ماذا بقي من قيم الهجرة النبوية الشريفة فينا؟

مع مطلع كل عام هجري نحتفل بذكرى الهجرة النبوية الشريفة، ومع العلم بأنها كانت في شهر ربيع الأول إلا أن الصحابة رضوان الله عليهم اتفقت كلمتهم أن يكون بداية التأريخ من الهجرة، وأن تكون بداية العام شهر المحرم.

أما اتفاقهم على الهجرة لتكون أساس التأريخ الإسلامي ومبتدأه فلأمور تتعلق بهوية الأمة وتميزها، وقد استنبطوا ذلك من قوله تعالى في سورة التوبة؛ في مسجد (ضرار) الذي بناه المنافقون لتفرقة كلمة المسلمين وجعله مكانا لاجتماع المتآمرين عليهم؛ ناهيا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة فيه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}

والمسجد الذي أسس على التقوى قيل: هو المسجد النبوي الشريف، وهو أرجح الأقوال، وقيل: هو مسجد قُباء في بني عمرو بن عوف. 

وسواء كان هذا أو ذاك فإن المسجدين بنيا عقب الهجرة النبوية المشرفة، فكانت الهجرة هي المشار إليها في قوله تعالى (من أول يوم) لذلك جُعلت الهجرةُ مبتدأ التاريخ الإسلامي. وهو استنباط غاية في الدقة واللطف.

وأما اعتماد شهر المحرم فلأنه مبتدأ مرجع الناس من الحج، فيستقبلون عامهم الجديد بهمة ونشاط.

وهكذا ارتبط تحديد التاريخ الهجري بهوية الأمة الخاصة التي تستمدها من قيم دينها، تلك القيم التي تحض على مكارم الأخلاق وتكره سفسافها.

ونحن إذا تأملنا الأحداث المتعلقة بالهجرة النبوية الشريفة، سواء ما كان مقدمات لها أو ما نتج عنها، فإننا لن يصعب علينا الوقوف على هذه المعاني.

مقدمات الهجرة:

من المعلوم أن من إرهاصات الهجرة بيعتي العقبة الأولى والثانية، اللتين بايع فيها أهل المدينة (يثرب) من الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي مفردات البيعة، وهي العهد الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، نجد هذه المعاني الإنسانية والقيم الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع المسلم. 

فعن الصحابي الجليل، ابن المدينة، عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى: أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن وفّيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا، فأُخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارة له، وإن سُترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذّب، وإن شاء غفر)

يا ألله .. رجل ملاحق من قبل الطغاة، يضيقون عليه وعلى دعوته في كل نادٍ، ويجهدون في محاربته ومحاربة أتباعه، وفي لحظة الفرج التي لاحت، أنظروا ما الذي بايعه عليه الأنصار... بايعوه على محاسن الأخلاق وجميل الشيم، وعلى حفظ أعراض الناس وحقوقهم المادية والمعنوية، لنعلم أن حقيقة الهجرة وفلسفتها هي حفظ الحقوق وضمان الحريات. «هذا ما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إليه، وكانت الجاهلية تنكره عليه. أيكره هذه العهود إلا مجرم يحبّ للناس الريبة، ويودّ للأرض الفساد؟!.«.

ويؤكد ذلك ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لوفد من كبار علماء التابعين، جاؤوها يسألونها عن الهجرة الشريفة التي كانت من أهم المشاركين فيها، فقالت لهم: (لاَ هِجْرَةَ اليَوْمَ، كَانَ المُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا اليَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ، وَاليَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ).

أثناء الهجرة:

ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته الذي طوقته قوة ضاربة من شباب قريش في محاولة لمنعه من الخروج أو لقتله إن لزم الأمر، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}

هم وضعوا خطة محكمة في غاية المكر والدهاء، مفادها أن تقوم مجموعة من شباب العرب من قبائل شتى بالإحاطة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج ضربوه جميعا ضربة رجل واحد فقتلوه، وهكذا يتفرق دمه في القبائل فلا يملك بنو هاشم طلب الثأر لأنهم لا طاقة لهم بحرب العرب. 

هذا هو مكرهم، وهذا هو تخطيطهم، غاية ما يعقلونه مراعاة البشر، ولا يخطر لهم على بال قدرة الله تعالى على إبطال مكرهم وكيدهم، وهكذا يخرج النبي عليه الصلاة والسلام من بينهم وهم ينظرون ولا ينظرون، ويتجاوزهم، وهم لا يشكون أنه لا زال في فراشه لأنهم يرون رجلا في الفراش، من هو هذا الرجل؟ إنه الفتى البطل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. 

ولم بقي في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 

بقي ليرد في اليوم التالي الودائع والأمانات إلى أصحابها. 

ودائع من؟ وأمانات من؟ 

ودائع وأمانات أهل مكة الذي يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسعون في قتله، ما هذا؟ أيضعون عنده أماناتهم؟ نعم فهم يعلمون تمام العلم بأنه الصادق الأمين. 

ولكنه لَقَبٌ لُقِّبَ به قبل البعثة؟ وبقي بعد البعثة ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله تعالى، فلم لم يسحبوا ودائعهم؟ 

لأنهم يعلمون تمام العلم أنه هو هو الصادق الأمين... ومع أن قريشا صادرت أموال المهاجرين الذين سبقوا رسول الله إلى المدينة بفترة، إلا أنه لم يستجز أن تؤخذ الودائع والأمانات .. لماذا؟ لأنها ودائع وأمانات، والإسلام أمرنا بأداء الأمانة إلى أهلها، كائنا من كان أهلها، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً }. وأمرنا بالوفاء بالعهود { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا} فمهما كانت الظروف فليس للمسلم أن يفلسف الحرام ليستحله لنفسه .. بأبي أنت وأمي يا سيدي يا رسول الله.

الهجرةُ بعد الهجرة: 

وصل نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، ثم عمل على تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع في يثرب، وهو مجتمع متنوع من حيث الأعراق والعقائد، ففيه المسلمون، وفيه الوثنيون، وفيه أهل الكتاب (اليهود) ، وفيه المنافقون.. فكتب وثيقة المدينة المنورة الدستورية التي نظمت العلاقة بين مكونات المجتمع. وأُمِرَ المسلمون في كل مكان باللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، ومن بقي في أرضه ليس بينه وبين المسلمين أية ولاية، كما قال تعالى في سورة الأنفال التي نزلت في العام الثاني للهجرة { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا}

ومع ذلك بقيت مجموعة من المسلمين هاجرت قديما إلى الحبشة هناك حتى السنة السابعة للهجرة، ولم يؤمروا بالعودة، ولو بحثنا عن السبب سنجده في تلك الكلمة التي امتدح الله تعالى فيها ملك الحبشة يوم طلب من صحابته الهجرة إليها: (إن فيها ملك لا يظلم عنده أحد)، وهو ما فهمته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالته لأولئك النفر الذين سألوها عن الهجرة... 

فالأرض التي يقام فيها العدل بحيث لا يُضيَّقُ على المسلم فيها ولا يمنع من أداء شعائره هي أرض صالحة للعيش فيها ولا تجب عليه الهجرة منها... وهو ما ذهبت إليه الشافعية أنه إذا وجد مسلم في أرض يظهر فيها شعائر الإسلام ولا يوجد غيره تصبح به أرض إسلام ويحرم عليه الهجرة منها. إنها مكان يجد فيه المؤمن الأمان الذي هو ثلث الغنى، كما في حديث الصحابي الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا)

فالأمن نعمة عظمى يمن الله تعالى بها على عباده، وهي تحتاج من المؤمن شكرها، وشكر النعمة يكون من جنسها، وبالتالي إذا أنعم الله على عبد بالأمان في أرض فعليه أن يسعى على الحفاظ على هذه النعمة وأن لا يسمح على الإطلاق لأحد كائنا من كان أن يتخذها وسيلة للاعتداء على حقوق الآخرين.

إذن الهجرة هي لحرية العبادة والمعتقد، حتى لا يُكره أحد على ترك دينه وفعل ما لا يريده، وهي للحصول على نعمة الأمن، كما جاءت لحفظ الحقوق والأعراض. لذلك جاءت الأحاديث النبوية بعد ذلك تبين هذا المعنى في الهجرة وتعطيها تلك الأبعاد القيمية والإنسانية. 

ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من المهاجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه).

وفي رواية أن رجلا أتى عبدَ الله بنَ عمرو قائلا له: أخبرني بشيء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).

ويوم خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبته الجامعة في حجة الوداع أكد على هذا المعنى للهجرة ، فقال: (ألا أُخبركم بالمؤمن؟ من أمِنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الذنوب والخطايا).

ما أجمل هذه التوجيهات التي جاءت في البيان الختامي المحكم الجامع الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أكبر حشد للمؤمنين اجتمع في زمنه ليفهمهم أن قيم الهجرة هي مكارم الأخلاق، ٍوهي حفظ الأعراض، وحفظ الحقوق، وحفظ كرامات الناس. 

إنها القيم التي على أساسها يأتي النصر والتمكين، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. وهي القيم التي أمرنا بالعمل بها إن حصل التمكين {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ}. 

أما اليوم فمجتمعاتنا المسلمة في غاية الغربة عن هذه القيم، والمسلمون حيالها قسمان: قسم يتعامل معها على طريقة الكلمات المتقاطعة يختار منها ما يناسبه، وقسم آخر يختار طريقا ويريد من الإسلام أن يشرعنه له، ورحم الله تعالى الإمام ابن الجوزي القائل: المسلم مطالبٌ باتباع الدليل، لا أن يسلك طريقا ثم يتطلب له الدليل!!.. 

وما لم تتغير النفوس وتتجرد فالأمر إلى الله تعالى وحده، ذلك أن الله تعالى {لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين