فقه السيرة (27)

الحلقة السابعة والعشرون : من دروس الهجرة النبوية

1- الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40]. 

ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ  عَزِيزٌ ) [المجادلة: 21]. 

2- مكر خصوم الدعوة بالداعية: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال عز وجل: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30]. 

ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [الأنفال: 36]. 

3- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط 

المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين. 

فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم وشرع النبي صلى الله عليه وسلم في التنفيذ نلاحظ الآتي:

* وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلا: 

أ- جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر- الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد. 

ب- إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم. 

ج- أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه. 

د - وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر. 

هـ- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها. 

* انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير. 

* وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته. 

* فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول، فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً، مسجى في بردته في حين النائم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 

ونرى احتياجات الرحلة قد دبرت تدبيرا محكما:

أ- علي رضي الله عنه ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليخدع القوم، ويُسلَّم الودائع ويلحق بالرسول. 

ب- وعبد الله بن أبي بكر: صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو. 

جـ- وأسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. 

د- وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه، كيلا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين. 

هـ- وعبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب. 

فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف. 

لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا حسب استطاعته وقدرته.. ومن ثم باتت عناية الله متوقعة. 

4- جواز الاستعانة بالكافر المأمون.

ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص. 

5- دور المرأة في الهجرة.

وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...». 

فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، «قالت:ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك». 

وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره. 

لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله. 

وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث 

النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان. 

6- أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب، الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم، وصدق الله العظيم: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33]. 

وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلا عن غيره. 

7- الراحلة بالثمن.

لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر ، واستقر الثمن ديناً بذمته، وهذا درسٌ واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء. إن يدهم إن لم تكن العليا، فلن تكون السفلى، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن، وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء: 109]. 

إن الذين يحملون العقيدة والإيمان، ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد إلا الله؛ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه، وقد توعد الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون، وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية، وأصبح الأئمة موظفين. 

إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه، غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديما قالوا: ليست النائحة كالثكلى، ولهذا قل التأثير، وبعد الناس عن جادة الصواب. 

8-الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة

كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، أعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف، وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه وضلال وهدى، وعدل وظلم. 

9-الهجرة من سنن الرسل الكرام

إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة. 

وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته 

10- الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله.

كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البلد الأمين، تضحية عظيمة عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت». 

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا- يعني ماء آجنا- فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال: 

كل امرئ مصبَّح في أهله =والموت أدنى من شِراك نعله

قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: 

إن الجبان حتفُه من فوقه=لقد وجدت الموت قبل ذوقه

كالثور يحمي جلده بِرَوقه =كل امرئ مجاهد بطَوقه

قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول، قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته ويقول: 

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة =بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنة =وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل

قالت: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعها». 

وقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم. 

مكافأة النبي صلى الله عليه وسلم لأم معبد.

وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها. وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح. 

أبو أيوب الأنصاري ومواقف خالدة

قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: «ولما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: «يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت» قال: فلقد انكسر حُب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه». 

هجرة علي رضي الله عنه

بعد أن أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الجمعة وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليها فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين