مَنْهَجِيَّةُ التَّعامُلِ مَعَ أَحادِيثِ الفِتَنِ (4)

 

موقف المسلم زمن الفتن (4)

الاستعاذة بالله من الفتن.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن))([67])، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة استعاذته عليه الصلاة والسلام من بعض الفتن على وجه الخصوص كفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات وغيرها، جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال))([68]).

الإكثار من العبادة.

إن لجوء المسلمين إلى ربهم وتقربهم إليه بكثرة العبادة من أسباب النجاة من الفتن، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((العبادة في الهرج كهجرة إليّ))([69])، قال النووي: (وسبب فضل كثرة العبادة فيه -أي الهرج- أن الناس يغفلون عنها، ولا يتفرغ لها إلَّا الأفراد)([70]).

الرجوع إلى أهل العلم.

الفتنة يحصل فيها اضطراب واختلاف حتى يصير الحليم فيها حيرانَ، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ((ما الخمر صِرفًا بأذهبَ لعقول الرجال من الفتن))([71])، فأهل العلم أقدر الناس على بيان المشتبهات وعلى تقدير المصالح والمفاسد والترجيح بينها، قال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [سورة النساء: آية 83] قال الطبري: (هم العلماء وذو الرأي والحكمة، فترد الأمور إلى أهلها من ذوي الحل والعقد من العلماء)([72]).

وإنّ من أهم محددات المواقف في الفتن مراعاة المآلات والنظر في العواقب ولو بالرجحان وغلبة الظن فضلًا عن اليقين، فقد تُستغل المواقف وتمضي الأمور إلى غير ما قُصد لها، وهذا يدركه الحذّاق والمجرِّبون.

وإن ثبات الربانيين في الفتن كان له دورٌ مهمٌّ في تثبيت الأمة وحفظ الدين، ففي موقف الإمام أحمد يوم فتنة القول بخلق القرآن أجلى مثل على ذلك، كان لموقفه رحمه الله أكبر الأثر في تثبيت الخاصة والعامة، قال علي بن المديني: (أعزّ الله الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة)([73]).

وإن من مخاطر الفتن أن يتكلم (الرويبضة) وهو الرجل التّافه يتكلم في أمر العامة كما جاء في الحديث الصحيح([74])، وكما في الحديث: ((من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر))([75]) وقد أتاحت الوسائل الإعلامية الحديثة الفرصة لهذا النوع من الناس ليدلوا برأيهم في قضايا كبرى.

وإن من مخاطر الفتن الانزلاق خلف علماء السوء، الذين يبيعون دينهم وعلمهم بعرض من الدنيا قليل، وهؤلاء أشبه الناس باليهود المغضوب عليهم؛ لأنهم عرفوا الحق وأعرضوا عنه، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: (من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى)([76]).

عدم الاندفاع والاستشراف لها وحفظ اللسان.

من واجب المسلم تجاه الفتنة أن يحفظ لسانه ويبعد نفسه عن الوقوع فيها، وحسـبـنا ما جـاء في الحديث: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به))([77]) وجاء في وصف بعض الفتن أن اللسان فيها كحد السيف كما في الحديث: ((ستكون فتنة صمّاء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقع السيف))([78]).

التحلي بالصبر والمصابرة.

قال تعالى:{وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [سورة الفرقان: آية 20] فإذا كان الصبر مطلوبًا وعواقبه محمودة في كل حين ففي زمن الفتن من باب أولى، جاء في الحديث: ((إن السعيد لَمَن جُنّب الفتن، ولَمَن ابتلي فصبر))([79]) فأعظم سلاح أيام الفتن والمحن الصبر والمصابرة.

لزوم جماعة المسلمين على العموم أو العزلة.

جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟) قَـالَ: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) قلتُ: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟) قَـالَ: ((فاعتزل تلك الفرق كلها وَلَـوْ أَنْ تعضّ بأصل شجرة حَـتَّى يدركك الموت وَأَنْـتَ على ذلك))([80])، والعزلة قد تكون بدنية أو شعورية، جزئية أو كلية، فلزوم الجماعة واجتماع الكلمة من مقاصد الشريعة الكبرى، ويترك الفاضل للمفضول لأجل اجتماع الكلمة؛ فابن مسعود أتمّ الصلاة في منى خلف عثمان مع أنه كان يروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في منى ركعتين، فلما سئل عن ذلك قال: ((يا هذا! الخلاف شر))([81]) وفي رواية: ((إني لأكره الخلاف))([82])، وقد بين الإمام الشافعي رحمه الله المقصود بلزوم الجماعة فقال: ((إن معنى لزوم الجماعة ليس باجتماع الأبدان لأنه لا يصنع شيئًا، ولكن المعنى لزوم ما عليهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما))([83]).

نسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن والحمد لله رب العالمين.

الحلقة الثالثة هــــنا

=====

([67]) أخرجه مسلم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه...، رقم (2867).

([68]) أخرجه النسائي عن أبي هريرة في كتاب الاستعاذة - باب الاستعاذة من فتنة المحيا، رقم (7948)، وأخرجه أحمد عن أبي هريرة، رقم (10778). 

([69]) أخرجه مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب العبادة في الهرج، رقم (2948).

([70]) شرح صحيح مسلم: النووي ( 18/88).

([71]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف - كتاب الفتن، (8/ 237).

([72]) تفسير الطبري ( 5/182).

([73]) تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي ( 4/418)، سير أعلام النبلاء ( 11/196).

([74]) رواه أحمد، مسند المكثرين من الصحابة - مسند أبي هريرة، رقم (7899).

([75])المعجم الكبير للطبراني، مكتبة ابن تيمية ط2 رقم (908)، جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر، دار ابن الجوزي، ط1، باب حال العلم إذا كان عند الفساق والأرذال، رقم (1051).

([76]) تفسير ابن كثير ( 4/121).

([77]) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: رواه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3406)، ورواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب نزول الفتن كمواقع القطر، رقم (2886).

([78]) أخرجه أبو داود بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الفتن والملاحم - باب كف اللسان، رقم (4264)، وبعضه مروي في الصحاح.

([79]) أخرجه أبو داود عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه في كتاب الفتن والملاحم - باب في النهي عن السعي في الفتنة، رقم (4263).

([80]) متفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: رواه البخاري في كتاب الفتن - باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، رقم (6673)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، رقم (1847).

([81]) أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن يزيد في كتاب المناسك - باب الصلاة بمنى، رقم (1960).

([82]) أخرجه البيهقي عن معاوية بن قرة في كتاب الصلاة - باب السفر الذي تقصر في مثله الصلاة، رقم (564).

([83]) الرسالة ( 475)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين