال الباجى: وإنما أوردت هذا هنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها وتكلفهم من ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ انتهى. قلت (القائل ابن حجر): وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضع قليلة جدا.

قالوا: ما نسخة الصدفي؟

قلت: هي نسخة الحافظ أبي علي الصدفي (ت 514هـ) في جلد واحد مدموج لا نقط به أصلا على عادة الصدفي، مبنية على نسخة بخط محمد بن علي بن محمود مقروءة على أبي ذر رحمه الله وعليها خطه، وكان الفراغ من نسخها يوم الجمعة 21 محرم عام ثمانية وخمسمائة، وبالهامش منها كثرة اختلاف الروايات والرمز إليها، وفي آخرها سماع القاضي عياض وغيره من الشيخ بخطه، وفي أولها كتابة بخط ابن جماعة، والحافظ الدمياطي، وابن العطار، والسخاوي قائلا: هذا الأصل هو الذي ظفر به شيخنا ابن حجر العسقلاني وبنى عليه شرحه الفتح، واعتمد عليه، لأنه طيف به في مشارق الأرض ومغاربها: الحرمين، ومصر، والشام والعراق، والمغرب، فكان الأولى بالاعتبار. 

قالوا: وما نسخة نسخة ابن سعادة؟.

قلت: هي نسخة الحافظ ابن سعادة الأندلسي (ت 566هـ)، سمع أبا علي الصدفي واختص به، وأخذ عنه، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق، وأمهات كتبه الصحاح. وقد قابل ابن سعادة نسخته من الصحيح على نسخة الحافظ الصدفي.

قالوا: وما النسخة اليونينية؟

قلت: تعد نسخة الإمام الحافظ، محدث الشام شرف الدين أبي الحسين علي بن أحمد بن عبد الله بن عيسى اليونيني المعروف بالبعلي، الحنبلي (ت701هـ)، من أحسن النسخ وأدقها، قال الذهبي، استنسخ صحيح البخاري وحرره، حدثني أنه قابله في سنة واحدة وأسمعه إحدى عشرة مرة, وقد ضبط رواية الجامع الصحيح، وقابل أصله الموقوف بمدرسة آقبغا آص بسويقة العزي خارج باب زويلة من القاهرة المعزية، بأصل مسموع على الحافظ أبي ذر الهروي، وبأصل مسموع على الأصيلي، وبأصل الحافظ مؤرخ الشام أبي القاسم ابن عساكر، وبأصل مسموع عن أبي الوقت، وذلك بحضرة الإمام اللغوي النحوي جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله ابن مالك الطائي الجياني الشافعي (ت672هـ)، صاحب الألفية في النحو، وقد حرر الإمام اليونيني نسخته أحسن تحرير، وكان ابن مالك حضر المقابلة، وكان إذا مر بلفظ يتراءى له أنه مخالف لقوانين العربية، قال لليونيني: هل الرواية فيه كذلك؟ فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب إمكانه، وقد طبعت هذه الطبعة في مصر، وهي المعروفة بالطبعة الأميرية.

قالوا: هل تقوم فروع اليونينية مقام الأصل؟

قلت: نعم، وكذلك كل فرع إذا تمت مقابلته بأصل معروف صار أصلا، وهكذا تم نسخ الكتب في البلدان كلها وفي العصور كلها: فروع عن أصل، ثم فروع عن تلك الفروع، وجاز الاعتماد عليها إذا كان الفرع مقابلا بأصل معتمد عليه، وقد تحدث اختلافات بين الفروع، وهو عمل طبيعي في الجهود البشرية.

قالوا: أخبرنا عن نوع الاختلاف بين النسخ.

قلت: إن الحفاظ اعتنوا بصحيح البخاري ونسخه ومقابلته مع الأصول اعتناء منقطع النظير مع بيان الفروق والاختلافات بين النسخ، وعامة الاختلافات في الكلمات التي لا تؤثر في المعنى، وفي طرق الأداء وتفاصيل أنساب الرواة، وبعض الأبواب والتراجم، وهذه الاختلافات لا تمس بشيء من صحة أحاديث الصحيح وفقه البخاري، وقد ذكر الحافظ اليونيني أن الاختلافات وقعت في التراجم، والأحاديث، والكلمات. وقال أيضا: وربما وقع الخلاف في حرف واحد من الكلمة، مثل أن يكون في اصل سماعي (فقال) وفي غيره (وقال) بالواو، وبالعكس....

وهذا مقال مختصر لايسعني فيه بين أنواع الاختلاف، فمن أراده فليراجع كتاب تقييد المهمل وتمييز المشكل للحافظ أبي علي الجياني، والطبعة الأميرية للنسخة اليونينية، والتي قام بطباعتها الأستاذ زهير ناصر، كما قد بين كثيرا من الاختلافات وعللها الحافظ ابن حجر في شرحه، وعمله في غاية البراعة والإتقان دال على تقدمه في هذا الشأن، لأنه كان قد وقف على توجيهات العلماء الذين تكلموا في هذا الشأن، ووقف على طائفة من نسخ الصحيح المعتبرة، ذات القيمة العلمية الكبيرة مما لم يستطع غيره الوقوف عليها، وامتاز باطلاعه على أشهر الروايات للجامع الصحيح، وقراءتها بتدبر وتأن عظيم، ومقارنته لها، وحرصه على النسخ الموثقة التي اطلع عليها الحفاظ، وقراءاته للشروح المختلفة للجامع الصحيح، واستعراضه للمستخرجات والأجزاء الحديثية الكثيرة، وملخص القول أن شرحه لا غنى عنه لمن أراد الوقوف على كنوز صحيح البخاري، والتبحر في الحديث وعلومه، فجزاه الله تعالى وسائر أئمة الإسلام خيرا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين