فقه السيرة (29)

الحلقة التاسعة والعشرون : من دعائم دولة الرسول في المدينة

الدعامة الثانية : بناء المسجد الأعظم بالمدينة .

كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدنيا. 

روى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكباً راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمن في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل» ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما. 

وفي رواية أنس بن مالك: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل وقبور المشركين، وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون:

اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة الآخرة 

فاغفر للأنصار والمهاجرة

شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، وضرب أول معول في حفر الأساس الذي كان عمقه ثلاث أذرع، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة، والجدران، التي لم تزد عن قامة الرجل إلا قليلاً، باللبن الذي يعجن بالتراب ويسوى على شكل أحجار صالحة للبناء وفي الناحية الشمالية منه أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل، كانت تسمى «الصفة» أما باقي أجزاء المسجد فقد تركت مكشوفة بلا غطاء. 

أما أبواب المسجد فكانت ثلاثة: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبية، وباب في الجهة الشرقية كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له باب الرحمة أو باب عاتكة. 

استغرق عمران المسجد وحجرات رسول الله ? سبعة أشهر ورسول الله ? يسكن في دار أبي أيوب الأنصاري، ثم نقل سكنه إلى حجرتي سَوْدة بنت زمعة وعائشة زوجتا رسول الله ?، ومن ثم بنيت باقي الحجرات تباعاً

ومما يلفت الانتباه في هذا العمل العظيم لم يقم على أرض مستملكة ولا مستولى عليها على الرغم من أن جميع المسلمين في المدينة وفي مقدمتهم بنو النجار أصحاب المربد قد وضعوه تحت تصرف النبي صلى الله عليه وسلم لكنه 

أصر على دفع الثمن اذ لا يقوم العمل في الاسلام على باطل مهما كان السبب او الحاجة فللنظر في عظمة هذا النهج النبوي لنقوم أعمالنا ومسالكنا المادية والمعنوية على نهج النبي صلى الله عليه وسلم أسوتنا وقدوتنا.

التربية بالقدوة العملية

من الحقائق الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من المسلمين لا يطلب إلا ثواب الله فقد كانت مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاص بعلمية البناء كاملة، فقد دهش المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد علته غبرة، فتقدم أسيد بن حضير ? ليحمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطنيه؟ فقال: «اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني» فقد سمع المسلمون ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، فازدادوا نشاطا واندفاعا في العمل. 

إنه مشهد فريد من نوعه ولا مثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمون على المشاركة أحياناً بالعمل لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف ووسائل الإعلام كلها بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين، ويبين له أنه أفقر إلى الله تعالى، وأحرص على ثوابه منه. 

وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء وأنشدوا هذا البيت: 

لئن قعدنا والنبي يعمل 

لذاك منا العمل المضلل

إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة، ولا من خلال الكلام المنمق، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب، والقدوة المصطفاة من رب العالمين، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبني وكأنما غدا هذا الجميع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً، وقلباً واحداً، فمضى يهتف: 

اللهم إن العيش عيش الآخرة 

فانصر الأنصار والمهاجرة

ويهتف بلحن واحد: 

لئن قعدنا والنبي يعمل 

لذاك منا العمل المضلل

وكان الهتاف الثالث: 

هذي الحمال لا حمال خيبر 

هذا أبر لربنا وأطهر

فأحمال التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كانت لها مكانتها في المجتمع اليثربي أصبحت لا تذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم، فقد أيقنوا: ( مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ ) [النحل: 96]. 

وأما الهتاف الرابع: 

لا يستوي من يعمر المساجدا 

بدأب فيه قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائدا

الاهتمام بالخبرة والاختصاص

أخرج الإمام أحمد عن طلق بن علي اليمامي الحنفي، قال بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسيساً» وأخرج الإمام أحمد عن طلق أيضاً، قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد وكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين» وأخرج ابن حبان عن طلق فقال: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال: «لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به». 

فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوافد الجديد على المدينة، والذي لم يكن من المسلمين الأوائل، ووظف خبرته في خلط الطين، وفي قوة العمل، وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات والاستفادة منها، وإرشاد نبوي كريم في كيفية التعامل معها وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق. 

إن نظرة دقيقة لبناء المسجد النبوي يتبين لنا ما يلي:

1- كان بناء المسجد أول عمل في قباء وكذلك كان بناء مسجد المدينة أول عمل لرسول الله، في المدينة

2- وكان موقعه يتوسط المدينة المنورة ليتحول بعد قليل إلى مركز النشاط العام العمراني والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والسياسي والعسكري وليكون هذا العمل سنة للمسلمين بعد ذلك حيث يبدؤون عمران قراهم ومدنهم ببناء المسجد وليكون مركز النشاط فيها

3- بساطة المسجد من حيث الأسس التقنية والمواد الأولية، وفي الوقت ذاته كان معهد إعداد الرجال وبناء المجتمع من جميع جوانبه بناء حضارياً سامياً، فقد كان دارَ عبادةٍ، ومجلسَ شورى، ومعهدَ علم وتعليم وتربية، ومجلسَ ضيافة وحوارات مع الوفود القادمة إلى رسول الله ? ، ومأوى للمهاجرين، ومصنعاً للبطولة، وحبسَ الأسرى، ومجلسَ دعوةٍ إلى اللهِ. إلى غير ذلك من المهمات الجليلة .

4- وإذا كان رسول الله ? القدوة والمثل الأعلى في بنائه ووضع أساسه وتحديد قبلته، فهو في نفس الوقت القدوة والمثل الأعلى للمسلمين في القول والعمل والسلوك يرسم أمامهم بالمثل الأعلى الممكن بشرياً، فكان الصحابة من حوله يتعلمون ويتأدبون ويعملون وتَزْكوا نفوسهم.

5- وكان بناء حجراته وسُكناه بجوار المسجد، وبابهُ مشرع إليه، يجعله وسط المجتمع الجديد، قريب من الجميع، يسهل لقاؤه بهم ومشورتُه لهم وتعاونهم وتضافرهم حوله ومعه، وبه، فكانوا كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً.

6- وعندما ازدادت المدينة اتساعاً وكثر سكانها وصار من العسير على الأطفال الوصول إلى المسجد أمر رسول الله ? ببناء المساجد في الأحياء لتلبية حاجاتهم العبادية والتعليمية والتربوية، والمسجد النبوي مسجدهم الجامع يلتقون فيه ويتلقون مهماتهم من رسول الله ?

7- وكان المسلمون يستنيرون ليلاً بإشعال سعف النخل في مؤخرة المسجد إلى أن جاء تميم الداري بالسراج ينير به المسجد ليلاً، مما ساعد على اتساع المجال للاستفادة من المسجد النبوي.

8-كان دور المسجد أول عمل إيجابي نحو إقامة الدولة في الإسلام، فكان الجامعة التجريبية التي تأخذ على عاتقها مهمة تحويل القيم والمبادئ الإسلامية إلى سلوك واقعي . 

9-وقد حلَّ محل السقائف التي كانت مجالس القبائل في المدينة كسقيفة بني ساعدة وسقيفة الريان في منازل بني بياضة ، والتي كانت القبائل تلتقي إليها تمارس فيها الزعامة والثقافة والمشورة ...إلخ.

وحل بالتالي فكر الإسلام وثقافته تدريجياً محل الثقافة والفكر الوثني والكتابي المُشوَّه وصار بين الناس: ثقافة الإيمان، وحب العمل، وطلب العلم، و(اتق النار ولو بشق تمره) و(ليقل أحدكم خيراً أو ليصمت) و (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروف أو إصلاح بين الناس) ولهذا كله: غاب عن الساحة الفكرية والثقافية السحرُ والكهانةُ والتنجيمُ، وبدأ يتلاشى فكر العصبية القبلية والتفاخر بالأنساب وانحصر كل ذلك في بطائن المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب، وأخذت تظهر بين الحين والحين منهم، يلتمسون بذلك تمزيق الأمة وتشويه فكرها وتغيير مسارها.

10-إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه. 

قال تعالى: ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) [التوبة: 108]. 

قال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ ? رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ? لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [النور: 36-38]. 

11- المسجد رمز لشمولية الإسلام ، حيث أنشئ ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين وذكرهم الله تعالى وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته ولا يضاره أحد، ما دام حافظاً لقداسته ومؤدياًّ حق حرمته». 

ب- كما «أنشئ ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه والوافدين عليه، طلباً للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته». 

ج- وهو قد أنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية، التي حث القرآن الكريم على النظر فيها، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهدا يؤمه طلاب العلم من كل صوب، ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل. 

د- وهو قد أنشئ ليجد فيه الغريب مأوى، وابن السبيل مستقراً لا تكدره منَّة أحد عليه فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جذب القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها» 

وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ الإسلامي». 

هـ- وهو «قد أنشئ ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد، والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة. 

و- وهو «قد أنشئ ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله صلى الله عليه وسلم من عبادتهم، والنظر في أحوالهم والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديراً لفضلهم. 

ز- وهو «قد أنشئ ليكون مبرداً لبريد الإسلام منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون. 

ح- وهو «قد أنشئ ليكون مرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها ولا سيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية، الذين تمتوا في الشرك فلم يتركوه، ليحذر المجتمع المسلم عاقبة كيدهم وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغبة غدرهم وخياناتهم». 

فالمسجد النبوي «بدأ بتأسيسه وبنائه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ من عمل في مستقره ودار هجرته في مطلع مقدمه ليكون نموذجا يحتذى به في بساطة المظهر، وعمق وعموم المخبر، ليحقق به أعظم الأهداف وأعمها، بأقل النفقات وأيسر المشقات». 

بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم التابعة للمسجد

وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم حُجَر حول مسجده الشريف، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخارفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد، وكانت صغيرة الفناء قصيرة البناء ينالها الغلام الفارع بيده، قال الحسن البصري- وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: «قد كنت أنال أول سقف في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي»، وهكذا كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم في غاية البساطة، بينما كانت المدينة تشتهر بالحصون العالية التي كان يتخذها علية القوم تباهيا بها في السلم واتقاءً بها في الحرب، وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء كما كان حصن عبد الله بن أبي ابن سلول اسمه مزاحماً، وكما كان حصن حسان بن ثابت اسمه فارعاً. 

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع، وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصورًا شاهقة، ولو أنه أشار إلى رغبته بذلك- مجرد إشارة- لسارع الأنصار في بنائها له، كما كان بإمكانه أن يشيدها من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ليضرب لأمته مثلاً رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا، وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد الموت. 

الأذان في المدينة.

تشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لإيجاد عمل ينبه النائم ويذكر الساهي، ويعلم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة، فقال بعضهم: ترفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترضوا على هذا الرأي؛ لأنها لا تفيد النائم، ولا الغافل، وقال آخرون نشعل ناراً على مرتفع من الهضاب، فلم يقبل هذا الرأي أيضاً. وأشار آخرون ببوق، وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم، فكرهه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم، وأشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس، وهو ما يستعمله النصارى، فكرهه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، وأشار فريق بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فَقُيل هذا الرأي. وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الأنصاري، فبينما هو بين النائم واليقظان، إذ عرض له شخص، وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال بلى: فقال له: قل: الله أكبر، مرتين، وتشهد مرتين، ثم قل: حي علي الصلاة مرتين، ثم قل: حي على الفلاح مرتين، ثم كبر مرتين: ثم قل: لا إله إلا الله. فلما استيقظ توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر رؤياه فقال: «إنها لرؤيا حق» ثم قال له: «لقن بلالاً فإنه أندى صوتاً منك»، وبينما بلال يؤذن للصلاة بهذا الأذان جاء عمر بن الخطاب يجر رداءه فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله. وكان بلال بن رباح أحد مؤذنيه بالمدينة، والآخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكان يؤذن في البداءة من مكان مرتفع ثم استحدث المنارة (المئذنة). 

أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنه قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: 

«أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دون: ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قُدامه فلا يرى غير جنهم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته». 

ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال:

«إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا من أحبه الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله؛ يختار ويصطفي قد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله، إن الله يغضب إن نكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين