التَّنظيمُ والإدارةُ ومَدى التّطبيقِ في الثّورةِ السّوريّة

إن النُّظم الإدارية تُعَدُّ العمود الفقري لكل المؤسسات والأحزاب والحركات الناجحة في العالم، وإن أي عمل تطغى عليه العشوائية مصيره الاضمحلال لا شك في ذلك.

إننا اليوم نعيش في عالم متطور سريع التقدم والتقلب، يحترم الأقوياء ولا يرحم الضعفاء، وإن أبرز ما يميز القوة في عصرنا الحالي الإدارة وحسن التخطيط والقدرة على توظيف الإمكانات المتوفرة... وإن الحالة التي وصلت إليها الثورة السورية لا تخفى على أحد، ولذلك أسباب كثيرة منها ما هو معلوم ومنها ما ليس معلومًا، وسأعرض في هذه العجالة للحالة الإدارية في الثورة السورية؛ لعل ذلك يسلط الضوء على أحد أهم أمراضنا التي أصابت ثورتنا السورية في مقتل.

هل قامت مؤسسات الثورة بإدارة جيدةٍ لمؤسساتها، وهل استثمرت الإمكانات البشرية والمادية المتاحة لها بشكلٍ جيدٍ أو بالشكل المطلوب؟

ما مدى التنظيم والتخطيط وتطبيق الأسس الإدارية في الثورة كركن من أركان النجاح في عالمنا المعاصر؟

قراءة في الواقع

  سوريا قبل الثورة - كحال معظم الدول النامية - كانت تعيش حالة فشلٍ إداريٍّ وحضاريٍّ على كل المستويات، رغم الفرص الكثيرة للنمو والتقدم؛ إذ كان يتسلط على حكومتها ومؤسساتها مجموعات عصابيَّة من البعثيّين والنُّصيريّين والأمنيّين، يديرونها بشكل أقرب ما يكون إلى نظم إدارة العصابات وتشكيلات المافيا، بعيدًا تمام البعد عن أساليب الإدارة المنتظمة والعادلة التي تتميز بها أنظمة الحكم الرشيد، مما منع البلاد من الاستفادة من علوم الإدارة وفنونها، والتخطيطات المعاصرة المتبعة في كل الدول المتقدمة، أو حتى الكفاءات الإدارية الموجودة بين أبناء الشعب السوري.

إن الإدارة علمٌ متكامل له قواعده ومبادئه ونظرياته الخاصة، والإدارة فنٌ يحتاج إلى خبرةٍ وذكاءٍ في الممارسة، وإن صورة إدارة العصابة القائمة على الولاءات وليس الكفاءات، أو على القرارات الارتجاليّة الأمنيّة التي تزرع الخوف في كل الدوائر الحكومية؛ لا يمكن أن تتفق بحال مع أي شكل من أشكال الإدارة الرشيدة.

إنه على الرغم من غنى سوريا بالموارد البشرية المتميزة، إضافة إلى الموقع والإمكانات المادية الجيدة، فإنها لم تكن تُدار بشكلٍ جيد ولم تستثمر قدراتها إلا في حدود شبه معدومة نتيجة لنظام الحكم الدكتاتوري وغياب أي شكل من أشكال الحكم المؤسساتي، الشورى أو الديمقراطية.

وكنتيجة لتقديم الولاءات الطائفية والحزبية على أسس الإدارة الرشيدة خلال خمسين سنة مضت لم يُسمح لأحد من ذوي الكفاءة بإدارة قطاع ما؛ إلا في حالاتٍ نادرةٍ -وعلى نطاق ضيق- لا تشكل ربيعًا، في حين تجد الدول الحديثة تسعى بكل جهد نحو توظيفٍ أمثلٍ للطاقات والإمكانات، مع استطلاع دائم لرأي الشعب وتقييمه لأداء المدراء والمسؤولين الذين يديرون شؤونه من خلال الانتخابات الدورية أو الهيئات الخاصة بالمراقبة والمتابعة، مما يجعل المسؤول في حرص دائم على رضا الشعب وتقديم أكمل الخدمات والحصول على أفضل النتائج، إن كان يبتغي الاستمرار والنجاح في عمله أو تجنب المحاسبة.

نتيجة للممارسات الطائفية للعصبة المتسلطة على مؤسسات الدولة والشعب في بلادنا قامت الثورة الثورية كحركة تطالب بالإصلاح وإنهاء الفساد والتمييز الطائفي والحزبي، ولكن نتيجة لممارسات النظام الحاكم وإراقته للدماء تحولت الثورة السورية من الحالة السلمية إلى العسكرية، وأصبحت مناطق كبيرة تحت سلطة الثورة وخارج سيطرة نظام الأسد، فأُنشئت مؤسسات مختلفة ومتنوعة لإدارة المناطق التي تخضع لسيطر الثوار لإدارة الملفات السياسية والعسكرية والخدمية، وتنظيم حركة المعابر الحدودية، وتوظيف الموارد البشرية والمادية الموجودة بكل أنواعها، ولكن للأسف -ونتيجة لاعتياد الشعب السوري مدة خمسة عقود على أساليب الإدارة البعثية الفاشلة- انتقلت أساليب الإدارة البعثية بكل أمراضها الخطيرة إلى المناطق المحررة، باستثناء التدخل الأمني، فقد كان في المناطق المحررة قليلًا نوعًا ما، وتم فتح المجال للكفاءات بنسبة أكبر للقيام بدورها في المؤسسات المُحدثة.

إن الفشل الإداري والتنظيمي في المناطق المحررة كان من الوضوح بما لا يخفى على أحد، وإن هذا الأمر يعود لاعتبارات كثيرة جدًّا ذاتية داخلية -وهي الأكبر- وعوامل أخرى خارجية أدَّت دورًا لا يستهان به في حالة الفشل التنظيمي والإداري لمؤسسات الثورة الناشئة في ظروف استثنائية يمكن أن تقبل فيها بعض الأخطاء وحالات الفوضى، لكن الأمر الذي لم يكن مقبولًا بحال استمرارُ حالة الفوضى بل وازديادُها على مدى ثماني سنوات من عمر الثورة.

إن معرفة الأسباب التي أدت إلى الفوضى وسوء الإدارة تُعَدُّ الخطوة الأولى للعلاج واستدراك ما فات، وسأعرض هنا أبرز أسباب ضعف التنظيم والإدارة في الثورة، من خلال التطبيق على عدة مؤسسات موجودة وعاملة على الأراضي السورية.

أبرز أسباب الغياب الإداري والتنظيمي في الثورة

إن المطّلع على واقع الثورة السورية يعلم تمام العلم أن الحالة التي وصلت إليها اليوم كانت نتيجة لمجموعة من الأسباب الإقليمية والدولية والاجتماعية والإيديولوجية والتنظيمية، ولكنها كلها تندرج تحت قسمين أساسيين، هما الأسباب الداخلية والأسباب الخارجية.

الأسباب الذاتية الداخلية:

إن استقراء جميع الأسباب الداخلية لسوء الإدارة من الصعوبة بمكان، ويحتاج إلى دراسات كثيرة، وسأتعرض لأهم هذه الأسباب بحسب معاينتي للواقع:

1- غياب المؤسسة الواحدة والجسم الواحد:

إن غيابَ المؤسسة الواحدة التي تشرف على كل قطاع وتوزع السلطات والصلاحيات فيه، وتنسق بين مؤسساته سببٌ أساس في إفشال الحالة الإدارية، إذ إن لمؤسسات كل قطاع مواردها الخاصة بها التي تشرف عليها إدارة موحدة توزع عليها الموارد والمهام بشكل عادل.. ولكن غياب هذا الجسم الواحد أدى إلى توزيعٍ غيرِ عادلٍ للمهام والموارد والاختصاصيين، فتشتت الطاقات، وعمَّت الفوضى، ونشأت سلطات متعددة ومؤسسات متنوعة، تؤدي كل منها جزءا من المطلوب بحسب إدارتها ومواردها الذاتية، مما أدى إلى استهلاك واستنزاف كبير ونتائج أقل ولا سِميّا في المجالات الخدمية.

والحقيقة أن الذي أوجد هذه الحالة عوامل كثيرة، منها إرث تاريخي كبير من غياب الحالة الجماعية والتنظيمية لدى الشعب السوري في ظل حكم الطائفة، وغياب العقد الاجتماعي لدى السوريين وضعف الشعور بالانتماء إلى الوطن أو من يمثله، أو العمل لأجل المصلحة العامة، إضافة إلى حالة الانعتاق من المؤسسات الأمنية التي تعقبها حالة لا إرادية من الفوضى والتشتت، ولكن استمرار هذه الحالة المخزية من التشتت وعدم التنظيم ليس مسوِّغاً أبدا؛ ولاسِيّما مع مرور سنواتٍ، وإن كان يُمكن تسويغه وفهمه في الأشهر الأولى من الثورة فقط.

2- الأطراف تدير المركز:

تحولت حالة الإدارة الطبيعية للمناطق المحررة من المركز إلى الأطراف، أي من مراكز المدن إلى أرياف المدن، وهذا خلاف الحالة الطبيعية في الإدارة وسرعة الاستجابة، كما أن الخبرات القادرة على إدارة المؤسسات عادة ما تتجمع في المركز أي في المدن، قرب المراكز الحيوية فيها، حيث تتوفر الخبرات التراكمية المدربة... كما أنه أصبح صاحب القوة أو من يسيطر أو يحرر منطقة هو من يديرها ويعين من يشرف على هذه المؤسسات والمراكز وهو لا يملك الخبرة المناسبة التي تؤهله لذلك، وفي أحيان كثيرة سُخِّرت المؤسسات لمصلحة الفرد أو العائلة كاستمرار طبيعي للثقافة التي رسخها حزب البعث في المجتمع السوري.

3- غياب الوعي:

من أسباب الفشل أيضًا غياب الوعي تجاه هذه المنشآت على أنها ملك للشعب وليست ملكًا للنظام، وعدم التمييز بين المؤسسات الخدمية التي لا ينبغي المساس بها وبين المؤسسات الطائفية والحزبية التي تمثل النظام ويسيطر من خلالها على أركان الدولة، فتم التعامل مع المؤسسات على أنها سواء، وأصبح التعامل على أساس انتماء الموظف ومدير المؤسسة ورأيه السياسي، وليس على أساس خبرته، إضافة إلى عدم تأمين البديل المناسب لمن مُنعوا من العمل.

4- قلة الخبرات الإدارية:

من الأسباب أيضا قلة الخبرات الإدارية التي تجمع بين المعرفة النظرية والخبرة العملية، مع الاستعداد الشخصي، أقصد بمستوى خبراء وليس مبتدئين، أو بتعبير القرآن الكريم {القوي الأمين}.

5- تدمير نظام الأسد للبنى التحتية:

تَعَمَّدَ نظام الأسد تدمير كثيرٍ من المنشآت الخدمية والمؤسسات التي يمكن الاستفادة منها؛ إذ عمد إلى تدمير البنى التحتيّة والمراكز الحيوية من أجل سلب الناس الشعورَ بالاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرته، ومنع الناس من الاستفادة من هذه المراكز، وإفشال أي تجربة إدارية ناجحة في تلك المناطق.

6- عدم استثمار الموارد:

إن الموارد المادية في المناطق المحررة بعمومها تقسمت بين القوى العسكرية المسيطرة، ولم تحصل حالة استثمار منظمة لها تعود بالفائدة العامة على المناطق التي تحكمها، وأبرز هذه المواد المهدرة النفط والغاز والمعابر والمحاصيل الزراعية والمنشآت الاقتصادية؛ إذ تراجع إنتاج كثير من هذه المواد، وهُمِّشت مؤسساتها، وكان كل ذلك نتيجة حتمية لغياب المؤسسة الواحدة والجسم الواحد، وتعدد السلطات واختلافها فيما بينها.

7- تدخل الحالة العسكرية بالإدارة المدنية:

 لقد كان لتدخل الفصائل العسكرية في المؤسسات المدنية للمناطق المحررة دورٌ كبير في إفشال كثير من التجارب الإدارية التي ظهرت فيها بوادر النجاح والأمل، ولا سِيّما التنظيمات الإيديولوجية والقوى الانفصالية التي كانت تسعى إلى أهداف خاصة لا تتفق أبدًا مع أهداف الشعب والثورة.

8- التوجه نحو الدعم الخارجي:

لقد كان لتوجه الناس نحو الدعم الخارجي بدل السعي للاكتفاء الذاتي عبر إدارة الموارد واستثمارها بالشكل الصحيح؛ أثرٌ كبير في فشل الحالة الإدارية ومنجزات الثورة عمومًا.

9- انفصال السلطة عن الخبرة:

كان ذوو الخبرة بلا سلطة للإنجاز، وأصحاب السلطة بلا خبرة؛ إذ لم تستقطب هذه المؤسسات ذوي الخبرات، ولم يتم الاستفادة من الخبراء الذين ابتعدوا أو انشقوا عن النظام، مما أجبرهم لاحقا على الالتحاق بأعمال فردية بحثًا عن سبل البقاء والحصول على لقمة العيش في بلاد الهجرة، وبعضهم اضطر للسفر والهجرة بحثًا عن حق اللجوء في بعض الدول التي تمنحه.

10- غياب الرقابة والمحاسبة:

 لقد كان لغياب الرقابة أثرٌ كبيرٌ في انفلات المؤسسات، إذ المخطئ يحتاج من يردعه ويوقفه عند حده، ومن المعلوم ضرورة في كل النظم الإدارية أن مراقبة الأداء ومحاسبة المقصر من أهم أسباب النجاح والتقدم المؤسساتي.

الأسباب الخارجية:

بعد ذكر أبرز الأسباب الذاتية الداخلية للفشل التنظيمي والإداري سأذكر أبرز الأسباب الخارجية... وأقصد بالأسباب الخارجية ما كان خارج المناطق المحررة أو مناطق سيطرة المعارضة، أو ما كان خارج قدرة قوى الثورة والمعارضة، وليس خارج سوريا فقط، وهذه الأسباب كثيرة أيضًا، وسأقتصر على ذكر أهمها، وهي:

1- القصف المستمر:

القصف المستمر من قبل النظام وحلفائه بأسلحة ذات قدرة تدميرية عالية، ومنها ما هو محظور دوليًّا، مما جعل العمل في ظل هذه الأجواء خطِرًا للغاية، فكانت حالة اللجوء والنزوح الداخلي حالة مستمرة لم تتوقف إلى يومنا هذا، لكن تختلف صعودًا وهبوطًا حسب الأوضاع المتقلبة.

2- عدم وجود حكومة موحَّدة:

لقد تم طرح تشكيل حكومة مؤقتة في المناطق المحرّرة، لكن لم يكن موقف أصدقاء الشعب السوري واحدًا تجاهها، فكانت هناك تباينات من الدفع بها والتردد بدعمها والتعامل معها أو الاعتراف بها، نظرًا لعدم تحقيقها لمصالحهم الخاصة، وعندما تمَّ تشكيل حكومة مؤقتة في الخارج سعت كثير من الدول لوضع أسباب فشلها، إذ لم تتشكل من القوى الحقيقية الممثِّلة للشعب السوري، مما أضعف فاعليتها، ولا سِيّما أنها لم تستوعب الداخل المحرر، فبقيت حالةً مُشْكلة من ضمن الحالات الكثيرة خصوصًا الجناح العسكري لها، مما أبقاها متناثرة تُدار من قبل مدنيّين عاديّين، لا خبرة لهم ولا سلطة على الأرض، فبقي دورها جزئيًّا، أو بالأحرى بقيت بلا دور حقيقي في الواقع.

3- اختلاف الرؤى والأهداف لدى دول الأصدقاء:

وكان هذا من أسباب إفشال الحالة التنظيمية للمناطق المحررة، إذ لم يكن الحرص الخارجي -ممن سُمّوا أصدقاء الشعب السوري- على التعامل مع الكل، وإنما كانوا يفضلون التعاطي مع الجزء الذي يناسبهم حسب التوجه الفكري السياسي أو الإيديولوجي الذي يمثله القائمون على مؤسسة ما، وهذا رسّخ حالة الانقسام والتعدد وتكريس مصلحة الفرد والجماعة، لهذا غابت المؤسسة التي تدير التطبيق الإداري بمنهجيةٍ موضوعيةٍ علميةٍ، وترسخت حالة عدم وجود الجسم الواحد الذي يدير المؤسسات ويوزع السلطات.

4- عدم وجود منطقة آمنة:

كان لانعدام الأمن واستمرار القصف العشوائي على المناطق المحررة أثرٌ كبير في إفشال العمل المؤسساتيِّ، حيث أصبح من المتعذر في هذه المناطق العمل بشكلٍ آمنٍ وحرّ.

5- التنظيمات المجهولة:

لعل السبب الخارجي الأهم في منع وجود حالة إدارية مستقرة في مناطقنا ما قامت به دول شتى بالتعاون مع نظام الأسد أو حلفائه الإقليميين من إغراق الساحة السورية بأشخاص مجهولين قدِموا عبر الحدود ليقيموا مشروعًا خاصًّا متطرفًا لا علاقة له بالوضع السوري، استغل الدين واحترام الناس له لإفشال المشروع السوري داخليًّا وخارجيًّا وضرب الحالة السورية ومنع أيّ مؤسسة من التطور أو النجاح، والوقوف سدًّا منيعا ضد أي حالة إدارية، وقد كانت هناك حالة تخادم دائمة بين نظام الأسد وبين هذه القوى الظلامية التي تُعَدُّ السلاح الأقوى الذي أسهم في إيصال الحالة السورية إلى ما نراه عليها اليوم.

الواقع الحالي والحلول

إن الواقع الحالي اليوم في المناطق المحررة مختلف تمامًا عن السابق، وهناك ظروف جديدة نحتاج فهمها من أجل العمل بما يناسب المرحلة انطلاقًا نحو الهدف، وهذا عمل الإداريين؛ إذ يُشخِّصون الواقع الحالي، ثم يضعون الخطط المرحلية التشغيلية والخطط الاستراتيجية بعيدة المدى وفق الأهداف المقررة مسبقا.

إن الإداريّ الجيد هو الذي يُحسن تشخيص واقعه كما يحسن التنبؤ وقراءة المستقبل، يعرف كيف يستثمر الموارد المتاحة والاستثمار الأمثل لنتائج أفضل؛ مستوعبا خلال ذلك كل الأدوات المتاحة والفرص وحتى التحديات التي أمامه، فما كان في السابق تحديًا هو اليوم فرصة، والعكس أيضًا صحيح.

توجد في مناطقنا اليوم حالة من نفوذٍ دوليٍ متوزّعٍ، يرافقها دفع باتجاه حلٍ سياسيٍّ لم تتبلور صورته حتى الآن، كما نلاحظ انخفاض القصف في مناطق النفوذ الدولي وانعدامه تمامًا في مناطق أخرى، حتى عادت أشكال الحياة شبه طبيعية، لكن بظل مخلّفات حرب قاسية.

الآن ظرفٌ وواقعٌ جديدٌ وواجباتٌ كبيرةٌ، ولا سِيّما بعد حالات التّهجير التي طالت كثيرين، وواجبنا اليوم تلافي كل أسباب الفشل الإداريِّ الذاتية، واستغلال تغير الوضع الخارجي، فهناك مناطقُ آمنةٌ ولا تزال أمامنا فرصٌ كثيرةٌ للاستفادة منها وإدارة المناطق بكل مواردها وتجميع كل الطاقات وتوظيفها وتقديم الخبرات، كما أن هناك عددًا من الكوادر التي اكتسبت خبراتٍ جيدةً طيلة السنين الماضية، يمكن الاستفادة منها، وخاصة في ظل وجود أعداد من منظمات العمل المجتمعي التي تحركت في هذه المساحات وعملت بحرفية لسنوات من أجل المجتمع.

هناك الواجب المتأخر جدًّا وهو السعي للجسم الواحد المنظم، الذي يستقطب الكفاءات ويشرف على كل النواحي الإدارية والتنظيمية ويضع استراتيجيات عملها.

إن تشكيل الجسم الواحد للمناطق المحررة سيحسن شروط التفاوض والعملية السياسية، فالصراع في منطقتنا ليس عسكريًّا فقط، وإنما هو سياسي واقتصادي واجتماعي أيضًا.

حتى وإن رأينا شبه توقف للصراع العسكري مع نظام الأسد، فإنه سيستمر بمجالات مختلفة سياسية واقتصادية وحقوقية، كما أنه سيستمر من خلال النضال المدني الشعبي، وإدارة المناطق المحررة بشكل صحيح وإعطاء نموذجٍ عصريٍّ علميٍّ لإدارة القطاعات الخدمية، والعمل على استقرار الأهالي وخدمتهم... وهكذا ستكون الثورة قد تحولت إلى شكلها الجديد، ولا سيما بعد أن انكشفت كل الجماعات المتطرفة والانفصالية أمام المخدوعين والمغرَّر بهم.

إن عدالة قضيتنا لا يكسبها القدرةَ على الاستمرار أو النجاح، بل لا بد لها من إدارة وتنظيم كي تصل إلى مرحلة تستطيع فيها تحقيق آمال شعبنا في الخلاص من العصابة المتسلطة، وتستحق فيها أن تُحترم من قبل الجميع.

إن غياب الإدارة يعني الفوضى دائمًا، والفوضى تعني الفشل، وقد تنجح قضية ما بالفوضى مرَّة واحدة، ولكن هذا النجاح لن يدوم بالتأكيد... وإذا غاب التخطيط فالبديل هو الارتجال والانفعال.

إذا غاب التنظيم عبر السلطة الواحدة فالبديل هو التشرذم والسلطات المتعددة والمتخاصمة، والنتيجة هي الضياع، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال: آية 46].

لقد حملْنا أسبابَ الفشلِ المرِّ لسنين، وقد آن الأوان لنتخلص من هذه الأسباب المتمثلة في غياب القيادة والسلطة الواحدة وسوء التنظيم والإدارة، وإن الاستمرار هكذا يعني المزيد من الاستنزاف والضياع والخسائر... وأختم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه))[1].

المصدر: العدد الثالث من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

=====

 [1] أخرجه أبو يعلى والطبراني.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين