الإسلام .. قراءة عصرية

سلمنا من صلاة الجمعة، وجلسنا نردد أذكار ما بعد الصلاة، وإذا بالإمام يقوم عند المحراب فيعلن عن كلمة للمفكر الإسلامي "محمد الغراب" الذي خلع عليه كل أوصاف التعظيم فهو "صاحب القراءة العصرية للقرآن" و"مجدد القرن" و"فيلسوف الإسلام" و"حجة الإسلام" ...

أخيراً .. وقف المفكر منتشياً للإطراء، فشكر الإمام، وتوجه إلينا معتذراً أنه فوجئ بطلب الشيخ، وتنحنح، وقال في ثقة :

- لكن .. لا بأس .. اطلبوا أي موضوع تحبون ؟ فأحدثكم فيه ..

وانتفخ كما ينبغي لمفكر يعلم كل شيء .. يستطيع أن يتكلم في أي موضوع دون تحضير مسبق .. فقام شاب في الصف الخلفي وقال له :

- دكتورنا الغالي .. نحب أن نسمع منك الحديث عن العقل العربي الذي أبدعتَ الحديث عنه في كتبك .. لو تفضلت ..

هز المحاضر رأسه، وانبسطت أساريره، وكأن الموضوع قد صادف هوى في نفسه وقال بانشراح :

- حاضر .. يا بني .. 

وتوجه إلينا قائلاً :

- ما رأيكم ؟

أجاب الحاضرون :

- على بركة الله ..

فانطلق المحاضر يقول :

- أيها الإخوة .. في البداية .. أود التنبيه إلى مشكلة كثيراً ما عانى منها العقل البشري عامة، ومنه العقل العربي، فقد ظل أهل الأرض لقرون طويلة يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض، وظلّوا أسرى لهذه المسلَمة الخاطئة التي جعلتهم عاجزين عن تفسير كثير من الظواهر الكونية .. حتى جاء من أثبت أن العكس هو الصحيح وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس لا العكس، وعندئذ استطاعوا تفسير تلك الظواهر الغامضة .. واليوم نجد المسلمين يؤمنون بكثير من التصورات والمسلَمات التي تناقض الواقع تماماً، وهذه التصورات الخاطئة هي محور انشغالاتي منذ أربعين عاماً، وهي التي جعلتني أقضي شطر عمري في دراسة القرآن لتصحيح هذه التصورات، وهذا ما دفعني لدراسة العقل العربي في سبيل معرفة أسباب عجزه عن إنتاج المعرفة، فوجدت أن سبب عجزه ثلاث علل تكفي كل واحدة منها كي تعطّله عن إنتاج المعرفة .. فالعقل العربي : عقل ترادفيّ . قياسيّ . يتوافق مع البنية الاستبدادية التي وسمت تاريخنا الإسلامي كله .. وسوف أشرح لكم هذه العلل واحدة فواحدة :

• فمشكلة "الترادف" جعلت العقل العربي لا يميز بين المفاهيم المختلفة، فنراه مثلاً يعتقد بترادف مفهوم الجهاد ومفهوم القتال .. الكتاب والقرآن .. الإسلام والإيمان .. فهذا الفهم الخاطئ للمفاهيم أدى إلى تصورات خاطئة ومواقف سلبية عزلتنا عن العالم، بل معاداة العالم، فالثقافة السائدة في تراثنا ألغت مثلاً الفرق بين الإسلام والإيمان، وأنكرت أن كل من يؤمن بالله هو "مسلم" أما من اتبع النبي محمد فهو "مؤمن" وبهذا الخلط بين الإيمان والإسلام عزل المسلمون أنفسهم عن العالم لاعتقادهم أنهم الأمة الوحيدة الناجية من بين أمم الأرض، ففي هذا الخلط للمفاهيم قلب لفهم الآية التي تقول "إن الدين عند الله الإسلام" فقد قصرنا الإسلام على أتباع محمد دون غيرهم من المؤمنين .. بينما الحقيقة أن أتباع مختلف الأديان يؤمنون بالله، ومن ثم فهم مسلمون، وهم من أهل الجنة ! ومن أجل الخروج من هذا الخلط بين المفاهيم رأيت ضرورة الرجوع إلى معاجم اللغة العربية للبحث عن جذور هذه المفاهيم التي تستعمل في الثقافة العربية كـ "مترادفات" ، وقد اكتشفت أن كل التفاسير التقليدية وكل الفقه الإسلامي لا يمت إلى الإسلام بأية صلة !!

• أما السبب الثاني لعدم قدرة العقل العربي على إنتاج المعرفة فهو أخذه بفكرة "القياس" التي قال بها الفقهاء، مما جعل العقل العربي "عقلاً قياسياً" عاجزاً عن التفكير إلا بالعودة إلى نسخة أصلية يقيس عليها . ونسخة الإسلام التي قدمها الفقه لنا هي النسخة التي تشكلت خلال القرن السابع الميلادي، وهي نسخة تبعد عنا عشرات القرون، وتختلف عن ظروف عصرنا بعد الأرض عن السماء، ومن ثم فإن القياس على تلك النسخة، يعني انفصالنا عن الواقع واغترابنا عن عصرنا !

• وثالث أسباب عجز العقل العربي هو حصر تفكيره بالسؤال عن "الحلال والحرام" بدل السؤال عن الموجود وغير الموجود، وهذا المنهج في التفكير يتناسب مع البنية الاستبدادية ويعيد إنتاجها ! 

ومن أكثر ما صدمني خلال بحثي الطويل في التنزيل الحكيم وفي التراث الإسلامي هو اكتشافي أن كل التفاسير وكل الفقه الإسلامي الذي تعلمناه لا علاقة له بالتنزيل الحكيم .. فرجعت إلى تاريخ الفقه الإسلامي فاكتشفت فيه طامة كبرى تكرست خلال القرن الثامن الميلادي نتيجة أعمال الفقهاء الأربعة، وبخاصة منهم الشافعي (ت 150هـ - 820م) الذي زعم أن الحديث النبوي وحيٌ آخر كالقرآن، ومن هذا المنظور بدأت مشاريع جمع أحاديث النبي في كتب السنة التي حلت محل القرآن، فأردت أن أعيد للقرآن دوره باعتباره مصدر التشريع، وأعيد للنبي دوره باعتباره مجرد مبلّغ، لا مشرع مثل الله، ومن أجل هذا دعوت إلى اعتبار ما قاله النبي وثائق تاريخية غير ملزمة . لاسيما وأن أخذ ديننا من هذه المرويات أدى إلى انتشار ظاهرة التكفير، ونبذ الآخر، ومعاداة العالم، هدفي في هذا تصحيح صورة الإسلام التي صاغها الفقه صياغة مرعبة تقمع الحرية والتعدّدية والسماحة التي أصبحت أبجدية العالم اليوم !

أيها الإخوة .. لا أريد أن أطيل عليكم، لكني أنادي وأكرر بضرورة تصحيح الكثير من المسلمات الخاطئة التي تربينا عليها، وقد ناقشت وفندت في كتبي كل هذه الإشكاليات، وأحضرت لكم نسخاً من هذه الكتب تجدونها عند الباعة في ساحة المسجد ... شاكراً لشيخي الكريم ولكم إتاحة هذه الفرصة.. والآن أرحب بأسئلتكم ومداخلاتكم .. تفضلوا ..

• فكان جوابي :

أشكر شيخنا الكريم على إتاحة هذه الفرصة لمناقشة محاضرنا في الأطروحات التي تفضل بها، والتي سوف أناقشها الآن، مع التأكيد مقدماً أن رفض بعض هذه الأطروحات، أو تفنيدها لا يعني رفضنا للاجتهاد في الدين، لكن مع ملاحظة أن في كل علم مبادئ وقواعد وضوابط لا بد من مراعاتها، وإلا كان الاجتهاد تخريباً لا تطويراً.. والإسلام بحر زاخر، يعطي في كل عصر لآلئه ودرره الغنية، ولم يخلُ عصر من عصورنا الإسلامية من مجتهدين مبدعين، تحقيقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وهذا مع تنبيهه صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة المراجعة لكل اجتهاد لاختبار صحته من بطلانه، فقال : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" وانطلاقاً من هذه التوجيهات النبوية الحكيمة أبدأ بتفنيد مقولات محاضرنا الكريم فأقول :

1 - إن فكرة "عدم الترادف" في اللغة التي نسبها إلى نفسه، كان حرياً به نسبتها إلى واضعها الأول وهو اللغوي المعتزلي الفارسي أبي علي، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار في القرن العاشر الميلادي، وهذه النظرية المتهافتة أوقعت المعتزلة في ضلالات عقائدية كثيرة، بسبب حصرهم معنى الكلمة بالمعنى اللغوي وحده، وتجاهل المعنى الاصطلاحي للألفاظ، مما جعلهم ينتهون في تفسيرهم للتنزيل الحكيم إلى أحكام شاذة تناقض مقاصد الشريعة، وقد وقع محاضرنا بمطبات أدهى من مطبات المعتزلة، نتيجة أخذه بهذه النظرية، فانتهى إلى تحليل كثير من المحرمات كالزنا والخمر والربا.. وحرم بالمقابل العديد من الحلال مثل تعدد الزوجات، والحدود وغيرها من الحلال .. فقد وقع في هذه المغالطات بسبب تجاهله أن الشارع الحكيم قد نقل الكثير من الألفاظ عن معانيها اللغوية إلى معانٍ أخرى اصطلاحية، فصار لها معان تختلف عن أصلها اللغوي، كما فعل المحاضر مثلاً بتفسيره "الجيوب" بالشقوق في قوله تعالى : "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ ? وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ .. الآية" سورة النور 31، فاتباع المحاضر هذا المنهج الاعتزالي في إنكار الترادف واعتماد الجذور اللغوية وتجاهل المعاني الاصطلاحية، كل هذا أوقعه في مطبات كبيرة، معظمها يخرج قائلها من الملة! ولهذا .. أيها الإخوة .. حرصاً من علمائنا وفقهائنا لتجنب هذه المطبات كانوا يؤكدون أن على من يتصدى لفهم الدين أن يتعامل مع نصوص الدين وفق المصطلحات التي رسمها الدين نفسه، وحدّد معناها، فمن حق كل علم أو دين أن يحدّد مصطلحاته الخاصة به وإلا تاهت المعاني وضاع العلم !

2 - أما شك المحاضر ورفضه السنة النبوية والدعوة إلى طرحها جانباً، فهي دعوة قديمة سبقه إليها "القاديانية" التي ظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي في البنجاب، وهي نفس الدعوة التي يتبناها اليوم "القرآنيون" وهي دعوة تتناقض تناقضاً تاماً مع أمر الله تعالى في التنزيل الحكيم بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم – بل إن آيات كثيرة تقرن طاعة الرسول بطاعة الله، فهو سبحانه الذي ألزمنا بطاعة رسوله الكريم، وأوجبها علينا . ولا يخفى على كل من آتاه الله علماً وفقهاً أنّ النظر إلى القرآن وحده دون الأخذ بالسنة، هو الذي جعل أطروحات المحاضر اليوم حافلة بالمغالطات! ذلك أنّ محاولة تفسير القرآن الكريم بعيداً عن السنّة يجعله قابلاً لكل التفاسير، وقد أدرك هذه الحقيقة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن ذلك مثلاً أن "علي بن أبي طالب" عندما وجه "ابن عبّاس" رضي الله عنهما لكي يحاجج "الخوارج" أوصاه أن يحاججهم بالقرآن الكريم والسنّة معاً، فقال له : "لا تحاججهم بالقرآن وحده فإنّ القرآن حمّال أوجه، حاججهم بالسنّة".

أيها الإخوة .. إن استبعاد المحاضر للسنة النبوية كما يفعل اليوم لفيف من أدعياء التجديد يفتح ثغرة خطيرة في فهمنا لنصوص التنزيل الحكيم، فاستبعاد السنة يفتح الباب على مصراعيه لفهم التنزيل الحكيم فهماً يخالف كل الأفهام السابقة بما فيها فهم الرسول والصحابة ! وذلك بهدف تقديم تفسير عصري للدين يساير أفكار "العولمة" و "العلمانية" وغيرها من الأفكار التي يروج لها اليوم أعداء الإسلام !

ولا شك .. أيها الإخوة .. أن الانسياق وراء هذه الدعوة ينتهي إلى مسخ الدين، وجعله أُلعوبة في أيدي أصحاب الأهواء، وينتهي بديننا إلى ما انتهت إليه الأديان السابقة التي صارت تبرر كل انحراف، كما فعل محاضرنا في كتبه، فانتهى مثلاً إلى تحليل المحرمات، وتحريم الحلال كما ذكرت آنفاً .

2 - أما قول محاضرنا إن العقل العربي عقل قياسي لا يفكر إلا من خلال مثال سابق يقيس عليه .. فهي كذلك شبهة مردودة، فالقياس طريقة علمية تتبع في مختلف العلوم، وهي طريقة تختصر الكثير من الجهد على الباحثين، فلا غرابة أن يستعملها علماؤنا في مختلف العلوم العربية والإسلامية، مثل علوم اللغة العربية، وأصول الفقه وغيره، وقد ساهم القياس مساهمة فعالة في تقعيد اللغة، وتطبيق الشريعة وغيرها، ولم يستخدم علماؤنا هذه الطريقة اعتباطاً، بل وضعوا لها شروطاً دقيقة، وليس صحيحاً ما قاله المحاضر بأن القياس قد عطل العقل العربي عن إنتاج المعرفة، بدليل أن تاريخنا الإسلامي قد شهد ظهور علماء مجتهدين كبار قدموا إنجازات معرفية عظيمة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الإمام الشاطبي (ت 1388م) الذي أسس "نظرية المقاصد" ، وابن خلدون (ت1406م) الذي أسس جملة من العلوم، منها "علم التاريخ" و "علم الاجتماع" و "علم الاقتصاد"، وابن رشد (ت 1198م) الذي ترك إرثاً فريداً في الطب والفلسفة والفقه ... وغير هؤلاء كثير من علمائنا الأعلام الذين لم يعطل القياس عقولهم، مما يعني أن الأخذ بالقياس، لم يوقف العقل العربي عن إنتاج المعرفة كما زعم محاضرنا !!

أخيراً .. أعتذر .. أيها الإخوة .. على الإطالة، لكن لا يفوتني قبل الختام أن أشير إلى الأخطاء الكثيرة التي وقع فيها محاضرنا عند تلاوته للآيات التي استشهد بها في حديثه؛ فواعجبي من هذه الجرأة على تفسير كتاب الله مع الجهل بقراءته ... والسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين