العقل في المعرفة الإسلامية...ضرورة (2)

التربية تعتمد على العقل في أساليبها:

ويسوق ابن حبان أقوالاً كثيرة عن بعض الذين تحدثوا عن فضل العقل وضرورته، فمن ذلك قول أحد الشعراء: 

وأفضل قسم الله للمرء عقله = فليس من الخيرات شيء يقاربه 

إذا أكمل الرحمن للمرء عقله = فقد كملت أخلاقه ومآربه 

يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه = على العقل يجري علمه وتجاربه 

يزيد الفتى في الناس جودة عقله = وإن كان محظوراً عليه مكاسبه

وقيل لابن المبارك: (ما خير ما أعطي الرجل؟ قال غريزة عقل، قيل: فإن لم يكن؟ قال أدب حسن، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح، يستشيره. قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل قيل: فإن لم يكن ؟ قال: موت عاقل)!

وذهب أحد الشعراء إلى القول: 

يَزينُ الفتى في الناسِ صحَّة عَقْله = وإن كان محظوراً عليه مكاسبُه 

يشين الفتى في الناس خفة عقله = وإن كرمت أعراقه ومناسبه 

ويُعقِّب ابنُ حبان على ذلك بأنَّ على المرء بناءً على هذا أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف – أشد حباً - منه بما أحيا جسده من القوت؛ لأنَّ قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحكم، فكما أنَّ الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، وكذلك العقول، إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت).

ولعل ما يشير إلى ذلك التلازم الأساسي بين العقل والشريعة، ما روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري قوله (ما تمَّ دينُ عبدٍ قط حتى يتمَّ عقلُه)، ولا غرابة في ذلك، فبالعقل يَفهم الإنسان مبادئ الدين وقواعد الشريعة، وبالعقل يَذود عنها ضدَّ الملحدين والمنكرين، وبالعقل يعقل التكاليف، وعلى تَركها يحاسب.

وذكر معاويةُ بن قرة: (إنَّ القوم ليحجُّون ويَعتمرون، ويجاهدون ويصلون، ويصومون وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم).

وإذا كان العقل بهذه الدرجة من اللزوم للشرع والدين، فإنَّ الدين أساس كذلك للعقل، ومن هنا قال حفص بن حميد الأكَّاف: (العاقل لا يُغْبن، والوَرِع لايُغبن). ويعلِّق ابن حبان على تلك العبارة بقوله: (هذه لفظة جامعة، تشتملُ على معانٍ شتى، فكما لا يَنفع الاجتهاد بغير توفيق، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا السرور بغير أمن، كذلك لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظُ بغير عمل. وكما أنَّ السرور تبع للأمن، والقرابة تبع للمودة، كذلك المروءات كلها تبع للعقل).

آفات العقل:

وكما أنَّ لكلِّ شيء آفة، فللعقل آفاته التي تُعطِّل عمله وتشلُّ قدرته، من هذه الآفات: الغم والحزن، إذ من شأن كل منهما أن ينثر ذرات رمال أمام العقل فتحول بينه وبين الرؤية الصحيحة، ولذلك قال ابن حبان: (ومن حَسُنَ عقلُه وقَبُح وجهُه، فقد أخفت فضائلَ نفسه قبائحُ وجهِه، ومن حَسُن وجهُه وقلَّ عقلُه، فقد أذهبَ محاسنَ وجهِه نقائصُ نفسه، فلا يجب للعاقل أن يغتمَّ إذا كان مُعدَماً). 

ومن آفاته الكِبْر والبلاء المُردي، والرخاء المفرط؛ لأنَّ البلايا إذا تكاثرت عليه أحلكت عقله واستنفدت قواه.

والرخاء أيضا من آفاتِ العقل، إذا تكاثر، فلربما أدَّى بصاحبه إلى البطر والكبر.

والعُجْبُ صورةٌ من صور آفات العقل القريبة من الكبر، ومن هنا كان على العاقل أن يوطِّن نفسَه على الصبر على جارِ السوء، وعشيرة السوء، وجليسِ السوء.

ومما يشين العاقل، أن يحب أن يسمى به؛ لأنَّ من عُرِف بالدهاء حذر، ومن عقل العاقل، عدم التغني بعقله، ذلك أنَّ العقل كالبذر، وإن خفي في الأرض أياماً، فإنه لابدَّ سيظهر في وقت مُعيَّن.

القتالُ بغير عُدَّة، وعدة العقل الحجَّة، ومن ثَمَّ كان الذي يخاصم بغير دليل، والذي يصارع بغير حُجَّة مضرٌّ بعقله.

تنمية العقل وتدريبه:

ولعلنا بعد هذا، نكون بحاجة إلى ذلك الجهد الإيجابي الذي يمكن عن طريقه تنمية العقل وتدريبه، حتى يستطيع أن يكون بالفعل أداة الإنسان المسلم في تربية نفسه والمساهمة في تطوير مجتمعه:

من أهم الواجبات في هذا الشأن، التريث. والتريث ضد العجلة، وهو يتبدى في ضرورة عدم الإسراع بالإجابة قبل أن يتثبَّت الإنسان مما يقوم عليه من حجِّيَّة ومن اشتمالها على الجوانب الضرورية التي يتطلَّبها السؤال.

كذلك من المهمِّ ألا يتعامل العاقل مع الآخرين بأسلوب ينضح بالاحتقار والازدراء لهم أيَّاً كان موقعهم سواء في أعلى السلم الإداري والاجتماعي أو في أسفله؛ لأنَّ من أستحقر السلطان أفسد دنياه، ومن استحقر الأتقياء أهلك دينَه، ومن استحقر الإخوان أفنى مروءته، ومن استحقر العلمَ أذهبَ صيانته.

وطريق إصلاح الخطأ، يكون بالكشف عنه حتى ولو كان هذا الخطأ لدينا نحن، ومن ثَمَّ فلابدَّ من كشف العيوب الخاصَّة ومواجهتها؛ (لأنَّ من خفي عليه عيب نفسه خفيت عليه محاسن غيره، وأن من أشد العقوبة للمرء أن يخفى عليه عيبه؛ لأنَّه ليس بمقلع عن عيبه من لم يعرفه، وليس بنائلٍ محاسن الناس من لم يعرفها). 

فكان أحد مميزات المكاشفة ومواجهة العيوب الخاصة: إتاحة الفرصة للوقوف على محاسن الآخرين.

والخبرة، هي معين التعقل الذي لا ينضب، وهناك من فلاسفة التربية المحدثين من أقام فلسفته وطرقه في التعليم كلها على (الخبرة)، وإمام هذا الاتجاه، هو الفيلسوف الأمريكي المعروف: ( جون ديوي ) المتوفى عام ????م.

واللفظ الذي يعبِّر به ابن حبان عن (الخبرة) هو (التجربة)، فهو لا يَعني بها ما تعنيه اليوم في معامل البحث وطرق التفكير العلمي، وهو يَستعين بقول المنتصر بن بلال بن المنتصر الأنصاري: 

ألم ترَ أنَّ العقلَ زينٌ لأهله = وإنَّ كمال العقل طولُ التجارب 

وقد وعظ الماضي من الدهر ذا النهى = ويزداد في أيامه بالتجارب

بل لقد استخدم ابن حبان لفظ (الخبرة) نفسه وإن جعلها وعاءً للتجارب، فقال: إنَّ المرء لا يكون مُصيباً في تناول الأشياءِ حتى تكون له خبرةٌ بالتجارب).

وهي في مسيرتها منذ الطفولة حتى الكهولة تمر بمراحل ومستويات ومراتب، والعاقل يكون حَسَن الأخذ في صغره، صحيح الاعتبار في صباه، حسن العفَّة عند إدراكه، رضي الشمائل في شبابه، ذا الرأي والحزم في كهولته).

كذلك يستخدم ابن حبان معنى آخر للخبرة، فيؤكد أنَّه (لا ينفع العقل إلا بالاستعمال)!

ومكارم الأخلاق، سمة أساسيَّة لمن أراد أن يوصف بالتعقل والحكمة، وقد حاول علي بن محمد البسامي أن يجمع عدداً هاماً من هذه المكارم في شعر جاء فيه:

إنَّ المكارمَ أبوابٌ مصنَّفةٌ = فالعقل أولها والصمت ثانيها 

والعلم ثالثها والحلم رابعها = والجود خامسها والصدق سادسها 

والصبر سابعها والشكر ثامنها = واللين تاسعها والصدق عاشرها 

ولا يعني ما أشرنا إليه من قبل من تقد ابن حبان لما شاع في عصره من التكلف في المظهر وأن ذلك علامة من علامات اللاعقلية أنه يقف ضد (المظهر الحسن)، كلا، إن نقده ينصب على ما يكون مظهره الحسن ستاراً يخفي به خفَّة في العقل وطيشاً ورياءً ونفاقاً. 

أما إذا كان الإنسان راجح العقل، نهماً للمعرفة، مقبلاً عليها كريم الأخلاق، فلابدَّ أن يكمل ذلك بأن يتزيا زياً حسناً، يجعله مَقبولاً من الناس غير منفر، يقول: (والواجب على العاقل أن يكون حسن السمت، طويل الصمت، فإنَّ ذلك من أخلاق الأنبياء، كما أنَّ سوء السمت وترك الصمت من شيم الأشقياء).

وحقا، فلقد صدق من قال: إنَّ المرء بقرينه يقرن، فنوعية الأصدقاء والزملاء المحيطين بالإنسان لها دور مهم في التأثير على تربيته وتنشئته، ومن هنا كانت استعانته (أي ابن حبان) بقول أحدهم:

(عقولنا قليلة، فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلاً منا ذهب ذلك القليل، وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلا منه فأمقته) !.

فكأن مجالسة الأميين والفارغين من الثقافة غير مطلوبة دائماً، وإن كان من الضروري ألا يعني هذا (المقاطعة) و (المخاصمة) و(التعالي) على مثل هؤلاء الناس، وإنما المقصود هو تقليل (المخالطة) و(المعاشرة)، فالفكر بحاجة إلى التحدي والإثارة، ومما يساعد الإنسان على ذلك أن يجالس من هم أكثر ثقافة منه وعقلاً، يقول أحد الثقاة: (جالسوا الألبَّاء أصدقاء كانوا أم أعداء، فإنَّ العقول تلقح العقول).

وبعد: فليست هذه هي نهاية الطريق، فلا تزال هناك علامات على الطريق، ولا تزال هناك خطوات تلو خطوات.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الحادية والخمسون، رمضان 1413 - العدد 9).

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين