حدث في التاسع عشر من المحرم: مصادرة أموال سليمان باشا العظم

في التاسع عشر من المحرم من عام 1157 ورد إلى دمشق أمر من السلطنة العثمانية إلى رسولها الخاص في دمشق بالتفتيش الشديد ومصادرة أموال والي دمشق سليمان باشا العظم الذي كان قد توفي في طبرية قبل 6 أشهر أثناء قتاله لظاهر العمر الزيداني الذي تمرد على الدولة العثمانية.

وجاءت في الخط الشريف التعليمات إلى هذا الرسول، ويسمى قبجي، أن يجمع أعيان البلد ويقرأ عليهم الفِرمان، ومضمونه بأن يفتش ويفحص على أموال الباشا، وأن يعذِّب الرجال والنساء بلا معارض حتى يقروا بالمال. ففعل ذلك وقرأ الفرمان عليهم فأجابوا بالسمع والطاعة، فأول من أتى به، ابن عم الباشا المتوفى محمد العظم وهدَّده، فحلف بالطلاق، بأن ما عنده علم، وقيل ضربه، فأقرّ على مكان، وقال: احفروا هنا، فحفروا في دار الباشا حول المدفئة، فبان عن أربع خوابي ذهب، فيهم 16.000 فرنك ذهبي.

ثم ضربوا الطواشي، فأقرّ بأنه مودع عند رجل يقال له: حسن الطرابلسي، مخلاة ملآنة ريالات، فساروا إليه فأخرج المال إليهم، ووجدوا داخل المخلاة بين المال جوهرة نفيسة لا تقدر لها قيمة، ورأوا المال ناقصاً عن ما قال الطواشي، فأمر القبجي بحبس الذي خرج من عنده المال وحبس أولاده ومن يلوذ به.

وكان القبجي من قبل قد أخرج نساء الباشا وحريمه من الدار بشدّة وغلظة، ووضعهم في الإقامة الجبريَّة، وتسمى آنذاك الترسيم، فأمر بإحضارهم فأحضروهم وصار يقررهم فأنكروا وجحدوا، فأمر بحبسهم، فحبسوا في باب البريد وشدَّد عليهم.

وكان لسليمان باشا سُرِّية مقدمة على جميع محاظيه تسمَّى زهراء، من أجمل النساء، وكان قد تركها القبجي عند سليمان بيك وكيل سليمان باشا على أملاكه، فلما جاءه الفرمان بعقوبة الرجال والنساء أمر بإحضارها، وسألها عن المال، فأنكرت وادَّعت أنها ما رأت شيئاً ولم تعرف شيئاً، فأمر بضربها، فضربت على وجهها ويديها وأجنابها، حتى غابت عن الوعي فلم تقرّ بشيء، وهي تحلف أن ليس لها علم ولا خبر ولا أطلعها سيدها سليمان باشا على أمر، فتركها تحت الترسيم.

ثم بعد ذلك جمع القبجي جميع حريم الباشا من جواري وأحرار في جملة واحدة، وأخذ جميع ما معهم وما عندهم من ذهب وفضة ومتاع وحليّ وألبسة وجميع ما تقتنيه النساء، وذلك بعد العذاب والإهانة والضرب الشديد.

وكان سليمان باشا قد تزوج من ابنة الشيخ ياسين الكيلاني نسباً القادري طريقةً، فلما رأت ما حلّ بصحيباتها من الإهانة وسألها القبجي عن مال زوجها الباشا، وهددها بالعذاب، خافت وأعطت له مبلغاً من الذهب يساوي عشرة أكياس، أي عشرة آلاف، وأعطته سندات كانت على بعض التجار بنحو مئة وخمسين كيساً، وكان جميع ذلك المال إرثاً عن أبيها الشيخ ياسين القادري، فافتدت نفسها من أشد الإهانة بمبلغ 160.000 فرنك ذهبي.

وكانت الدولة العثمانية بعد وفاة سليمان باشا العظم قد عينت ابن أخيه أسعد باشا بن إسماعيل العظم والياً على دمشق، وأميراً للحج الشامي، وكانت هذه المصادرات تجري وهو في الحج، فلما عاد عقد اجتماعاً مع القبجي حضره أركان الولاية وأبرز القبجي الخط الشريف القاضي بتفويضه أن يفعل ما يشاء من تعذيب وقتل وحبس، وألا يعترضه أحد، فلم يحرك أسعد باشا ساكناً، وكانت الناس تترقب عودته من الحج وتقدِّر أن يقوم ويقعد لما حصل، ولكن ما عساه أن يفعل إزاء فرمان السلطنة العثمانية.

ولا شك أن آل العظم سعوا في دوائر السلطنة لاستصدار عفو فلم يلبث بعد مدة أن جاء فِرمان بالعفو، فشكلوا لجنة فيها مدير أملاك المتوفى سليمان باشا العظم وابن أخ له يدعى محمد، وقامت اللجنة برفع الحظر على ما تبقى من الأموال والأملاك والأمتعة والأسلحة، واشتراها منها الوالي أسعد باشا بأربع مئة كيس.

وقبل أن نتناول سيرة الوالي سليمان باشا العظم، نشير إلى أن آل العظم من الأسر العريقة في حماة ودمشق، ويذكر الأستاذ الزركلي أن أصلهم من قونية، وكان جدهم إسماعيل العظم المتوفى سنة 1144=1731، أول من تولى الشام من هذه الأسرة سنة 1132=1720، وسكنها إلى أن توفي فيها، وأعقب ثلاثة أولاد: سعد الدين باشا، وأسعد باشا، ومن نسلهما آل العظم في دمشق وحماة، وإبراهيم باشا وسلالته في معرة النعمان، وكان من هذه الأسرة حكامٌ وموظفون كبار اعتمدت عليهم الدولة العثمانية اعتماداً وثيقاً لأنهم أخلصوا لها كل الإخلاص، ولم تبدر منهم أي بادرة تمرّد أو استقلال، فوسّدت إليهم الأحكام في الشام، وأعطتهم من حرية التصرف ما لم تعط غيرهم، وأقصى ما فعلته بأحدهم أن نقلته من بلد لآخر، وكان ذلك في زمن أعمار الولاية فيه جد قصيرة، والتقلبات بالحكام لا تكاد تتوقف، ويكفي أن نشير أن السلطان محمود الأول، سلطان الوقت، قد غيَّر 17 صدراً أعظماً في مدة حكمه التي دامت 22 عاماً.

ومن آل العظم في العهد القريب أدباء وشعراء ومربون، من أبرزهم: رفيق بن محمود العظم، المولود سنة 1282=1867 والمتوفى بالقاهرة سنة 1343=1925، صاحب المؤلفات القيمة، ومنها كتاب أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، وكتاب تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام، وأهدى المجمع العلمي العربي بدمشق خزانة كتبه وهي نحو ألف مجلد.

نعود إلى سيرة سليمان باشا العظم، ولاتفيدنا المصادر كثيراً فيما يتعلق بمكان أو تاريخ ولادته، ومن المرجح أن تكون معرة النعمان حيث كانت إقامة والده إبراهيم باشا العظم، وأول منصب تولاه سليمان باشا كان ولاية طرابلس، وكانت من الولايات الثانوية التابعة لدمشق الشام، ثم عهدت إليه السلطنة العثمانية بولاية صيدا، وكان أخوه إسماعيل قد عيّن والياً على دمشق سنة 1138، وكان ذلك يشمل إمارة الحج فجعله مسؤولاً عنها ويسمى جرداوياً في اصطلاح ذلك الوقت،فكان يحج في كل سنة مع الحاج الشامي والتركي، ولمّا توفي أخوه سنة 1145 والياً على جزيرة كريت، صدر أمر الدولة سنة 1146=1733 بتعيينه والياً على دمشق مع إمارة الحج، وكانت البلاد آنذاك تعاني من مجاعة كبيرة أدت بحبل الأمن أن ينفرط وهاجم السكان الجائعون مخازن الحبوب بما فيها مخازن الولاية فقام على الفور بشنق أربعة من المتورّطين، واتّخذ إجراءات من شأنها توفير الطعام في البلد، وقد استاء الرأي العام في دمشق من إعدام هؤلاء المساكين، واعتبره قسوة وظلماً من الوالي، ولكن أهل دمشق ما لبثوا أن مالوا إليه بسبب تركيزه على تشجيع الاقتصاد، وإبطاله مظالم كثيرة وضرائب كانت تفرض على الحِرف والصنائع والحارات في الشام.

واستمرّ سليمان باشا في ولاية دمشق حتى سنة 1151=1737حين عزله السلطان واستبدل به حسين باشا بستنجي، وجاء عزله بعد أن بنى في دمشق داراً بديعة كبيرة، ولم يرد في خطاب العزل تعيين جديد فخرج من دمشق بأهله وأولاده إلى حماة.

ثم جعله السلطان والياً على مصر سنة 1152 فبقي فيها إلى سنة 1154=1741، حين صدر الأمر بإعادته والياً على دمشق، فبقي والياً عليها حتى موته سنة 1156=1743، وقد حاول أثناء ولايته على مصر أن يقضي على كبار المماليك بواسطة التآمر مع بعضهم، فلم ينجح، ولما انتقل إلى دمشق أرسل المصريون شكاية عليه حملها الشيخ إبراهيم بن مصطفى الحلبي المداري القاهري، المولود بحلب والمتوفى في إستانبول سنة 1190، فلم يكن للشكاية قبول في أوساط البلاط العثماني.

وكان سليمان باشا العظم حازماً أعاد إلى الشام الاستقرار، فعندما جرى تعيينه لآخر مرة سنة 1154 أرسل أحد رجاله للشام ليتسلم إدارتها ثم جاء بعد ذلك بشهرين ونزل على البقاع، وأعلن أنه يريد محاصرة جبل الدروز، الذي كان من حين لآخر يستعصي على الدولة، ويقوم بعض أفراده بالاعتداء على القوافل ما بين دمشق وبيروت، فجاء إليه زعماء الدروز وصالحوه بمال عظيم حتى أرضوه، فتركهم ودخل الشام، وبعد ثلاثة أيام من دخوله صلب ثلاثة مجرمين من البدو، ولكنه بعد ذلك أبقى كل شيء على حاله ولم يحرك ساكناً.

وكانت التقاليد أن يصدر مرسوم تعيين الوالي لسنة واحدة، فما أن يقترب الحول حتى تبدأ الرعية والوالي في الترقب لخطاب التجديد، وقد حدث في سنة 1155 تأخر مجيء الفرمان الذي يجدد ولاية سليمان باشا العظم فصار ذلك مادة للشائعات والتخرّصات، وبدأ بعض الزعران بالتجرؤ على الفساد والمنكرات، اعتقاداً منهم أن الوالي في موقع ضعف، ثم جاء الفرمان، وجاء معه أمر آخر بالقضاء على ما تبقى من الإنكشارية في دمشق، وكانوا شوكة في جنب الوالي لما يبدونه من جبروت وعصيان، ولما يقومون به من أعمال تزرع الرعب في قلوب الناس، قال المؤرخ البديري في الكتاب المسمى حوادث دمشق اليومية: عقد سليمان باشا العظم اجتماعاً في ديوانه دعا إليه الأفندية والأغاوات، وأخرج خطاً شريفاً بإقامة العدل ومعاقبة المفسدين في دمشق من الإنكشارية، وطلب رؤساء الميدان وهم الأغاوات للحضور، فأبوا وأرسلوا له يسألونه ما يريد، فأرسل يطلب منهم ستة عشر رجلاً من الأشقياء الذين يسمونهم باصطلاحهم زرباوات، فأرسلوا له يقولون له: نحن لا نقدر على إلقاء القبض عليهم فدونك وإياهم. فبالحال أعلن تسريحهم من مناصبهم، وعيَّن غيرهم فيها، وأعطى أسماءهم للدلاّل، وأمره أن ينادي في شوارع الشام أن هؤلاء الستة عشر دمهم مهدور ولا جُناح على من قتلهم، وغيرهم في أمن وأمان من سليمان باشا. ففرحت الناس أجمعين، لأنهم كانوا من أعظم المفسدين.

وحدث في اليوم الثاني أن قتل أحد الجنود من فرقة القابيقول إنكشارياً غير الذين أهدر الوالي دمهم، فهربت الناس وأُغلِقت الأسواق، فسأل الباشا عن ذلك، فقيل له: إن بعض القابيقول، وأصلهم من الموصل وبغداد يريدون أن يثيروا فتنة في البلد، فأمر منادياً ينادي أن لا يبقى في البلد أحد من هؤلاء بعد ثلاثة أيام، وكل من بقي منهم يصلب وماله ينهب. والقابيقول لفظة تركية تعني عبيد الباب أي السلطان، ولعله في الأصل يعني قوات السلطان الخاصة.

وفي منتصف 1155 صدر الأمر لسليمان باشا العظم أن يتوجه لإخماد تمرد قام به ظاهر العمر الزيداني، المولود سنة 1106 والمتوفى سنة 1196، وكان قد أعلن العصيان على الدولة وتحصن في قلعة طبرية، فخرج على رأس قوة كبيرة أكثرها من الدالاتية، ولعلهم أشبه بالقوات الخاصة اليوم، واصطحب معه مختصين بالمدفعية والألغام كانوا قد جاؤوه من إستانبول بطلب منه، وانضمّ إليه في الحصار الدروز وقوات من نابلس والقدس وعرب بني صخر، واستمرفي حصار القلعة مدة وهو يضرب عليها بالمدافع ، ولكنها كانت من الحصانة بحيث لم نؤثر فيها مدفعيته وألغامه، واستغرب سليمان باشا صمود القلعة مع تضييقه الحصار عليها، ثم أخبره بعض أهل طبرية أن مؤن المحصورين بالقلعة كثيرة، وأن تزويدهم بالطعام والذخيرة مستمر رغم الحصار، فشدّد الرقابة وبثّ العيون، فألقى رجل من عسكره القبض على رجل وجدوا معه بعد تفتيشه كتاباً موضوعاً في نعله، وإذا بالكتاب من أخي ظاهر العمر يخبر أخاه أنه أرسل باروداً وغيره من الذخائر مع بعض الأشخاص، فأخذ الباشا الكتاب وقرأه، وقرّر الرسول فأقر بالنجدة والذخيرة المرسلة لأخي الظاهر عمر، فأمر بقتله فوراً، وأرسل جماعة للقوم الذين معهم الذخيرة فأُخذت منهم، وقتلوا غالبهم، وقطعت رؤوسهم، وأرسلها سليمان باشا إلى إستانبول، وشدّد الحصار، وأرسل لأخي ظاهر عمر يقول له: إذا فرغنا من أخيك جئنا إن شاء الله إليك.

وما لبثت القلعة أن استسلمت بعد إحكام الحصار عليها، وذلك لأن سليمان باشا العظم بدأ في حفر نفق بغرض وضع لغم يفجر سور القلعة تمهيداً لاقتحامها، فزاد قلق المحصورين، وكان من حسن حظهم أن مر في المنطقة في طريقه إلى إستانبول عمر بك وهو مسؤول مالي كبير في حكومة مصر يقوم بنقل أموال الجبايات والضرائب من مصر للخزانة العثمانية في إستانبول، فأرسل إليه ظاهر العمر راجياً إياه التوسط بالصلح بينه وبين سليمان باشا، وكان عمر بك يعرف سليمان باشا من أيام ولايته على مصر، وكان عمر بك رجلاً وقوراً كبير السن،فدخل على سليمان باشا العظم قال له: إن ظاهر العمر عبد نعمتكم ودولتكم، والصفح من شيم الكرام، وأنتم الكرام لا سواكم. فوعده سليمان باشا خيراً.

ثم انتهز أهل طبرية حلول عيد الفطر فطلبوا أن يدخل إليهم علي آغا الترجمان من حاشية الوالي، فدخل إليهم، فوقعوا على قدميه وصاروا يبكون حواليه، وقدموا له 10.000 فرنك ذهبي، ليدخل بينهم وبين سليمان باشا بالصلح، ثم خرجت النساء والأطفال والشيوخ يبكون وينتحبون، فرقّ لهم وسار إلى سليمان باشا وقبّل قدميه، وذكر له فضائل محاسن الأخلاق والصفح الجميل، فرقّ قلبه وصفح عنهم، فخرجت النساء والرجال والأطفال، وفي رقابهم المحارم وعليهم الذل رافعين أكفّ الضراعة بالمسكنة، وضاجّين بالأدعية له وللسلطان الأعظم، ودفعوا لسليمان باشا العظم 200.000 فرنك ذهبي، وعاد هو إلى دمشق ومعه ابن ظاهر العمر رهينة، وقرَّر هدم القلعة وتسويتها بالأرض، وأرسل جماعة قاموا بذلك.

وكان مما جعل سليمان باشا يميل للصفح اقتراب موسم الحج في شوال، وعليه أن يكون على رأس ركب الحجيج الشامي الذي يضم كذلك حجاج الأناضول، وتحسباً من أن تتدهور الأوضاع مع الإنكشارية الذين أهدر دمهم، عقد سليمان باشا اجتماعاً في 20 شوال قبل أن يخرج مع الجردة، ودعا إليه الأعيان، وأظهر الفرمان الذي فيه قتل المفسدين من الإنكشارية، وقال لمن حضر: هذا الفرمان الذي أمره مفوض لنا قد ألغيناه وعفونا عنهم. وعُدّ ذلك من حسناته.

وكان الوزير يذهب بتكليف من الدولة العثمانية للحج كل سنة على رأس قوة تتولى حماية الحجيج من اعتداء البدو في هذه الرحلة الطويلة من دمشق إلى المدينة المنورة، وكانت قافلة الحجيج تضم حجاج حلب ومن ينضم إليهم من حجاج الأناضول بل والعجم أحياناً، وكانت القافلة تخرج من دمشق في منتصف شوال وتعود بعد أكثر من 3 أشهر في أواخر المحرم من العام التالي، وفي عودة الحاج لسنة 1156 جاءت السيول في طريقهم في منطقة القطرانة شمالي معان في الأردن، وذهب على ما قيل مقدار نصف الحاج، من خيل وجمال وبغال، ونساء ورجال وأموال وأحمال، وقد غرق لأحد التجار سبعة عشر حملاً، كل حمل لا يقام بثمن، فاستغاثوا بسليمان باشا العظم، وقالوا: نحن نهب لك مالنا وخذه أنت ولا تتركه للعرب. فحالاً نهض وأخذ معه جماعة، وذهب نحو مرحلة، وقد خاطر هو وجماعته، ثم غاب يوماً وليلة بعدما جدّوا في طلبه، وإذا هو قادم ومعه الأحمال بعينها، وسلمها إلى أصحابها، وعُدّت هذه من مناقبه.

وفي منتصف سنة 1156 عاد ظاهر العمر وشقّ عصا الطاعة في طبرية وسواحل فلسطين، فجاء فرمان من الباب العالي إلى سليمان باشا العظم أن ينهض إلى قمعه واستئصاله، وأن يخرج معه والي صيدا ووالي طرابلس والقدس وغزة والرملة وإربد، فخرج سليمان باشا العظم ، واستصحب معه نحو 500 جندي، والتحق به من جبل الدروز عدد كبير، ثم ما لبث أن طلب أن يلتحق به 300 إنكشاري، وأن يرسل ما بقي من العسكر للحفاظ على الأمن في قرى حوران، وأن يخرج من كل قرية من قرى الشام عشرة أنفار ينضمون لقوة الإنكشارية المكلفة بحفظ الأمن.

وسار سليمان باشا العظم بتلك القوات إلى المناطق الشيعية في جنوبي لبنان، وانضم إليه الأمير ملحم ومعه مئتا خيَّال، ولكن سرعان ما تنازع الشيعة والدروز واقتتلوا، وكانت الدائرة أولاً على الشيعة الذين قتل الدروز منهم أكثر من 1000 شخص وحرقوا بلادهم ونهبوا أموالهم، ثم صال الشيعة على الدروز فقتلوا منهم نحو 500 منهم أمير دير القمر، واستاء سليمان باشا ممَّا حدث، وردَّ الدروز ولم يقبل منهم مساعدة، وضمَّ إليه حوالي 400 من الشيعة ليهاجم لقلعة التي تحصَّن فيها أخو ظاهر العمر.

وأرسل ظاهر العمر كتاباً إلى سليمان الباشا العظم، يطلب فيه الصلح فأبى، وقال: لا يمكن إلا برأسك! فأرسل يستغيث به، ويقول: خذ من الأموال ما تشاء، ودع سفك الدماء والقتال، وارحم النساء والأطفال. فلم يقبل سليمان باشا أن يلدغ من ذلك الجحر مرتين.

وبعد شهر من خروجه جاء الخبر إلى دمشق في السابع من رجب أن سليمان باشا العظم قد توفي وهو في حصار ظاهر العمر في عكة، ثم ما لبث جثمانه أن وصل دمشق في اليوم التالي فصلوا عليه ثم دفنوه في مدفن آل العظم في مقبرة باب الصغير، بجوار ولده إبراهيم الذي توفي قبله، وفْقاً لوصيته.

ولأن وفاته تمَّت في هذه الظروف، فمن الطبيعي أن تحوم الشائعات أنه مات مسموماً، وأن ظاهر العمر دفع مالاً لبعض خدمه ليدس له السم، والثابت أنه دخل إلى حمام عكة، وخرج منه محموماً، وأدرك أنه الأجل المحتوم، فأوصى أن يرحل به إلى الشام ويدفن عند ولده.

وكان من الممكن أن يؤدي موت سليمان باشا لهجوم من المعسكر المعادي، ولكن أمراء الجيش كتموا موته، وأظهروا أنه عائد إلى دمشق، وقاموا بكل مراسم التعظيم المعتادة في سفر الوالي من اصطفاف الجند وإطلاق المدافع، وبلغهم لما وصلوا هضبة الجولان أن 5000 من الشيعة يكمنون لهم، فجدّوا في السير من أول الليل حتى دخلوا دمشق مع طلوع الفجر.

ويبدو أن تعليمات أو تقاليد الدولة العثمانية كانت تقضي بإجراء الحجز الاحتياطي والتوقيف في مثل هذه الحالة، لأن دفتردار دمشق، فتحي جلبي بن القلاقنسي، ختم على دور سليمان باش العظم وخزائنه وأملاكه، وأقام عليها حرساً بالليل والنهار، وأمر بسجن سلحداره وخزنداره، وكذلك ابن عمه محمد بيك، ومحمد آغا الديري مدير أعمال سليمان باشا، وكتب بذلك عرضاً، وأرسله لإستانبول وأقام ينظر الجواب.

وجاء قبجي من إستانبول لضبط مال سليمان باشا، فضبط 2050 كيساً تحوي 1.025.000 قرش، واشترى فتحي الدفتردار غالب متاعه والغلال التي في مستودعاته فبلغت كميتها 500 غِرارة، والغرارة كيس كبير لعله يسع قرابة 50 كيلو، وهو أمر يلفت النظر لأن دمشق كانت تعاني من شح في القمح وغلاء شديد في أسعار الغذاء.

ولكن هذه المصادرة لم تكف، فجاء مبعوث سلطاني آخر في آخر شوال، ومعه أمر بتحصيل أموال سليمان باشا العظم، وقدرَّها باثني عشر ألف كيس أو 12.000.000 فرنك ذهبي! قال البديري عن هذا المفتش: ودخل الشام مثل شعلة النيران، وأخرج حرم سليمان باشا من ديارهم إخراجاً شنيعاً، وصاروا يفتشونهم واحدة واحدة، مع التفتيش في جيابهم وأعبابهم، وختم على جميع مخادع الدار، وأمر بالقبض على ابن عم المرحوم سليمان باشا، وهو السيد محمد، وعلى جماعة أخرى معه، وأمر بالترسيم الشديد عليهم، وسأل عن محمد آغا الديري، وكيل خرج سليمان باشا، فأخبروه أنه ذهب مع أسعد باشا إلى الحج، فأمر بجلبه، فجاؤوا به، وأمر بالترسيم عليه.

ثم أحضر المندوب القاضي والأعيان، واستجلب حرم سليمان الباشا، وأحضر الجلاد وآلة العذاب، وشدّد على الحريم بالطلب، وأن يعلموه عن المال أين مخبأ، فلما رأوا التشديد خافوا من العذاب وأقروا له عن بعض مخابئ تحت الأرض، فأرسل خلف المعمارية الذين عمروا السرايا، وكانوا نصارى، وكان المعلم نصرانياً يقال له ابن سياج، فأمر القبجي بتعذيبهم، وقطع رؤوسهم وأيديهم، فلما تحققوا عذابهم قالوا: نحن ندلك على كل ما عمل ثم أنهم حفروا له تحت الدرج، فبان عن سرداب، فرفعوا عنه التراب، ونزلوا في درج، فظهر مكان واسع وفيه صندوق مقفول، فأخرجوه وفتحوه، فرأوه ملآن من الدراهم والريالات، ثم أخرجهم النصراني إلى مخدع، فحفر في دوائره، فإذا فيه سبع خوابي مملوءة من الذهب المحبوب السلطاني، فلما رأى الحاضرون ذلك الحال زاغت منهم الأبصار، ثم عدوه وضبطوه، فوجدوه 850 كيساً. فلما بلغ الناس ما خرج عنده من هذا المال، وكان في أيام شدة الغلاء، مع سوء الحال، لهجوا بالذم والنكال، وقالوا: قد جوّع النساء والرجال والبهائم والأطفال حتى جمع هذا المال من أصحاب العيال، ولم يراقب الله ذا الجلال.

ذكرنا في البداية أن المصادرات والتحقيقات تمّت وأسعد باشا العظم ابن أخي سليمان باشا هو الوالي على دمشق، فلم يفعل شيئاً لدفع الضر عن قرابته، ولكنه، وهو المتمرس بالسياسة، ترَّقب الفرصة المواتية للانتقام من فتحى أفندي الدفتردار، وحانت هذه الفرصة سنة 1160، ولا ندري إن كان ذلك بسعي منه أم من جراء سياسة الدولة العثمانية في تغيير المتنفذين من الموظفين واستصفاء أموالهم.

قال البديري: وفي نهار الأحد بعد العصر خامس عشر جمادى الثانية من هذه السنة ضربت مدافع، فسأل الناس عن الخبر، فقيل: إن سعد الدين باشا أخا أسعد باشا جاءته رتبة وزارة، فهُرِعت أكابر الشام لتهنئة أخيه أسعد باشا، وكان أسبقهم لتهنئة الباشا فتحي أفندي دفتردار الشام، فلما رآه الباشا قام ودخل لدهليز الخزنة، فتبعه وجلس عنده، فأخرج أسعد باشا صورة عرض وأراه إياه، فأخذه فتحي أفندي وقرأه، وإذا فيه الأمر بقتله. وقال له الباشا: ما تقول في هذا؟ فقال: سمعاً وطاعة، لكن أنا في جيرتك فخذ من المال ما أردت وأطلقني. فقال له الباشا: ويلك يا خائن، أنا لم أنس ما فعلت في نساء عمّي! ثم أمر برفع شاشه وقطع رأسه، فوضع في رقبته حبل، وسُحب إلى خارج السرايا وقطع رأسه، وأرسل للدولة. ثم أمر الباشا أن تطاف بجثته في سائر شوارع الشام وطرقها وأزقتها ثلاثة أيام، ففعل به ذلك، وطيف به عرياناً مكشوف البدن وتركوه للكلاب، ثم دفنت جثته في تربة الشيخ رسلان، وأمر الباشا بالإحاطة على داره وعلى ماله والقبض على أعوانه، فألقوا القبض على خزنداره عثمان وعلى ولده فأمر بحبسهما، ثم أتوا بأكبر أعوانه وكان يلقب بالعفصا فقطع رأسه حالاً. وزادوا على أعوانه بالتفتيش، فقتل بعض أعوانه وخدامه، ثم ضبط الوزير تركته وأموال أتباعه جميعاً للدولة العلية، فبلغت شيئاً كثيراً، وتفرق الباقون أيدي سبا، كأن لم يكونوا وانقضت دولته كأنها طيف خيال.

ترك سليمان باشا العظم عدداً من الآثار العمرانية في دمشق، من أبرزها: خان سليمان باشا العظم، الواقع في منتصف سوق مدحت باشا، وقد بناه سليمان باشا سنة 1145، وهو كما يقول الباحث الأستاذ عماد الأرمشي: ثاني أكبر خانات دمشق بعد خان أسعد باشا العظم، ويتألف من طابقين يضم الدور الأول محلات تجارية، ويضم الدور الثاني 30 غرفة خاصة لنزلاء الخان، ومستودعات وباحة كبيرة كانت مغطاة بقبتين كبيرتين زالتا ومازالت آثارهما باقية. وإضافة للخان بنى سليمان باشا سنة 1148 حمامين في دمشق كانا من محاسن البنيان.

ولئن كان هذا مشروعاً ربحياً فإن لسليمان باشا العظم آثاراً عمرانية ذات نفع عام، منها مدرسته التي أوقف عليها الأوقاف وقد تناول الأستاذ مهند أحمد مبيضين في بحث له كتاب وقف سليمان باشا على مدرسته، وقد تناولها الدكتور محمد عبد القادر منصور في دراسة معمارية أثرية تاريخية مستفيضة.

ولكن أعظم أعمال سليمان باشا النافعة كان إصلاحه شبكة المياه التي تشرب منها دمشق والمسمَّاة بالقنوات لاعتمادها على منظومة متكاملة من الأقنية مختلفة السعة والتي تدخل كل حي وبيت.

قال البديري: وفي يوم الأحد غرة جمادى الأولى من سنة 1156، شرع حضرة سليمان باشا ابن العظم، في تعمير وترميم نهر القنوات، وجعل جميع المصارف من ماله جزاه الله خيراً، واشتغل بها من الفعلة مئتا فاعل، فأمر بقطع بعض الصخر من طريقها، وبتشييد أركانها وإصلاح ما فسد منها، ورفع جدرانها، وبضبطها ضبطاً جيداً وبإصلاح فروض مستحقيها على الوجه الحق، وأن يأخذ كل ذي حق حقه. فكانت هذه العمارة والضبط ما سبقه إليه أحد من عهد إصلاحها من أيام تيمور لما أصلحت بعده، وقد تمت عمارته في برهة خمسة عشر يوماً، ولما تم أمر بإطلاق النهر، فكان إطلاقه على أهل دمشق فرجة من أبهج الفرج، ويوم مثل يوم الزحام. وقد أرّخ هذه العمارة شيخ الأدب في الشام الشيخ عبد الرحمن البهلول، مادحاً حضرة الوزير سليمان باشا ومشيراً لتاريخ تتميم البناء، فقال:

جزى المولى أميرَ الشام خيرا ... سليمانَ الزمان ودام دهرا

بما قد جدد القنوات صدقا ... بإخلاص زكا سرا وجهرا

فيا طوبى له إذ نال أجرا ... على مرّ الليالي مستمرا

له في كل مكرمة أياد ... بإحسان علت وهلم جرا

فكم صنعت يداه وجوه بر ... بها أرخ سبيل الخير أجرا

ولم تقتصر آثار سليمان باشا العمرانية على دمشق، بل عهدت إليه الدولة ببناء قلعة في تلبيسة بين حمص وحماة لحفظ الأمن على الطرقات، فقام بذلك خير قيام.

كذلك بنى سليمان باشا العظم سنة 1150 مدرسة قرب داره عند باب البريد بدمشق، ووقف الأوقاف لمدرسيها، ووقف بها خزانة كتب نفيسة دخلت في خزانة دار الكتب الظاهرية عند إنشائها سنة 1296، وكان له مائدة دائمة للفقراء كل يوم لا تخلو من اللحم، ولما احتفل بختان ابنه أول سنة 1156 أقام حفلاً شارك فيه عامة الناس وأمر بختان أولاد الفقراء وغيرهم ممن أراد، فأقبل الناس بأولادهم، وأمر بمنح كل ولد بذلة وفرنكين ذهبيين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين