حدث في السادس والعشرين من المحرم: الوزير أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي

في السادس والعشرين من المحرم من سنة 291 ولد بالبصرة الوزير المهلبي، أبو محمد الحسن بن محمد الأزدي المهلبي، وزير معز الدولة ابن بويه، وأحد رجال العالم حزماً ودهاءً، وكرماً وشهامة، وأدباً وشعراً، أطلنا في ترجمته، وما استوفينا، ترويحاً من وطأة هذا الوقت الكالح، الولود بالمقابح، العقيم بمن يستحق المدائح.

وقد ألّف الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ كتاباً في أخباره، وحقَّ له ذلك.

والمهلبيُّ نسبة إلى المهلَّب بن أبي صُفرة، ولا تفيدنا المصادر كثيراً عن والده وعن نشأته وطلبه العلم والأدب، ولكنها تُجمع أنه في نشأ في فقر شديد وضيق عتيد، حتى إنه في نوبة من نوبات الفقر، وكان في سفر لقي فيه مشقة بالغة واشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً:

ألا موتٌ يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من العيش الكريه

إذا أبصرتُ قبراً من بعيد ... وددتُ لوَ انني ممَّا يليه

ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدَّق بالوفاة على أخيه

وكان معه رفيق يقال له: أبو عبد الله الصوفي، فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً وطبخه وأطعمه، ثم تفارقا وتنقلت بالمهلبي الأحوال حتى تولى الوزارة، وبلغ ذلك أبا عبد الله الصوفي، وكان يعاني من الإقتار وضيق العيش، فقصد الوزير وكتب إليه:

ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقالة مُذكِر ما قد نسيه

أتذكر إذ تقول لضنك عيش ... " ألا موت يباع فأشتريه "

فلما وقف الوزير على الأبيات تذكره وهزته أريحيَّة الكرم، فأمر له في الحال بسبعمئة درهم ووقع في رقعته قوله تعالى في سورة البقرة ?مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?، ثم دعا به فخلع عليه وقلده عملاً يرتفق به.

وفي سنة 339، كان الوزير المهلبي في الثامنة والأربعين عندما جعله وزيره معز الدولة البويهي، أبو الحسين أحمد بن بويه، المولود سنة 303 والمتوفى سنة 355، وكان قبل ذلك قد أمضى قرابة 4 سنوات مع الخليفة العباسي المطيع لله، الفضل بن جعفر، المولود سنة 301 والمتوفى سنة 364، والذي تولى الخلافة سنة 334، يدبِّر له أمر الوزارة من غير تسمية بوزارة، وهو في ذات الوقت يعمل في ديوان معزّ الدولة نائباً لوزيره أبي جعفر محمد بن أحمد الصيمري، فعرف أحوال الدولة والدواوين، فلما توفي الصيمري استوزره معز الدولة، ولتعيينه قصة لطيفة يستحسن إيرادها.

تمرَّد عمران بن شاهين على معز الدولة في منطقة البطائح واستفحل أمره، فأرسل له في سنة 339 جيشاً بقيادة وزيره محمد بن أحمد الصيمري، فاستناب الصيمريُّ المهلبيَّ بحضور معز الدولة ، فرأى فيه ما يريده من الأمانة والكفاية والمعرفة بمصالح الدولة وحسن السيرة، فقبِلَه معز الدولة ومال إليه، وبلغ الصيمري ذلك فثقل عليه، فتطلب للمهلبي الذنوب، وأطلق فيه لسانه بالوقيعة والتهدد، وبلغ ذلك المهلبي، فقلق واستشعر النكبة والهلَكة، لأنه لم يطمع أن يحميه معز الدولة، وبينا المهلبي في ذلك إذ جاء الحمام الزاجل بوفاة الصيمري محموماً وهو في الحصار، فجلس المهلبي له في العزاء، وأظهر له الحزن الشديد ولزم منزله، فاستدعاه معز الدولة وكلفه بتسيير الأمور إلى أن يعين الوزير الجديد.

وترشح للوزارة جماعة، وبذلوا الهدايا، وضمنوا الأموال، ووسَّط أبو علي الحسن بن محمد الطبري لينال الوزارة والدة معز الدولة، فطلب منه معز الدولة بذل مئتي ألف درهمٍ عاجلةً على سبيل الهدية، فحمل منها مئة وثمانين ألف درهمٍ وقال: قد بقي بقية يسيرة إذا ظهر أمري حملتها، فقال معز الدولة: لا أفعل إلا بعد استيفاء المال. فعلم الطبري أنه خُدع، وندم على ما حمله.

واجتمعت الحاشية في مجلس معز الدولة في 27 من جمادى الأولى من سنة 339، وبينهم خاطبو الوزارة وكلٌّ منهم يعتقد أنه المختار، ووقفوا كلٌّ حسب مرتبته، ودخل المهلبي بعدهم وقام في أخرياتهم، فلما تكامل الناس أسرَّ معز الدولة إلى أبي علي الحسن بن إبراهيم الخازن قولاً لم يُسمع، فمشى إلى المهلبي وقبَّل يده، وخاطبه بالأستاذيَّة، وحمله إلى الخزانة فخلع عليه القباء والسيف والمنطقة، ثم جُددت له الخلع من دار الخلافة بالسواد والسيف والمنطقة، فدبر الأمور للسلطان والخليفة أحسن تدبير ولقبوه ذا الوزارتين، ولما ولي الوزارة وانفرجت أمور معيشته قال:

رقَّ الزمانُ لفاقتي ... ورثى لطول تحرقي

فأنالني ما أرتجيه ... وحاد عما أتقي

فلأصفحن عما أتاه من الذنوب السُّبق

حتى جنايته بما ... صنع المشيب بمفرقي!

وقبل أن نعيش مع الوزير في مسيرة حياته، ينبغي أن نشير أن نجم بني بويه بدأ في الصعود سنة 322 حين استقلَّ علي بن بويه عن قائده مرداويج الديلمي، وهاجم محمدَ بن ياقوت أميرَ فارس وهزمه، فأقرَّه الخليفة الراضي على ملك فارس، ثم استولى معز الدولة البويهي سنة 333 على واسط والبصرة والأهواز، ثم على بغداد سنة 334 وخلع الخليفة المستكفي بالله ونصب مكانه الأمير الفضل بن المقتدر ولقبوه المطيع بالله.

وكانت الخلافة العباسية في أضعف أيامها، فالقرامطة الذين مضى على حركتهم قرابة 50 سنة كانوا لا يزالون يصولون ويجولون في جنوبي العراق، والأمراء الأقوياء ينافسون بني بويه على العراق، فكان الحمدانيون في الشمال يطمعون أن يدحروا البويهيين ويحكموا هم العراق، وناظرُ الأهواز أبو الحسين علي بن محمد البريدي في الجنوب يهاجم بغداد عسى أن يصبح ملك البلاد.

وهزم معزُّ الدولة البريديَّ الذي أدركته المنية سنة 333، وتصالح سنة 335 مع بني حمدان في شمال العراق وسورية، فخلا له حكم العراق إلا من القرامطة، وكانت لصاحب عُمان يوسف بن وجيه مطامع في الاستيلاء على البصرة، وكان قد هاجمها سنة 332 أيام كانت في يد البريدي الذي هزمه ودحَره، فانتهز صاحب عمان فرصة نزاع معز الدولة مع القرامطة، ودعاهم للتعاون معه في الاستيلاء على البصرة، وجاء في سنة 340 ليأخذها في مراكب كثيرة، وجاء لنصره القرامطة فأرسل معز الدولة الوزير المهلبي بالجيوش فصده عنها، وأسر جماعة من أصحابه وسبا سبيا كثيرا من مراكبه، فساقها معه في دجلة، ودخل بها إلى بغداد في أبهة عظيمة.

قال ابن المقفع: ما صاحبُ السلطان إلا كصاحب الحيَّة التي تصاحبه في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. وهذا ما جرى للوزير المهلبي سنة 341، فقد أمر معز الدولة بضربه 150 عصاً، وأمره أن يلزم داره، وإن لم يعزله من وزارته، ثم رضي عنه.

وكان سبب ذلك أن معز الدولة بنى قصراً بباب الشماسية خارج بغداد وألحق به إصطبلات وميداناً كبيراً، وقدر لذلك ألوف ألوف الدراهم، وزادت النفقة على التقدير أضعافاً، وكان يطالب وزيره أبا محمد المهلبي بتوجيه وجوه الأموال لذلك، مع قصور الدخل عن الخرج، فيلقى منه عنتاً، ثم كلَّفه تولي البناء بنفسه فكان يشرف عليه مع أعوانه.

فوسوس بعض أصحاب معز الدولة إليه أنَّ أعوان الوزير يختلسون من المال ويبنون بنفقة خفيفة، وأوقفه على موضع ضعيف الإحكام انقلعت منه لبنة وهو جديد، فاغتاظ معز الدولة وكان شديد الحدة، مع سلامة في الباطن، فإذا انقضت سوْرة غضبه، يندم على فعله، فأحضر الوزير، وواقفه على ما رآه، فأخذ يناقشه، فزاد غيظ معز الدولة وأمر به، فبُطح وضرب، ثم قال: اخنقوه، فجعل في عنقه حبل، وأمسكه ركابيون فوق السور، ليشيلوه، فيخنق. وبادر القواد والأتراك وخواص معز الدولة، فقبَّلوا الأرض بين يديه، وسألوه الصفح عنه، فأنزله وأطلقه، ومضى الوزير إلى داره كالميت، وأظهر قلة احتفال بذلك، لئلا يشمت أعداؤه، ويطمعوا في صرفه، وتمثل لأصحابه فيما جرى بهذا البيت:

فإنَّ أميرَ المؤمنين وفعلَه ... لكالدهر؛ لا عارٌ بما صنع الدهر

وفي سنة 345 خرج أحد قادة الجيش ويدعى روزبهان الديلمي على معز الدولة، رغم أنه كان مقرَّباً له مكرماً لشأنه، فأرسل إليه جيشاً على رأسه الوزير المهلبي، فلما تقارب الجيشان انضمَّ كثير من الديلم من جيش المهلبي إلى روزبهان، فانحاز الوزير بمن معه حتى جاءه المدد بقيادة معز الدولة الذي قاتل روزبهان قتالاً عنيفاً منهكاً، وانتصر عليه بعد أن كان أدنى إلى الكسرة، وأسر روزبهان وقوَّاده، وعاد بهم إلى بغداد، ثم أمر بتغريق روزبهان. ولما ظهر من إخلاص الوزير المهلبي زاد معز الدولة في إقطاعه وعظم قدره عنده.

كان الوزير المهلبي على فضله ومروءته صارماً حازماً في الأوقات التي تتطلب الشدة، وقد حدث في سنة 350 أن ثارت لسبب تافه فتنة في بغداد بين العلوية والعباسيين، ودخل العامة بين الفريقين، واتَّسع الأمر إلى ما احتيج معه إلى إقامة جنود الديلم في الأحياء لضبط الأمن، وأغلق العباسيون باب المسجد الجامع بالمدينة، ومنعوا من صلاة الجمعة، وزادوا في إشعال النائرة.

ودبر الوزير الأمر بأن قبض على جماعة من وجوه العباسيين وكثير من المستورين والعيَّارين، وأدخل فيهم عدة قضاة وشهود وصلحاء عباسيين، ثم جلس لهم وأحضرهم وناظرهم، وعرض عليهم أن يسموا له العيَّارين وحملة السكاكين ليقتصر على أخذهم، ويفرج عن الباقين، وأن يضمن أهلُ الصلاح منهم أهلَ الريبة، ويأخذوا على أيديهم أخذاً يحسم به مواد الفتنة.

فأخذ القاضي أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي يقول قولاً سديداً لطيفاً في دفع ذلك واستعطاف أبي محمد المهلبي وترقيقه والرفق به وتسكينه، واعترض الخطاب أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي، وكان معروفاً بالوقاحة والجرأة على السلطان، وقال قولاً فيه بعض الجفاء والغلظة، فقال له أبو محمد: يا ماص كذا وكذا، ما تدع جهلك وتبسطك، ولا تخرج هذه الخيوط من رأسك، كأني لا أعرفك قديماً وحديثاً؟! أعرف حمقك وحمق أبيك وتدرعك في مجالس الوزراء وإيثارك أن تقول: قال الوزير وقلت! ولعلك تُقدِّر أن المقتدر بالله على السرير، وأنني أحد وزرائه، ليس ذاك كذلك، السلطان اليوم الأمير معز الدولة الذي يرى سفك دمك قربة إلى الله تعالى وينزلك منزلة الكلب! يا غلمان برجله. فجُرَّ برجله وأُخرج من المجلس، ثم قال: طبقوا عليه زورقاً وانفوه إلى عمان. فقبّلت الجماعة يده وسألته الصفح عنه، وراسله الخليفة المطيع لله في أمره عدة مرات حتى رضي أن يتركه، وألزمه بيته، وأخذ خطوط العباسيين بجميع ما كان سامهم إياه وامتنعوا منه، وقبض من بعد على جماعة كثيرة من أحداث العباسيين وأهل العيارة والدعارة منهم ومن العامة، وجعلهم في زواريق مطبقة مسمرة، فزالت الفتنة وانحسمت.

كان بنو بويه يتشيَّعون، وكان الوزير المهلبي وزير دولتهم الأول، ولكن تشيُّع تلك الفترة لم يكن كتشيُّع اليوم، وقد كانت سياسة بني بويه ألا يثيروا أهل السنة عليهم مع ميلهم إلى الشيعة، ولذا كانت يد الوزير غير مقيدة في التصرف بما فيه مصلحة الدولة حتى في هذه الأمور، وفي سنة 340 رُفع إلى الوزير أن رجلاً يعرف بالبصري مات ببغداد، وهو مقدم القراقرية، الذين يقولون بالتناسخ، يدَّعي أن روح أبي جعفر محمد بن علي بن أبي القراقر قد حلت فيه، وأنه خلف مالاً كثيراً كان يجيبه من هذه الطائفة، وأن له أصحاباً يعتقدون ربوبيته، وأن أرواح الأنبياء والصدِّيقين حلَّت فيهم، فأمر بالختم على التركة، والقبض على أصحابه، والذي قام بأمرهم بعده، فلم يجد إلا مالاً يسيراً، ورأى دفاتر فيها أشياء من مذاهبهم.

وكان فيهم غلام شاب يدَّعي أن روح علي بن أبي طالب حلَّت فيه، وامرأة يقال لها فاطمة تدَّعي أن روح فاطمة حلَّت فيها، وخادم لبني بسطام يدَّعي أنه ميكائيل، فأمر بهم المهلبي فضربوا ونالهم مكروه، ثم إنهم لما أدركوا الهلاك ادعوا أنهم من الشيعة، وخاف المهلبي إن هو قتلهم أن ينسب إلى معاداة الشيعة، فسكت عنهم، ولكنه صادر اموالهم وسماها أموال الزنادقة.

وفي سنة 351 قامت جماعة من الشيعة في بغداد وكتبوا على أبواب المساجد: لعنَ معاوية، ولعنَ من غصب فاطمة حقّها من فدك، ولعنَ من أخرج العباس من الشورى، ولعنَ من نفى أبا ذر. فمحاه أهل السنة في الليل، فاشتكى الشيعة إلى معزّ الدولة، فأمر بإعادته، فأشار عليه الوزير المهلَّبي، أن يكتب: ألا لعنة الله على الظالمين لآل محمد، ولعنَ معاوية فقط. فأخذ بمشورته واقتصر على ذلك.

وفي جانب محاسن الوزير المهلبي تذكر بعض المصادر أنه كان على صلة بأبي حيان التوحيدي، علي بن محمد، المولود سنة والمتوفى بعد سنة 400، وأنه لما تبيَّن له سوء عقيدته وزندقته وتستُّره بالنفاق طلبه الوزير ليعاقبه، فهرب منه ومات في الاستتار. وهذا أمر مستبعد لأن أبا حيان توفي بعد وفاة الوزير بقرابة خمسين سنة، فكيف يبقى في الاستتار كل هذه السنين؟ ولعل الأصح أنه نفاه عن بغداد كما ورد في بعض المصادر.

كان الوزير المهلبي أديباً من الطراز الأول ووزيراً حكيماً مدبِّراً، وسرياً واسعَ الصدر كامل المروءة، واجتمع في مجلسه ثلة من كبار أدباء العصر وشعرائه، يلقون منه كل رفد وإكرام، وكثيرٌ منهم لهم رواتب راتبة من الوزير، فكان حوله من الشعراء السري الرّفاء، السري بن أحمد، المتوفى بعد 360، وأبو عثمان الخالدي، سعيد بن هاشم الموصلي، والطاهر الجزري، شداد بن إبراهيم، ومن الأدباء أبو الفرج الأصبهاني، علي بن الحسين المولود سنة 284 والمتوفى سنة 356، ومن النحاة أبو سعيد السيرافي.

وفي مجلس الوزير المهلبي التقى أبو الطيب المتنبي مع أبي علي الحاتمي، محمد بن الحسن المتوفى سنة 388، في مناظرة نقدية أدبية، كان الحاتمي فيها بالمرصاد للمتنبي، أبان فيها عن كثير من عوار شعره، وسقطات لسانه، ووصلتنا في كتابه العظيم: "الموْضِحة في إظهار سرقات المتنبي وعيوب شعره وحمقه وتيهه"!

وكان المؤرخ الحكيم مسكويه، أحمد بن محمد، المولود سنة 330 والمتوفى سنة 421، قد اتصل بالوزير سنة 348 وبقي في خدمته، مقرباً إليه، بمثابة كاتم لأسراره، وأحد ندمائه وسماره، حتى وفاته فعاد إلى الريّ، وكان أبو إسحاق الصابي، إبراهيم بن هلال الحراني، المولود سنة 313 والمتوفى سنة 384، ينوب عنه في ديوان الإنشاء وأمور الوزارة، وكان المهلبي لا يرى الدنيا إلا به، ويحنُّ إلى براعته، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه، ولما توفي والده هلال، جاءه الوزير معزياً، وقال لأبي إسحاق: ما مات من كنت له خَلَفاً، ولا فُقِدَ من كنت منه عِوَضاً، ولقد قررت عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه إلى مكانك بعد وفاته.

وكان للوزير المهلبي مجموعة صغيرة من النُّدماء من كبار السنّ من عِلية القوم، يجتمعون عنده ليلتين في الأسبوع فيخلعون ثوب الوقار ويتباسطون ويتمازحون، فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاة، وحشمة المشايخ والكبراء، منهم القاضي التنوخي، علي بن محمد المولود بأنطاكية سنة 278 والمتوفى ببغداد سنة 342، وهو والد القاضي المحسن صاحب كتابي "الفرج بعد الشدة" و"نشوار المحاضرة" ، المولود سنة 327 والمتوفى سنة 384، وهو في كتابيه هذين يروى كثيراً من أخبار الوزير التي سمعها والتي شاهدها، ومنهم القاضي الظريف، ابن قريعة، محمد بن عبد الرحمن، قاضي السندية ببغداد والمتوفى سنة 367، وكان إحدى عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع ما يسأل عنه، في أفصح لفظ وأملح سجَع، وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له الأسئلة الهزلية ليجيب عنها، فيكتب الجواب من غير توقف، سئل مرة في مجلس الوزير: ما حدود القفا؟ فأجاب في الوقت: ما داعبك فيه إخوانك، وشَرَطَك فيه حجَّامُك، وأدبَّك فيه سلطانك، واشتمل عليه جُرُبانك. فقيل: ما حد الصفع؟ قال: الرفع والوضع للضر والنفع. الجربان: كلمة فارسية تعني الخرقة العريضة التي فوق القب تستر القفا.

ومن مداعبات الوزير مع أهل الأدب أن أبا الحسن العلاف الشاعر، كان أكولاً نهماً، فدخل يوما على الوزير، فأنفذ الوزير من أخذ حماره الذي كان يركبه من غلامه، وأدخل المطبخ وذبح وطبخ لحمه بماء وملح، وقدم بين يديه، فأكله كله وهو يظن أنه لحم بقر، فلما خرج طلب الحمار، قيل له: قد أكلته! وعوّضه الوزير عنه ووصله.

قال إبراهيم بن هلال: كان أبو محمد المهلبي يناصف العِشرة أوقات خلوته، ويبسطنا في المزح إلى أبعد غاية، فإذا جلس للعمل كان امرأ وقوراً، ومهيباً ومحذوراً، آخذاً في الجد الذي لا يتخونه نقص، ولا يتداخله ضعف.

قال عمر بن سورين: آخر من شاهدنا ممن عرف الاصطناع، واستحلى الصنائع، وارتاح للذكر الطيب، واهتز للمديح، وطرب على نغمة السائل، واغتنم خلة المحتاج، وانتهب الكرم انتهاباً، والتهب في عشق الثناء التهاباً، أبو محمد المهلبي، فإنه قدم قوماً ونوَّه بهم، ونبَّه على فضلهم وأحوج الناظرين في أمر الملك إليهم، وإلى كفايتهم، وكان يقول: والله لأكوننَّ في دولة الديلم، أول من يذكر، إن فاتني أن كنت في دولة بني العباس آخر من يذكر.

وجرت لأبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني، قصة مع الوزير تدل على أخلاق كل منهما، كان للوزير مائدة عامرة يأكل عليها هو ومن جاءه من العامَّة والخاصَّة، وكان الوزير إذا باشر الطعام وقف إلى جانبه الأيمن غلام، معه نحو ثلاثين ملعقة من الزجاج، فيأخذ الملعقة من الغلام الذي على يمينه، ويأكل بها لقمة واحدة، ويدفعها إلى الذي على يساره؛ لئلا يعيد الملعقة إلى فيه مرتين. وكان أبو الفرج الأصبهاني وسخاً في ثوبه ونفسه وفعله؛ فكان يوماً يأكل على مائدة الوزير فوافقت من أبي الفرج سعلة، فبدرت من فمه قطعة بلغم، سقطت في وسط الصحن، فقال الوزير: ارفعوا هذا، وهاتوا من هذا اللون في غير هذا الصحن. ولم يبن في وجهه إنكار، ولا داخل أبا الفرج حياءٌ ولا انقباضٌ، ثم لما كثر على الوزير استمرار ما يجري من أبي الفرج جعل له مائدتين إحداهما كبيرة عامَّة، والأخرى لطيفة خاصَّة، يؤاكله عليها من يدعوه إليها. وقد مدح أبو الفرج الوزير فقال:

ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان وما عنَّى، ومَنَّ وما مَنَّى

وردنا عليه مُقتِرين فرَاشَنا ... ورِدْنا نداه مجدبين فأخصبَنا

وأنفذ الوزير المهلبي مرة رسالة إلى الشاعر الطاهر الجزري يدعوه إليه، فاتفق أن كان الطاهر قد غسل ثيابه، فاعتذر إليه فلم يقبل، وألحَّ في استدعائه، فكتب إليه الطاهر:

عبدُك تحت الحبل عُريان ... كأنه - لا كان - شيطان

يغسل أثواباً كأن البِلى ... فيها خليطٌ وهي أوطان

أرقَّ من ديني وإن كان لي ... دينٌ كما للناس أديان

كأنها حالي من قبل أن ... يصبح عندي لك إحسان

يقول من يبصرني معرضاً ... فيها وللأقوال برهان

هذا الذي قد نَسجَت فوقه ... عناكبُ الحيطان: إنسان

فأنفذ إليه جبةً وقميصاً وعمامةً وسراويل وخمسمئة درهم، وقال: أنفذت إليك ما تلبسه، ولا تدفعه إلى الخياط، فإن كنت غسلت التكة واللالِكة؛ عرفني لأنفذ لك عوضهما.

وكان الوزير المهلبي، رحمه الله، من بقايا الكرام، وكان يقول: كرم الكريم يستر عليه ما تكشفه النوائب من سوءاته. وقال ابن سمعون عنه: إبراهيمي الجود، وإسماعيلي الصدق، شعيبي التوفيق، محمدي الخلق.

ولا يتسع المجال لإيراد قصص جوده الذي شمل القريب والبعيد والعامة والخاصة، ونورد منها قصة مع العامة حدَّث بها القاضي أبو بكر بن عبد الرحمن بن خزيمة قال: كنت مع الوزير المهلبي بالأهواز، فاتفق أن حضرتُ عنده في يومٍ من شهر رمضان، والزمان صائف والحر شديد، ونحن في خيشٍ بارد، فسمع صوت رجلٍ ينادي على الناطف فقال: أما تسمع أيها القاضي صوت هذا البائس في مثل هذا الوقت، والشمس على رأسه، وحرها تحت قدميه، ونحن نقاسي في مكاننا هذا البارد ما نقاسيه من الحر؟ وأمر بإحضاره فأحضر، فرآه شيخاً ضعيفاً عليه قميص رث وهو بغير سراويل وفي رجله تاسومة مخلقة، وعلى رأسه مئزر، ومعه نبيخة فيها ناطف لا تساوي خمسة دراهم، فقال له: ألم يكن لك أيها الشيخ في طرفي النهار مندوحة عن مثل هذا الوقت؟ فتنفس الرجل وقال: ما أهون على الراقد سهر الساهد! وقال:

ما كنتُ بائعَ ناطفٍ فيما مضى ... لكن قضت لي ذاك أسباب القضا

وإذا المعيل تعذرت طلباته ... رام المعاش ولو على جمر الغضا

فقال له الوزير: أراك متأدباً، فمن أين لك ذلك؟ فقال: إني أيها الوزير من أهل بيت لم يكن فيهم من صناعته ما ترى. وأسرَّ إليه أنه من ولد معن بن زائدة، فأعطاه مئة دينار وخمسة أثواب، وجعل ذلك رسماً له في كل سنة.

أما كرمه مع الخاصة، فننقل قصته عند وفاة ابن حاجب النعمان، أبي الحسن عبد العزيز بن إبراهيم، وكان من كبار كتَّاب ذلك الزمان، وإليه ينسب كتاب "ذخيرة الكُتّاب"، الذي هو بمثابة دليل للوزراء في إدارة أمورهم، وتوفي إثر سقوطه من شرفة في بيت الوزير، قال القاضي التنوخي في "نشوار المحاضرة": ولقد شاهدت له مجلساً كأنه من مجالس البرامكة، ما شهدت مثله قط قبله ولا بعده، وذلك أن كاتبه على ديوان السواد، أبا الحسن ابن حاجب النعمان، سقط من روشن في دار الوزير على دجلة، فمات في اليوم الثامن من ذلك.

فجزع عليه أبو محمد، وجاء من غد إلى أولاده، لأنهم كانوا دفنوه عشياً، وكنت معه فيمن حضر، وقد أعدُّوا له دَستاً يجلس فيه، فلما دخل عدل عنه ولم يجلس فيه، فعزاهم بأعذب لسان، وأحسن بيان، ووعدهم الإحسان، وقال: أنا أبوكم، وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه. ثم قال لابنه الأكبر: قد ولَّيتك موضع أبيك، ووردت إليك عمله، ووليت أخاك الحسين، وكان هذا صبياً سنه إذ ذاك عشر سنين أو نحوها، كتبة حضرة ابني أبي الغنائم، وأجريت عليه كذا وكذا - رزقاً كثيراً، وقد ذهب عني - فليلزمه، فإن سنيهما متقاربة، ليتعلم بتعلمه، وينشأ بنشأته، فيجب حقه عليه. ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت، خليفته على الوزارة: اكتب عهداً لأبي عبد الله، واستدع كل من كان أبو الحسين رحمه الله، مستأجِراً منه شيئاً، فخاطبه في تجديد الإجارة للورثة، فإنَّ أكثر نعمته، إنما كانت دخالات وإجارات ومزارعات، وقد انحلت الآن بموته، ومن امتنع فزده من مالي، واسأله، ولا تقنع إلا بتجديد العقد كيفما جرت الحال.

ثم قال لأبي المكارم بن ورقاء، وكان سلف الميت: إن ذيل أبي الحسن طويل، وقد كنت أعلم أنه يجري على أخواته وأولادهن وأقاربه شيئاً كثيراً في كل شهر، وهؤلاء الآن يهلكون بموته، ولا حصة لهم في إرثه، فقم إلى ابنة أبي محمد المادرائي - يعني زوجة المتوفى - فعزِّها عني، واكتب عنها جريدة بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسن يجري عليهم وعلى غيرهن، من الرجال وضعفاء حاشيته. وقال لأبي العلاء: إذا جاءك بالجريدة، فأطلقها عاجلاً لشهر، وتقدم بإطلاقها على الإدرار. فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسراً في الشهر، وعُملت في المجلس وأطلق مالها وامتثل جميع ما رسم به أبو محمد.

فلم يبق أحد إلا بكى رقة واستحساناً لذلك، ولقد رأيت أبا عبد الله محمد بن الحسن الداعي العلوي رحمه الله، ذلك اليوم، وكان حاضراً المجلس، وقد أُجهِش بالبكاء، وأسرف في شكر أبي محمد وتقريظه، على سوء رأيه في أبي محمد، ولكن الفضل بهره، فلم يمنعه ما بينهما أن نطق بالحق. ثم نهض أبو محمد رحمه الله، فارتفعت الضجة من النساء والرجال، وأهل الدار والشارع، بالدعاء له والشكر.

كان الوزير المهلبي أديباً مترسلاً بليغاً وشاعراً مُجيداً، رقيق الشعر مبتكر المعاني، ومن شعره:

أراني الله وجهك كل يوم ... صباحا للتيمن والسرور

وأمتع ناظري بصفحتيه ... لأقرا الحسن من تلك السطور

ومن شعره الرقيق قوله:

قال لي من أحب والبينُ قد جدَّ وفي مهجتي لهيب الحريق

ما الذي في الطريق تصنع بعدي؟ ... قلت: أبكي عليك طول الطريق

كلما سرتُ في فراقكَ ميلاً ... مالَ من مهجتي إليكَ فريقُ

وكان لمعز الدولة مملوك تركي في غاية الجمال، يدعى تكين الجامدار، وكان شديد المحبة له، فبعث سرية لمحاربة بعض بني حمدان وجعل تكين مقدمها، فقال الوزير المهلبي:

طفل يرق الماء في ... وجناته ويرف عوده

ويكاد من شبه العذارى فيه أن تبدو نهوده

ناطوا بمعقد خصره ... سيفاً ومنطقة تؤوده

جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده!

وكذلك كان، فإن الكرة كانت عليهم، وعادوا مهزومين مكسورين.

ومن محاسن قوله في الزهد:

يا من يُسرُّ بلذة الدنيا ... ويظنها خُلقت لما يهوى

لا تكذبن فإنما خُلِقت ... لينال زاهدُها بها الأخرى

وما كان نثر الوزير المهلبي بأقل من شعره، وكان ترسُّله لآلئ مسموطة، ودُرراً مصقولة، تغلب عليه الحكمة والتأسي بجوامع الكلم، ومن أقواله:

من تعرَّض للمصاعب، تثَّبت للمصائب.

القلب لا يُملَكُ بالمخاتلة، ولا يُدرَكُ بالمجادلة.

لا تُبدِ وجهَ المطابق الموافق، وتخفي نظر المسارق المنافق.

ومن أقواله التي تقارن بين الوظيفة وبين تركها: التصرف أسنى وأعلى، والتعطُّل أعفى وأصفى.

ومن أقواله التي تظهر حرصه على الشورى: لو لم يكن في تهجين الرأي المفرد، وتبين عجز التدبير الأوحد، إلا أن الاستلقاح وهو أصل كل شيء لا يكون إلا بين اثنين، وأكثرُ الطيبات أقسامٌ تجمع، وأصنافٌ تؤلف، لكفى بذلك ناهياً عن الاستبداد، وآمراً بالاستمداد.

وكان أبو عثمان الخالدي، سعيد بن هاشم الموصلي، قد أقام في بغداد مدة منقطعاً للوزير ينادمه، فلما توفي رجع إلى الموصل، وأرسل له الخالدي مرة قصيدة، فكتب إليه الوزير: وصلت القصيدة، وأعجبتني براعة حسنها، مع قِصَرِ رَوِيِّها، فإن الوزن القصير على الهاجس أضيق من المجال الضنك على الفارس.

وفي سنة 351 لهج معز الدولة بذكر عُمان، وحدث نفسه بأخذها، وأغراه أحد أمرائه الأصاغر، فأمر الوزير المهلبي بالخروج إليها فدافعه ووضع عليه من يزهّده فيها فلم يزدد إلا لجاجاً، فانحدر في منتصف سنة 352، وتمادت أيامه بالبصرة للتأهب والاستعداد، وامتنع الجنود من ركوب البحر، فبلغ معز الدولة ذلك، فاتهمه بأنه بعث العسكر على الشغب، فكاتبه بالجد والإنكار عليه في توقفه وإلزام المسير، ووجد أعداؤه طريقاً للطعن عليه، واغتنموا تنكر معز الدولة عليه، وأقاموا في نفسه أنه انحدر من مدينة السلام وهو لا يعتقد العود إليها، وأنه سيغلب على البصرة، وأن العسكر الذي معه والعشائر هناك على طاعة له، وعظّموا عنده أحواله، فتدوخ معز الدولة بأقاويلهم، وأجمع مستشارو السوء بنصح معز الدولة بالقبض عليه ومصادرة أمواله، فمال إلى قولهم وكتب إلى الوزير، يعفيه من الإتمام إلى عمان، ويرسم له العودة إلى بغداد، ولكن العلة كانت أسبق إلى الوزير، وتردد بين إفاقة ونكسة إلى أن وردت الكتب باليأس منه، وأنه محمول في محفة كبيرة مملوءة بالفرش الوثيرة، ومعه فيها من يخدمه ويعلله، ويتناوب في حملها جماعة من الحمالين، حتى قضى نحبه في 27 شعبان من سنة 352 وقرب واسط بين البصرة وبين بغداد.

وأرسلت رسالة على جنح الحمام الزاجل إلى بغداد بوفاته، فقام معز الدولة على الفور بوضع يده على أملاك الوزير وتوقيف أولاده وحشمه وأعوانه، قال القاضي التنوخي الابن: كنت في دار أبي الغنائم الفضل بن الوزير أبي محمد المهلبي لأهنئه بأول رمضان عند توجه أبيه إلى عمان، والناس يُرجِفون بوفاته، وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد: أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله، وأبو الفرج محمد بن العباس بن الحسين، فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضي داره التي كانت لأبيه على دجلة عند شباك على دجلة، وهو في دَست كبير عالٍ جالس وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذا ذاك صبي غير بالغ إلا أنه محصل، فلم يلبث أن جاءه أبو الفضل وأبو الفرج فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره على طرف دسته في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرك لأحدهما ولا انزعج ولا شاركاه في الدست، وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم فيساره فيمضي ويعود ويخاطبه سراً، إلى أن جاءه بعد ساعة فسارَّه فنهض، فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟ فقال: أهنئ من يجب تهنئته وأعود إليك، فكن مكانك. وكان أبو الفضل زوَّج زينة ابنة أخت أبي الغنائم من أبيه وأمه تجني، ولكنه لم يكن مثل أبي زوجته في المروءة والكرم، بل كان شديد الوطأة ظالماً عسوفاً.

فحين دخل واطمأنَّ قليلاً وقع الصراخ وتبادر الخدم والغلمان، ودُعيَ الصبيُّ، وكان يتوقع أن يرِد عليه خبر موت أبيه، لأنه كان عالماً بشدة علته، فقام فأمسكه أبو الفرج وقال: اجلس. وقبض عليه، وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجنّي أم الصبي ووكل بها خدماً، وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا معز الدولة فقد طلبك، وقد مات أبوك! فبكى الصبي وسعى إليه وعلق بدراعته وقال: يا عم، الله الله فيَّ! يكررها، فضمه أبو الفضل إليه واستعبر وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زوارقهم متَّجهين إلى معز الدولة بقصره بباب الشماسية.

قال أحد كبار الكتاب ممَّن شاهد الواقعة: ما رأيتُ مثل هذا قط ولا سمعت، لعن الله الدنيا! أليس الساعة كان هذا الغلام في الصدر معظَّماً وخليفتا أبيه بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلاً حقيراً، ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته ما لم يجر على أحد.

وقبض معز الدولة أموال الوزير المهلبي وذخائره وكل ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه، حتى مَلاَّحه ومن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، ولم يظهر للوزير المهلبي مال صامت ولا ذخيرة باطنة، رغم السَّرف في الاستقصاء على من حوله، وبان لمعز الدولة صدقه في النصيحة، وبطلان ما افتروا عليه.

ومن القصص النوادر في هذه المصادرة أن الوزير المهلبي كان قد اصطنع أبا العلاء عيسى بن الحسين بن أبرونا النصراني الكاتب، واستكتبه على خاصته، وأطلعه على أموال وذخائر دفنها، فأُخِذ أبو العلاء في جملة المأخوذين، وعوقب أشد عقوبة، وضرب أبرح ضرب، وهو لا يقر بشيء، ولا يعترف بذخيرة، فعدل المسؤولان عن المصادرة إلى زوجة الوزير تجنّي وهي أم ولده أبي الغنائم الفضل، وأمرا بضرب ابنها أبي الغنائم بين يديها، فبكى من عَرَفها من الذي يتم عليها، وقالت لهم: أحضروني أبا العلاء بن أبرونا، فأحضروه، وحُمِلَ في سَبَنَّية بين أربع فراشين، فطرح بين يديها. فجعلت تسأله عن شيء شيء، وهو يخبرها بمكانه، حتى كان في جملة ذلك ثلاثون ألف دينار. فقال له من حضر: ويلك، ألست من الآدميين؟! تُضرب هذا الضرب، ويفضي حالك إلى التلف، وأنت لا تعترف! فقال: يا سبحان الله، أكون ابن أبرونا الطبيب الفصّاد على الطريق، بدانق ونصف دانق، يأخذني الوزير أبو محمد ويصطنعني ويجعلني كاتب سره، وأُعرف بخدمته، وأُطلِعُ الناس على ذخيرة ذخرها لولده؟ والله ما كنت لأفعل هذا ولو هلكت. فاستُحسِن فعلُه، وكان ذلك سبباً لإطلاقه، وتقدم بذلك عند رجال الدولة.

وللوزير المهلبي وكأنه يرى ما سيجري بعد موته:

قضيتُ نحبي فسُرَّ قومٌ ... حمقى لهم غفلةٌ ونومُ

كأنَّ يومي علىَّ حتم ... وليس للشامتين يوم

ولما مات الوزير المهلبي رثاه ابن سكرة، محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي، المتوفى سنة 385، فقال:

لا عذَّب الله ميتاً كان ينعشني ... فقد لقيت بضُري مثل ما لاقى

طواه موتٌ طوى مني مكارمه ... فذُقت من بعده بالموت ما ذاقا

ورثاه أبو عبد الله الحسين بن الحجاج الشاعر المشهور، فقال:

يا معشر الشعراء دعوة موجع ... لا يُرتجى فرجُ السلو لديه

عزَّوا القوافي بالوزير فإنها ... تبكي دماً بعد الدموع عليه

مات الذي أمسى الثناء وراءه ... والعفو عفو الله بين يديه

هدم الزمان بموته الحصن الذي ... كنا نفر من الزمان إليه

فليعلمنَّ بنو بويه أنه ... فُجِعت به أيام آل بويه

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين