قلعة حلب الشهباء

إنَّ من أعظم الدلائل على مجد الأمم السالفة ورقيِّها وتقدُّمها في العلوم والفنون ما تركته من الآثار الشاهدة بحضارتها ومدنيتها .

فمن تلك : الأهرامات في مصر العزيزة ، وأبو الهول ، وقلعة حلب ، وقلعة مالك بن رحبة بن طوق بقرب الفرات ، وقلعة بعلبك ، وآثار تدمر ، وغيرها من الآثار الخالدة التي تدل على حضارة بناتها و مجدهم.

وأريد أن أذكر لقراء (المعرفة) الكرام كلمة عن قلعة حلب وما كانت عليه من المجد وما تعاقب عليها من حكام وملوك ، وما نقش عليها من آثار وخطوط ، كانت ولا تزال محل بحث المؤرِّخين والسوَّاح من الأجانب والأثريين ، خصوصاً قاعتها المشهورة بـ (قاعة الحمراء) ونافذتها ذات الشبك المعدني البراق العجيب ، والذي قيل إن بعض الأثريين الألمان هو الذي احتال وسرق قسماً منه فشوَّه الشبك .

حلب وقلعتها:

معلوم عند القراء الكرام أنَّ من أمهات مدن الشام مدينة (حلب الشهباء) وقد قيل إنها سميِّت بذلك لأن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام كان يعتكف فيها ، ثم كان يحلب بقرته (الشهباء) وكان يطعم الناس فيتنادوا : إبراهيم حلب الشهباء...

مساحتها 82 ألف كيلومتر مربعاً ، ويحدّها شمالاً البلاد التركية ، وشرقاً حدود العراق، وغرباً البحر المتوسط ، وجنوباً حكومة الشام، وجنوب غربيها بلاد العلويين ، و نفوس سكانها 157 ألف نسمة، وتقع في شمال سوريا.

فتحت حلب في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 10 هجرية من أيام الخريف الموافقة سنة 633 ميلادية على يد سيدنا خالد بن الوليد وأبي عبيدة الجراح رضي الله عنهما، وكان فتحهاً صلحاً ، وفتح قلعتها عنوة .

ولما فتح أبو عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنهما قنّسر?ن - واختطّا فيها مسجداً - بلغ ذلك رئيسي حلب (يوقنا ويوحنا) وكانا يحكمان حلب، ومقر حكمها في القلعة.

 ولما قدمت جيوش المسلمين اختلف الأخوان: فيوقنا يقول بصلح المسلمين، ويوحنا يقول بحربهم، فخرج الأخير لحربهم غير أن أهالي حلب خرجوا من جهة ثانية وصالحوا المسلمين واستأمنوهم فأمّنوهم ، فرجعوا إلى حلب . وبلغ أمرهم يوقنا فأخذ في قتلهم ، ولما عارضه أخوه قتله. ولكن المسلمين داهموه بجيوشهم فتركهم والتجأ إلى القلعة الحصينة، ثم فتحها المسلمون بعد عناء كبير . وهذا مجمل القول في فتح حلب مع قلعتها باختصار .

الكلام على قلعة حلب:

 كانت قلعة حلب عديمة النظير في الحصانة والمنعة والجمال ، وكانت تُعد من عجائب الدنيا، وأول من بناها (سلبس نادور) أحد ملوك الرومانيين بعد جلوسه بـ 21 سنة ، وكان ذلك سنة 312 قبل المسيح عليه السلام.

ويُسمَّى هذا الرجل في التواريخ بـ (سلتوس) ، وهو الذي جدَّد بناء حلب بعد الزلزال الذي هدمها، ثم بنى القلعة على جبل مشرف على المدينة بل في وسطها، ثم فرش جميع أطراف الجبل بالرخام وأحاطه بخندق ، وسلَّط عليه نهراً عظيماً إذا فتح ماؤه على الخندق جعله لجَّة تمنع الوصول إلى القلعة والاقتراب منها.

ويوصل القلعة بالبلد جسر مركَّب على قواعد حجرية متينة ، وجعل في آخره من جهة القلعة باب حديدي عظيم، والجسر له مرقاة سهلة الصعود حتى إن الحيوانات تصعدها بلا مشقة، وفوق الباب الأول سور عظيم بُني من قطع الصخر الغليظة ، وقد كتب عليها بالخط العربي الكوفي: (أمر بعمله مولانا الملك الظاهر غازي بن يوسف سنة 608).

ثم تمر من هذا الباب وتمشي صعداً مسافة 50 ذراعاً على درج مكشوف مسطَّح مرفوع على قناطر معقودة فوق الخندق ، حتى تصل الباب الثاني الذي رسم فوق قنطرته صورة أفعى عظيمة ذات رأسين، أما عرض الباب فثلاث أذرع وبضع قراريط ، وارتفاعه خمس أذرع، وقد كتب عليه:

(أمر بعمارته بعد دثوره السلطان الأعظم الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين خليل محيي الدولة الشريفة العباسية ، ناصر الملة المحمديَّة عزَّ نصره).

ومكتوب على الطرف الآخر:

(جددت - بعد إهمال عمارتها وإشرافها على الدثور - في أيام مولانا السلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق ، أيَّد الله أنصاره ، بحوزة سريدار دولته محمد بن يوسف أرسلاك نائب السلطان سنة 786).

ومكتوب على جدار متَّجه إلى الجنوب بجانب الباب (بالإشارة العلية المولوية الأميرية الشمسية، قراسنقر الجوكندار المنصوري الأشرفي كافل المملكة الحلبية أعزَّ الله نصره)، ثم تدخل إلى الباب الثالث فتراه يشتمل على أربعة أواوين عرض كل إيوان ثلاثة أمتار، وقد نقش على نجمة الباب حفراً على الصخر صورة أسدان يتناطحان .

 ثم تمر في مدخل فخم فيه عدة أواوين وأربع منعطفات ، في آخرها مزار الخضر عليه السلام ، وهو دكة مرتفعة علق بجانبها قطعة وكتب عليها بالإفرنسية : مار جرجس الخيال :- (Le chievalier Mare  George)

ثم تصل من الممر إلى الباب الرابع وعلى كلٍّ من عضادتيه صورة أسد:الأول يضحك ، والثاني يبكي . ولهذا الباب غلق من حديد كبقية الأبواب قد كتب عليه :

(أمر بعمله مولانا السلطان الظاهر غازي بن يوسف سنة 606).

ثم تسير في ممر مستقيم مشتمل على عدة أواوين ومخادع عظيمة منها طاحونان عظميان للدقيق ، ومحل لجلوس الجند .

 ثم تخرج إلى ساحة القلعة الواسعة الأرجاء المشتملة على كثير من الآثار والقصور والدور ذات التاريخ ، فمن ذلك مدخل الجامع الكبير في القاعة كتب عليه :

(أمر بعمارته الملك الصالح نور الدين أبو الفتح إسماعيل بن محمود زنكي بك أق سنقر ناصر أمير المؤمنين بتولي العبد شاربخت سنة ???)

ولو أردت استقصاء جميع الأماكن التي زرتها لقلعة حلب في تلك العجالة لاحتجت إلى جزء خاص من أجزاء (المعرفة) الغراء ، ولكنني أرسل هذه الكلمة وآمل أن أعود إلى هذا الموضوع في وقت آخر - إذا تكرم سيدى الاستاذ صاحب (المعرفة) فأفسح لي مجالاً لإتمام وصف هذه الزيارة لقلعة حلب التي أصبحت زيارتها تحتاج إلى استئذان الحكومة المنتدبة والاستحصال على وثيقة خطية ، إلى ما يتبع ذلك من عناء ؟

حلب في 30 جمادى الأولى

مدير الجهاد عبد القادر حقي الحفار

المصدر: مجلة المعرفة العدد السابع 1 نوفمبر 1931

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين