الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً (6)

على المكلف للمؤمن بهذا الدين الإسلامي أن يأمر بالمعروف، وهو ما أمر الله تعالى به، وأن ينهي عن المنكر، وهو ما نهى الله تعالى عنه، لا يفرق في هذا بين واحد وواحد، فإن أخلت الأمَّة هذا الواجب ولم يقم به أحد أثمت الأمَّة كلها إثم التارك للفريضة.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات: أعلاها أن يتقدم الآمر الناهي إلى فاعل المنكر فيحول بينه وبينه ويرغمه على تركه إرغاماً، ودون هذا من يقول بلسانه للعاصي أنت تفعل حراماً لا يرضاه مولانا، وعليك أن تقلع عنه حالاً، وآخر المراتب من ينطوي قلبه على إنكار ما يرى من المعاصي وكراهة ذلك وتمنى زواله حالاً، وإنما كانت الدرجات بهذا الترتيب في الفضل لأن الغيرة في كل من الأولى والثانية أوفر من التي عليها، ولهذا كان أثرها أقوى، ومسلَّم أن الغيرة تكون على قدر الحب فكلما كان الحب أقوى كانت الغيرة أعظم، ومن يخالف في أنَّ الأعظم حباً للإسلام أفضل من الذي يقل عنه في ذلك الحب ؟ إذا فهمت هذا تفهم قوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرا فغيره بده قد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيَّره بلسانه فغيره بقليه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان) رواه الترمذي والنسائي وهذا لفظ النسائي.

وقوله صلى الله عليه وسلم في كل مرتبة من هذه المراتب الثلاثة: (فقد برئ) يُفيد أنَّ من يرى منكراً ولا يكون منه حتى الدرجة الأخيرة ليس ببرئ عند الله تعالى، وكيف يبرأ من ماتت في قلبه الغيرة على ربِّه وعلى دينه لدرجة أنه لا يعنيه أأطيع ربه أم عصي، ولعلك تفهم من قوله صلى الله عليه وسلم (وذلك أضعف الإيمان) درجة أولئك الذين لا يشعرون بكراهة المعاصي، ويفهمك درجة هؤلاء أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها) رواه أبو داود.

ولا تنسى ما قدمنا لك، وهو أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسقط عن الأمَّة إذا قام بها بعض الأمَّة ؛ أما إذا تركها الكل فالكل آثمون، إثم تارك الفريضة كما يفيد ذلك قوله تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ] {آل عمران:104} ، أي واجب عليكم أيها المؤمنون إذا رأيتم معروفاً متروكاً أن يأمر بعضكم به، وإذا رأيتم منكراً مفعولاً أن ينهي بعضكم عنه، في أي جهة من جهات الدنيا ذلك المنكر، والمخاطب بذلك في كل جهة أهلها لما أنهم العالمون بما فيها، أما غيرهم من أهل الجهات الأخرى فلا يتجه عليهم ذلك لجهلهم بما ليس في جهتهم، ولو علموه وجب عليهم إذا لم يقم أهلها به.

وهذا الأمر والنهي جهاد في سبيل الله، بل ورد (أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، رواه النسائي وابن ماجه.

ومن هذا البيان تعلم أن الأمر والنهي لا يتوقفان على إذن أحد، ولا يملك أحد أن يمنع القائم به، ومن يستطيع أن يمنع أمراً أوجبه رب الجميع سبحانه إيجاباً؟

وتفهم أيضا من هذا البيان: أنَّ هذا الإيجاب متجه على الناس، وإن وضعت مصطلحات أرضية تحرم الواجبات وتوجب المحرمات لأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلأي مؤمن أن ينهي أسمى العالم منزلة في الدنيا عن معاصيه، له ذلك بمقتضى الأمر الإلهي الذي وُجِه إليه من مولاه البصير الحسيب، ومن أنكر عليه ذلك فانه ينكر معروفاً ولا يعجبه تشريع ربنا الحكيم العليم.

وإنا نرجو من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون حلو القول ليِّن الجانب ليلتفَّ الناس حوله وينتفعوا بعِظته. وأن يحذر الغلظة والجفاء والفحش في القول فإن ذلك ينفّر الناس منه ويقلِّل أو يعدم نفعه، وهذا ما يقوله ربنا تعالى لسيد خلقه صلى الله عليه وسلم [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159} .

وأن يكون واسع الصدر جَلْداً صبوراً حمولاً لما يوجهه إليه السفهاء من سَفه وإيذاء، فإن ذاك أوقر وأهيب وأمكن له في أداء وظيفته.

وليتأمل قول الله تعالى حكاية عن سيدنا لقمان وهو يعظ ابنه بقوله : [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان:17} فإن قوله :[ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ] {لقمان:17} بعد قوله :[ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ] {لقمان:17} يفهمك أنَّ إيذاء البشر للآمر الناهي لهم كأنه أمر طبيعي لابدَّ منه، وإذن لابدَّ من الصبر عليه ليتمكّن المرشد من القيام بعمله فإنه لو غضب مضت أوقاته في معارك مع السفهاء فيكون موضع ضحك عليه أو سخرية، ومثله لا ينفع، وأن يكون جريئاً شجاعاً ليصدع بالحق لا يخاف لومة لائم في ذاك، فإن من آيات تلاشي هذه الأمَّة وفنائها أن تهاب أن تقول للظالم يا ظالم، كما يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك ظالم قد تُودِّع منهم) رواه الحاكم وأحمد والطبراني والبيهقي

وأن يكون غاضَّ الطرف عن دنياهم قابض اليد عمَّا في أيديهم، فإن الأموال لها في قلوب الناس مكانها، فمن أحسوا منه الطمع فيها فارقوه إلى غير تلاق، وهذا ليس من صالح الداعي إلى الله تعالى، ولهذا كان النبي إذا أرسل إلى قومه قال لهم [وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ] {هود:29} ، كما حكى ذلك ربنا سبحانه عن بعضهم وهو مبدأ الجميع.

ومن هذا يفهم قوم أين هم من دين الله تعالى وقد جعلوا الإرشاد حرفة يجمعون بها الأموال من الناس.

وأن يكون متعلماً فاهماً ما أمر به وما نهى عنه، فإن الجاهل يضر من حيث أراد النفع.

وأن يكون هو عاملاً بما يدعو إليه وإلا كان سخرية بين من يدعوهم، وما رأيتُ أضر على العامَّة من عالم فاسق فإنهم يتبعونه، ولو قال لهم هو: لا تتبعوني، ولو قام فيهم ألف واعظ يقولون لهم لا تتبعوه لأن النفوس جبلت على استخفاف الرذيلة واستثقال الفضيلة، فإذا رأت من تقتدي به فيها هرعت اليه لا تلوي على شيء، هذه كلمات في هذا الباب باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أرجو أن تراعيها والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين