بصائر إيمانية (1)

هذه الخطبة من خطب جامع السلام في حلب الشهباء بتاريخ 22/ربيع الآخر/1398 الموافق 31/آذار/1978م ، وقد تكرَّم الأخ الكريم الأستاذ طارق قباوة بإحيائها وطباعتها، وطلب مني مراجعتها وأسأل الله سبحانه أن يتقبل مني، ويجعل هذه الكلمات من العلم الذي ينتفع به، وشكر الله للأخ الكريم طارق الذي أحيا ما اندرس من تلك الأوراق الكثيرة التي كتبتها بقلمي وألقيتها في خطب الجمعة على منابر مساجد حلب وغيرهاوأسأله سبحانه أن يردنا إلى بلادنا لنتابع سيرة الدعوة والعلم، وأن يبارك في أعمارنا وعلمنا وعملنا وذرياتنا، ويرزقنا السداد والإخلاص في أقوالنا وأعمالنا.

إننا نعيش في عصر خبت فيه شعلة الإيمان، وضعف فيه نور الإسلام، وسيطرت الدنيا بمظاهرها وشهواتها على القلوب، فملأتها خوفاً وذلاً، وقلقاً وضياعاً، وسلبتها الأمن والإيمان، والسلام والإسلام...والطمأنينة والرضا وجعلتها حائرة تائهة...

كريشةٍ في مهب الريح طائرةٍ لا تستقر على حال من القلق

ويكمن الخطر، وتعظم المصيبة عندما يظن هؤلاء القوم أنهم مؤمنون، وأنهم على طريق الإسلام والإيمان لم ينحرفوا ولم يتراجعوا...وجهلوا أنهم ما عرفوا حقيقة الإيمان بعد... وما ذاقوا حلاوته، وما أحسوا طعمه، إنما هو خداع النفس، وتزيين الشيطان و الهوى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) ]. {البقرة}..

إنَّ الناس قد ابتذلوا كلمة الإيمان فوضعوها في غير موضعها، فأصبحنا نقرأ ونسمع عن إيمان بالعلمانية، وإيمان بالقومية، وإيمان بالثورة.. وغير ذلك مما ابتدع البشر لأنفسهم مما لم يأذن به الله.. وليقل الناس ما شاؤوا فلن يضيرنا ذلك إذا عرفنا نحن الإيمان الذي نريد.

إنه الإيمان الحق الذي يظهر في خاتمة العقائد السماوية، عقيدة الإسلام.

هذا الإيمان الذي بعث به أنبياء الله، ونزلت به كتب السماء... إنه الإيمان أعلنه آدم لبنيه، وأعلنه نوح في قومه، ودعا إليه هود وصالح عاداً وثموداً، ونادى به إبراهيم وإسماعيل وإسحاق... وأكده موسى في توراته، وداود في زبوره، وعيسى في إنجيله.

إنه إيمانٌ واضح لا تعقيد فيه ولا غموض، وإلهٌ واحد لا شريك له ولا شبيه ولا صاحبة ولا ولد:[ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ] {البقرة:116} .

إنه إيمان الفطرة، وهذا هو صريح القرآن:[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:30}. وصريح الحديث النبوي الذي يرويه البخاري ومسلم:«كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

وإنه إيمان ثابت لا يقبل التحريف ولا التبديل، فليس لكاهن من الكهان، ولا لمجمع من المجامع، أو مؤتمر من المؤتمرات أن يضيف إليه أو فيه.

والله سبحانه يقول مستفسراً:[أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {الشُّورى:21}.

ويدعو رسوله إلى الثبات على هذا الإيمان: [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الزُّخرف:43}.[فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ] {النمل:79} وكذلك هو إيمان مبرهن لا يقرر القضايا بالالتزام المجرد، والتكليف الصارم، بل يخاطب العقل والفكر بالحجة الدامغة والبرهان الساطع:[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] {البقرة:164} .

إنه الإيمان الذي ينفذ إلى العقل فيفتقه، وإلى القلب فيهزه، وإلى الوجدان فيحركه، ويدعو إلى التفكر والنظر:[قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ] {يونس:101}. وكأنَّ لسان حال الإيمان ينادي كل مؤمن بقوله:

«قم إلى السماء تقصَّ النظر، وقُصَّ الأثر، واجمع الخُبر والخَبر، كيف ترى ائتلاف الفلك واختلاف النور والحلك. تعالى الله دلَّ الُملك على المَلك.

وقف بالأرض سَلْها: من زمَّ السحاب وأجراها، ورحَّل الرياح وعراها؟ ومن أذعد الجبال وأنهض ذراها؟ فتخرُّ له في غدٍ جباها؟ أليس الذي بدأها غبرات، ثم جمعها صخرات، ثم فرقها مشمخرات؟

ثم سل النمل من أدقَّها خَلْقاً، وملأها خُلُقاً، وسلكها طرقاً، تبتغي رزقاً؟

وسل النحل من ألبسها الحِبَر، وقلَّدها الإبَر، وأطعمها صَفْوَ الزهر؟ وسخَّرها طاهيةً للبشر» كما يقول أحمد شوقي ـ رحمه الله تعالى ـ ؟.

إنَّ هذه الآيات لتنطق أن وراءها صانعاً حكيماً، فإذا ما نفذ هذا الإيمان الواضح الثابت الفطري إلى بشاشة القلب، اتجهت الإرادة، واستجابت الجوارح لأنه عن تصديق لا يرد عليه شك ولا ارتياب... إيمان ثابت مستيقن لا يتزعزع ولا يضطرب ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا] {الحجرات:15} . وهذا التصديق يتمثل في الخضوع والطاعة مع الرضا والتسليم:[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}. [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {النور:51} .ولابد أن يتبع تلك المعرفة، وهذا الإذعان حرارة قلبية تبعث على العمل بمقتضيات الإيمان:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) ]. {الأنفال}..

الإيمان ثمرة طيبة من ذاق حلاوتها عرف، ومن لم يذق يرثى لحاله، ويعزَّى في ذات نفسه...

وأول هذه الثمرات من دوحة الإيمان وشجرة التوحيد: أن تذيق صاحبها السلام، فمصدر السلام هو الإيمان... فيكسب صاحبه السكينة والأمن:[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] {الفتح:4}.وأكثر الناس قلقاً وضيقاً واضطراباً هم المحرومون من نعمة الإيمان، وبَرْد اليقين، إنَّ حياتهم لا طَعْم لها ولا مذاق، لأنهم لا يدركون لها معنى، ولا يعرفون لها هدفاً، ولا يفقهون لها سراً... إنهم يضربون في بيداء لا يعرفون فيها طريقاً، ولا يجدون غير السراب، ويسبحون في بحار من الظلمات لا يهتدون فيها إلى بر ولا قرار:[ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] {النور:40}.

أما المؤمن فقد اهتدى إلى سر وجوده عن طريق الوحي الإلهي المعصوم، وفي ذلك قال بعض السلف: رأيت الجنة والنار حقيقة، قيل: وكيف رأيتهما وأنت في الدنيا؟ قال: رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتهما بعينيه، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله آكد عندي من رؤيتهما بعيني، فإن بصري قد يزيغ ويطغى، أما بصر رسول الله فما زاغ ولا طغى.

والمؤمن يعيش في سكينة وسلام؛ لأن الغاية واضحة وهي رضوان الله تعالى لا يبالي معه برضى الناس أو سخطهم.

فليتك تحلو والحياة مريرة=وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر=وبيني وبين العالمين خراب

إذا صحَّ منك الود فالكلُّ هيِّن=وكلُّ الذي فوق التراب تراب

وما أعظم الفرق بين من عرف الغاية والطريق فاطمأن وانشرح، ومن هو ضال يخبط في عمايته ويمشي إلى غير غايته:[أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الملك:22}.

واستهان المؤمن في سبيل رضوان الله تعالى بكل صعب واستعذب كل عذاب، واسترخص كل تضحية.

ألا ترون إلى خبيب بن عدي رضي الله عنه وقد صلبه المشركون وأحاطوه به يظهرون الشماتة، ولكنه نظر إليهم في يقين ساخراً وأنشد يقول: 

ولست أبالي حين أقتل مسلماً=على أيِّ جَنْب كان في الله مصرعي

وذلك في شأو الإله وإن يشأ=يبارك على أوصال شلو ممرع

ألا ترون إلى الرجل من الصحابة: كيف كان يخوض عباب المعركة، والموت يبرق ويرعد، وهو يقول: وعجلت إليك ربي لترضى.

ألا تسمعون لأحدهم وقد نفذا الرمح في صدره حتى وصل إلى ظهره يقول: فزت ورب الكعبة.

ومن دواعي السلام أن يعيش الإنسان في أمن ولا أمن بدون إيمان، فالمؤمن يعيش في طمأنينة وأمن قد سدَّ أبواب الخوف كلها، فلم يعد يخاف إلا من الله وحده.

دعا أبو الأنبياء إبراهيم إلى توحيد الله، وتحطيم الأصنام، فخوَّفه قومه آلهتهم التي دعا إلى نَبْذها، فقال إبراهيم متعجباً:[وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الأنعام:81} .وقد عقب الله على ذلك حاكماً بين الفريقين:[الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأنعام:82}.

فالإيمان أعظم أسباب الأمن والطمأنينة، أما الجحود فهو أعظم أسباب الخوف والاضطراب والرعب. قال تعالى:[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] {آل عمران:151} .

والملحدون الجاحدون أكثر الناس مخاوف، إنهم يخافون الزمن والكوارث والفقر، و المرض، والموت على حين نجد المؤمن أقل الناس خوفاً وأشدهم أمناً.

فهو آمنٌ على رزقه لأنَّ الأرزاق بيد الله تعالى: [إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ] {الذاريات:58}.[وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ] {الذاريات:22}.

ولقد كان المؤمن يذهب إلى مَيْدان الجهاد حاملاً رأسه على كفه متميناً الموت في سبيل عقيدته، ومن خلفه ذرية ضعاف وأفراخ زُغْب، ولكنه كان يوقن أنه يتركهم في رعاية من هو أبرُّ بهم وأكرم عليهم منه.

وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إنني عرفته أكَّالاً وما عرفته رزَّاقاً، ولئن ذهب الأكَّال بقي الرزَّاق. 

والمؤمن آمن على أجله، لأن الله قدَّره له:[ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {الأعراف:34}.

والمؤمن آمنٌ من الموت، ولا يجزع من مرارة كأسه، إنه زائر لابدَّ من لقائه:[قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ] {الجمعة:8}.

فالموت عند المؤمن قنطرة إلى والنعيم السرمدي: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185}.

قيل لأعرابي اشتد مرضه: إنك ستموت، فقال: وإلى أين يذهب بي بعد الموت؟ قالوا: إلى الله، فقال: ويحكم وكيف أخاف الذهاب إلى من لا أرى الخير إلا من عنده؟

إنَّ من ثمرات دوحة الإيمان وشجرة التوحيد التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها... أنها تمنح المؤمن العزة والاستعلاء.

إن المؤمن ليشعر بالعزة الشامخة ويسمو بإيمانه إلى سماء عالية لا يُسعى إليها على قدم ولا يُطار على جناح.

وأول ما يضعه الإيمان في المؤمن سَعَة تصوُّره لهذا الوجود، فيخرج من نطاق ذاته المحدودة إلى محيط هذا الوجود...

فهو بالقياس إلى جنسه فرد من إنسانية ترجع إلى أصل واحد...

وهو بالقياس إلى الفئة التي ينتسب إليها فرد من الأمة المؤمنة الواحدة الممتدة في شعاب الزمن السائرة في موكب كريم يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين...

هو بوصفه عضواً في أمة الإيمان يشعر بعزة كبرى:[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}. [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة:143}.

يشعر المؤمن بالعزة التي سجلها الله تعالى في كتابه للمؤمنين مقرونة بالعزة لنفسه ولرسوله:[ وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] {المنافقون:8}. ويشعر أنه بالإيمان يعلو ولا يُعلى، ويسود ولا يساد:[ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] {النساء:141}. 

ويشعر المؤمن أنه في معية الله يكلؤه بعينه التي لا تنام ويحرسه في كنفه الذي لا يرام:[إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] {الحج:38}. [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] {الرُّوم:47}.

ويشعر المؤمن أنه في ولاية الله ومعونته:[ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ] {محمد:11}.[اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:257} .

ومن هذا الإيمان العزيز يقف المؤمن شجاعاً في مواطن البأس، وثابتاً في مواضع الشدَّة، لا تتزلزل به قدم، ولا يخشى الناس ولا يبالي بالأعداء.

إذا قيل له: أعداؤك أكثر عدداً. تلا قول الله تعالى:[ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ] {البقرة:249}. 

وإذا قيل له: إنهم أكثر مالاً. قرأ عليهم:[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] {الأنفال:36}.

وإذا حذروه من مكرهم وكيدهم أجابهم بما قال الله تعالى:[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {آل عمران:54}.

وإذا قيل له: إنهم أمنع حصوناً... قرأ عليهم قول الله تعالى:[ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] {الحشر:2}.

إنَّ هذه المعاني الكبرى، والمشاعر الرفيعة إذا سرت في كيان فرد جعلت منه إنساناً عزيزاً كريماً، إنساناً لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يُطأطئ رقبته لجبروت... لا عجب بعد هذا إذا رأينا عبداً أسوداً كبلال بن رباح رضي الله عنه حين يتشرب قلبه الإيمان يتيه على السادة المستكبرين فخراً، ويرفع رأسه عالياً فقد صار بالإيمان أرفع عند الله ذكراً، وأسمى مقاماً...

ينظر إلى أمية بن خلف وأبي جهل بن هشام، من صناديد مكة وزعماء قريش نظرة البصير للأعمى، نظرة السائرة في النور إلى المتخبِّط في دياجير الظلام: [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا] {الأنعام:122}.

ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا أعرابياً أمياً من البداة الجُفاة مثل ربعي بن عامر حين باشر قلبه الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن يقف أمام رستم قائد قواد الفرس، وهو في هيبته وهيلمانه، وأبهته وسلطانه، غير مكترث له، ولا عابئ به، وبما حوله من خدم وحشم، وما يتوجه حوله من ذهب وفضة حتى إذا سأله رستم: من أنتم؟ أجابه الأعرابي في عزة الإيمان واستعلائه إجابة خلدها التاريخ، قال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام.

هذه العزة الإيمانية جعلتهم يقفون أمام كل قوة باغية.. وتشريع باطل... فاستخفوا بالجبابرة والطغاة.

طلب هشام بن عبد الملك طاووس اليماني يوماً إلى مجلسه، فلما دخل عليه، لم يسلِّم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن قال: السلام عليك يا هشام، وجلس بإزائه، وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضباً شديداً حتى همَّ بقتله، وقال له: يا طاوس، ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تقبِّل يدي، ولم تسلِّم بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني ؟ قال: أما ما فعلت من وضع نعلي بحاشية بساطك فإني أضعهما بين يدي ربِّ العزة كل يوم خمس مرات، وأما قولك: لم تقبل يدي، فإني سمعتُ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لا يحلُّ لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة، أو ولده من رحمة، وأما قولك لم تسلَّم عليَّ بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك، فكرهت أن أكذب، وأما قولك: جلست بإزائي فإني سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام.

فقال هشام: عظني، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إنَّ في جهنم حيَّات كالقلال، وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته.

ذلك هو شأن الإيمان إذا عمقت جذوره، وقويَ سلطانه، يمد صاحبه بعزة لا تخبو، وعزم لا يخور، ويقين لا يهين.

إن الإيمان صانع العجائب إذا ما سكن في القلب، وتغلغل في الأعماق، حوَّل اتجاه الإنسان وغيَّر نظرته للكون والحياة.

هل أتاكم حديث سحرة فرعون الذين قصَّ الله تعالى علينا قصتهم:[قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى(68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70) ] فثارت ثائرة فرعون، وغلى مرجل غضبه، وهددهم بإنزال أفظع ألوان العذاب والتنكيل فما جبنوا وما تخاذلوا: [قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73) ]. {طه}.. كيف تغيَّرت شخصيَّاتهم ؟ وانقلبت موازينهم؟

كانت هممهم مشدودة إلى المال، كانت آمالهم منُوطةً بفرعون:[ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ] {الشعراء:44}.

هذا منطقهم قبل أن يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، فلما ذاقوا حلاوته كان جوابهم على التهديد والوعيد ببساطة ويقين: [قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] {طه:72}.بعد أن كان همهم الدنيا صار همهم الآخرة:[إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا(74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَا(75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى(76) ]. {طه}. وهكذا تغير الاتجاه...تغير المنطق... تغير السلوك... أصبح القوم غير القوم... وما ذلك إلا من صنع الإيمان.

لقد تحوَّل هذا الإيمان في نفوس الناس فلم يعد الموجه لأخلاقهم، والمسيطر على أنفسهم... بل أصبح إيماناً وراثياً، إيماناً جغرافياً، بحكم ولادتهم في بيئة إسلامية، إيماناً نائماً لا حيوية فيه، ولا تأثير، كيف يورث في نفوسنا السلام والأمن والعزة والاستعلاء؟

لقد كان الحياة قبل الإيمان كلها أقفالاً معقدة وأبواباً مغلقة، كان العقل والضمير مقفلاً، كانت القلوب والمواهب مقفلة والبيت والمجتمع مقفلاً، وحاول الناس فتح قفل من هذه الأقفال ففشلوا وأخفقوا، لأن القفل لا يفتح بغير مفتاحه.

ذلك المفتاح هو الإيمان الذي فتح هذه الأبواب.

وضع هذا المفتاح الإيماني على العقل الملتوي فتفتح وانفتح بآيات الله وعرف شناعة الشرك، والوثنية.

وضع هذا المفتاح الإيماني على الضمير الإنساني النائم فانتبه وانتعش.

وضع هذا المفتاح الإيماني على القلوب المقفلة التي لم تعتبر ولم تزدجر فأصبحت خاشعة واعية ترقُّ للمظلوم وتحنو على الضعيف.

وُضع هذا المفتاح الإيماني على الأسرة المفككة، وقد فشا فيها التطفيف بين الوالد وولده، والأخ وإخوته والرجل وزوجته، وتعدى من الأسرة إلى المجتمع فظهر بين الرئيس والمرؤوس والكبير والصغير، فغرس في الأسرة الإيمان، وقرأ عليهم:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}. وقسم المسؤولية على الأسرة والمجتمع فقال:«كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، وهكذا أوجد أسرة متحابة ومجتمعاً عادلاً.

: إنَّ هذا العصر الذي نعيش فيه نرى عليه أقفالاً كثيرة، ولا يمكن فتح هذه الأقفال الجديدة إلا بذلك المفتاح ألا وهو الإيمان.

إنَّ الإنسان بغير إيمان كريشة في مهب الريح لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار مكين إنسان ليس له قيمة ولا جذور، قلق حائر.

إن المجتمع بغير إيمان مجتمع غابة وإن لمعت فيه بوارق الحضارة... مجتمع تعاسة وإن زخر بأسباب النعيم.

بهذا الإيمان نقلنا العباد من عبادة الخالق، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جَوْر الأديان والظلام إلى عدل الإسلام والسلام... وبالإيمان انتصرنا على جيوش الكفر وغزوات التتار والصليبيين الذين زحفوا على هذه البلاد كالريح العقيم ما تذر من شيء إلا جعلته كالرميم. وكادوا أن يدمِّروا حضارة الإسلام، ويلتهموا الأخضر واليابس... وكان مفتاح النصر هبوب ريح الإيمان ونسمات الجنة، فكانت الصَّيْحةُ الخالدة التي هزَّت المشاعر، وأيقظت الهمم، واستثارت العزائم (وإسلاماه).

إنه طريق واحد يتعيَّن على أمتنا أن تسلكه، ولا خيار لها في ذلك، إنه طريق الإيمان.

إن كنا نريد السلام فلا سلام بغير سكينة نفس ولا سكينه بغير إيمان.

إن كنا نريد العزَّة والاستعلاء فلا استعلاء إلا بالإيمان.

إن كنا نريد النصر فلا نصر بغير أبطال، ولا بطوله بغير نصيحة، ولا نصيحة بغير إيمان.

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 24/3/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين