بذور لا تموت

 قلب فتاةٍ بعمر الوردِ زهرة، سُقيتْ بماء الصَّفاء والخيرِ قطرةً بقطرة، فتحوَّلت إلى ثمرة تشتهيها كلّ نفس وتحلو إليها النَّظرة... مضت تلك الفتاة تسبر أغوار الحياة واثقة الخُطا، مرادها نصب عينيها، ولكنها لم تهمل تأمُّل الدرب الذي تسير فيه في كلِّ حين. تلاقى دربها مع دروب الكثير من العابرين في هذه الحياة، فأرادت أن لا يمرَّ هذا التلاقي مروراً عرضياً.

ولأجل هذا القرار استلَّت يدها إلى داخلها لتنتزع حفنة من البذور من الثمرة التي تعهَّدتها بالرِّعاية حتَّى أينعت.

عند أوَّل تلاقٍ مع عابرٍ من العابرين ألقتْ بداخلِ أرضه بذرةً، ثمَّ مضتْ من دون أن تلتفت خلفها قطّ. لم تدرِ أن تلك البذرة التي ألقتها قد أنبتت بدل الزَّهرة أزهاراً، وأنَّ أرض ذلك العابر كانت في الحقيقة أرضاً تنتظر مبادرةً بحجم بذرةٍ كي تصيرَ جنَّة غنَّاء تضجُّ بالحياة بعد أن كانت بواراً. فكم كانت تلك الأرض عطشى لمثل تلك المبادرة.

وفي تلاقٍ آخر، ألقت تلك الفتاة بذرةً ومضتْ، فنبتت في أرض ذلك العابر أزهاراً جديدة مختلفة عن الزروع التي كانت تزيِّن أرضه من قبل. فتجمَّلت أرضه واغتنت، وشقَّ أريجها طريقه نحو القلوب فمالت إلى هذا العابر.

وفي يومٍ من الأيَّام التقى دربها بدرب عابرٍ، فألقت في أرضه الجرداء بذرةً ومضت... ثمَّ شاءت الأقدار أنْ تلتقي به مجدَّداً فرأت أنَّ أرضه لا تزال جرداء كما كانت، وأنَّ الحياة معدمة عليها... ظنَّت في بادئ الأمر أنَّ بذورها مع تقدُّم الزمن أصبحت يابسة، إلَّا أنَّ لبَّ الثمرة التي في داخلها ما فتئ ينبض بالحياة. نظرتْ حولها فوجدتْ أنَّ كثيراً من البذور التي ألقتها قد نبتت وأزهرت في أراضي الكثير ممَّن التقت بهم. فدار في نفسها السؤال: "ما بال هذه الأرض لا تنبت أخضرَ؟"

وعلى الرغم من وجوم صاحب الأرض تلك، وانعدام أيَّة دلالة على إمكانية الحياة، ألقت الفتاة بذرةً أخرى، ومضتْ.

أمست تلك الفتاة التي كانت بعمر الورد عجوزاً بعمر الزيتون والصنوبر. لقد بطؤ سيرها في درب الحياة واثَّاقلت خطاها، وسعدت بما حققته في الحياة ورضيت بما لم يتسنَّ لها أن تحقِّق. لقد شاخ كلّ ما فيها، إلَّا لبّ الثمرة التي في داخلها الذي ظلَّ كما هو، بل زاد حلاوةً وطيباً. وطوال تلك المدَّة، لم تتوانَ عن إلقاء البذور في أرض من تلتقي به في درب الحياة. كانت كلَّما التقت بأرض ذلك العابر العصيِّ ألقت في أرضه الجرداء بذرة، حتَّى امتلأت أرضه مع مرور السنين بالبذور من دون أن تشقَّ بذرة واحدة في أرضه طريقاً نحو الحياة.

مرَّت سنواتٌ أخرى، وتزلزلت أرض ذلك الرجل الجرداء بموقفٍ عصيب... قصفت الرُّعود، وهطلت الأمطار، وابتلَّت الأرض أخيراً بمياه الخير. بعد مدَّة وجيزة ظهرتْ فوق الأرض زهرة، وما لبثت الأرض أن اكتست ثوباً من أزرار الزهور مطيَّباً بأجمل العطور. لقد بُثَّت الحياة في أرض ذلك العابر لأوَّل مرَّة، وتبدَّل وجومه إلى سعادة ولين، وجرت في عروقه الحياة كأنَّه خُلق من جديد.

تذكَّر صاحبة البذور التي بادلت وُجُومه بالإصرار والمبادرة، بحث عنها كي يشكرها ولكي يريها نتاج عملها. بحث عنها كثيراً، إلَّا أنَّ دربها كان قد وصل لنهايته فلم يجدها، لكنَّه وجدها في كلِّ مَن كان قد التقى دربه مع دربها وألقتْ في أرضه بذوراً لا تموت...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين