حدث في الثاني عشر من المحرم ولادة خير الدين نعمان الآلوسي

في الثاني عشر من المحرم من عام 1252، الموافق 29/4/1836، ولد في بغداد السيد خير الدين نعمان بن محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، العلامة القاضي الفقيه، وأحد أعلام الأسرة الآلوسية في العراق. ونسبة الأسرة الآلوسية إلى جزيرة آلوس في وسط نهر الفرات، على خمس مراحل من بغداد، فر إليها جد هذه الأسرة من وجه هولاكو المغولي عندما دهم بغداد، وأقام بها، ثم رجعت أحفاده إلى بغداد في القرن العاشر فنسبوا إليها. وقد نبغ من هذا البيت رجال فضلاء، جمعوا بين الدين والأدب، والفقه والفصاحة، والقضاء والتدريس، فخدموا العلوم الشرعية والآداب العربية، ونشروا مندثرها وأحيوا أمواتها، وكانوا على رأس نهضة العراق الحديثة في العلم والشرع.

ولد خير الدين نعمان لأشهر علم من أعلام هذه الأسرة العريقة، فقد كان والده شهاب الدين أبو الثناء محمود، المولود ببغداد 1217=1802 والمتوفى بها 1270=1854، من كبار علماء العراق وتولى الإفتاء سنة 1248 ثم عُزِلَ فانقطع للعلم، وكان مفسراً محدثاً مجدداً، أديباً شاعراً، سلفي الاعتقاد، مجتهدا. له مؤلفات قيمة منها تفسير روح المعاني، وكتاب غرائب الاغتراب، ضمنه تراجم الذين لقيهم، وأبحاثا ومناظرات، وكتاب كشف الطرة عن الغرة، شرح به درة الغواص للحريري، ومقامات في التصوف والأخلاق، عارض بها مقامات الزمخشري، وغيرها من الكتب.

وكان أخواه الكبيران بهاء الدين عبد الله وسعد الدين عبد الباقي، والد محمود شكري، من رجال العلم والفقه والقضاء.

درس خير الدين على والده النحو والمنطق، ودرس على تلميذ والده السيد محمد أمين الواعظ، محمد أمين بن محمد الأدهمي الحسيني المشهور بالواعظ، المولود سنة 1223=1808 والمتوفى سنة 1273=1857، وكان متضلعاً في الفقه الحنفي والأصول، مع تمكن من الأدب واللغة، ودرس الفقه الحنفي على الشيخ عبد الرزاق بن محمد أمين البغدادي، وهو قد أخذه عن العلامة محمد أمين عابدين الدمشقي، ودرس علي صديق والده الشيخ صفاء الدين البَنْدَنيجي النقشبندي، عيسى بن عبد الله، المتوفى سنة 1283=1866، وكان الوزير داود باشا قد أقامه مدرساً في مدرسته التي أنشأها في بغداد، كما تعلم خير الدين الخط وامتاز بخط بارع، ولما أنهى دراسته وأصبح أهلاً لمتابعة طريق والده، دخل في سلك القضاء وتولى قضاء الحلة، ولعله كونه قاضياً هو ما جعل مطبوعات ذلك الوقت تدعوه باسم نعمان أفندي الآلوسي.

وقد ذكر الأستاذ محمد بهجة الأثري، المولود سنة 1322=1904 والمتوفى سنة 1416=1996، في ترجمة مختصرة له لخير الدين الآلوسي نشرتها مجلة لغة العرب العراقية سنة 1345=1927، أن الآلوسي سافر للحج في سنة 1295، وكان سفره عن طريق الشام فالقاهرة فالحجاز، وكان غرضه أن يطبع في مصر تفسير والده المسمى روح المعاني، ولما كان في القاهرة اطلع على تفسير فتح البيان، الذي ألفه الأمير الهندي صِدِّيق حسن خان، زوج ملكة بوبال، والذي كان قد طبع في القاهرة، فأعجبه ما تضمنه من الآراء الإصلاحية والمباحث العلمية، وتطلع للتعارف والاتصال به، فلما كان في مكة سأل عنه فتوصل إلى الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى الشرفي النجدي، المولود سنة 1253 والمتوفى سنة 1329، وهو صديق حميم لصديق حسن خان، فحدثه عنه بما زاده إعجاباً على إعجاب، وأرسل له بواسطة الشيخ أحمد رسالة كانت بداية علاقة وثيقة دامت بينهما أعواماً مديدة.

وأنا أقدر أن الآلوسي التقى بصديق حسن خان في مكة المكرمة، لأنه يصفه في كتابه جلاء العينين فيقول: وهو أبيض، ربعة من القوم، قليل الشيب لهذا العهد، شعره إلى شحمة أذنيه. أما صديق حسن خان فيذكر في كتابه أبجد العلوم أنه أجازه سنة 1297، فهي على الأغلب إجازة مواجهة لا مراسلة، والآلوسي يذكره في كتبه باسم شيخنا، مع تقارب السن، إذ ولد صديق حسن خان سنة 1248، وتوفي سنة 1307.

وسواء كان لقاء أم مراسلة، فقد كان أول ثمار هذه العلاقة أن نشرت ملكة بوبال بمساعي صديق حسن خان كتاباً كبيراً وهاماً ألفه الآلوسي، وهو جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، فقد أتمه الآلوسي في شهر ربيع الآخر سنة 1297، وأرسله إلى الأمير في الهند، ورغب إليه في نشره، فحقق له أمنية كل عالم في نشر كتابه دون اعتبار للتكاليف التي تقصر عنها يده، وطبع الكتاب وبهامشه كتابان أحدهما من تأليف صديق حسن خان، قد أشار إلى ذلك الآلوسي في الكتاب وترجم للأمير صديق حسن ترجمة طيبة، وقال عنه: شيخنا الإمام الكبير، السيد العلامة الأمير، البدر المنير، البحر الحبر. وأشار إليه بضع مرات في ثنايا الكتاب، وكان ذلك بداية رعاية من الأمير للآلوسي تجلت في طبع عدد من مؤلفاته ومؤلفات والده، وذلك لتقارب المشارب في تجديد أمر الدين وفتح باب الاجتهاد الفقهي.

وكتاب جلاء العينين، كتاب جعل فيه الآلوسي نفسه حكماً بين ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المولود سنة 661 والمتوفى سنة 728، وبين ابن حجر الهيتمي، أحمد بن محمد، المولود سنة 909 والمتوفى سنة 974، وذلك إن ابن حجر هاجم ابن تيمية هجوماً شديداً في آرائه المتعلقة بالعقيدة والصفات، ووصفه بأنه: عبدٌ خذله الله تعالى وأضله، وأعماه وأصمه وأذله! فأراد الآلوسي أن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وينتصف لابن تيمية من تعنت ابن حجر الهيتمي، فصنف هذا الكتاب في أدب وإنصاف واحترام كبير لابن حجر رحمه الله.

وفي شارع الرشيد من الشورجة في من بغداد جامع شيده أحد موالي السلطان المغولى أويس بن حسن، وهو أمين الدين مرجان بن عبد الله، المتوفى سنة 775، وهو مدفون فيه ويعرف المسجد باسمه: جامع مرجان، وقد شرط واقفه رحمه الله أن يتولى أوقاف هذا الجامع أعلم أهل بغداد، ولذا صارت لهذا الجامع مكانة خاصة في البلد إضافة إلى الراتب الذي خصصه الواقف للناظر، وكان والد خير الدين قد نال هذه المنزلة سنة 1249 حين عينه والي بغداد علي رضا في هذا المنصب، وهو ما يفضي إلى أن يكون الناظر مفتي الحنفية في بغداد، ولكن حسد الحاسدين ومكايدهم أدت إلى أن نزع هذا المنصب من الوالد في سنة 1263، ومرت به سنون عصيبة صبر عليها صبر الكرام، ثم رحل إلى الآستانة سنة 1267 والتقى بشيخ الإسلام عارف حكمة الذي أعجب بالأب وعلمه، وأعاده إلى منصبه معززاً مكرماً، وكان من ثمرات هذه المحنة والرحلة أن كتب الأب كتابه الماتع: غرائب الاغتراب، ولم يتهنأ بالمنصب طويلاً، فقد توفى سنة 1270.

وتكرر الأمر مع خير الدين حيث تسنم النظر في أوقاف المسجد ثم نزع منه، فسافر إلى إستانبول سنة 1300، عن طريق دمشق حيث التقى بعلمائها وأدبائها، وفي إستانبول اجتمع خير الدين الآلوسي بشيخ الإسلام وغيره من أهل الحل والعقد في هذه الأمور، وقضى فيها سنتين لقي فيها التكريم والترحيب، وأنعم عليه السلطان عبد الحميد بمراتب عالية، وأصدر أمره بإعادة المدرسة إلى نظره، فعاد إلى بغداد وباشر التدريس فيها والنظر في مصالحها من الصباح إلى المساء، وقد هنأه الشاعر شهاب الموصلي بقصيدة منها:

وافى وعرفانه والعلم عرَّفه ... إلى رجال ذوي علم وعرفان

موظفا قد أتى لكن بمدرسة ... قديمة العهد من إنشاء مرجان

وظيفةٌ قبله كانت لوالده ... بموجب الشرط شرط الواقف العاني

واليوم قد عاد مقبول الجناب إلى ... بغداد باليمن مشمولا بإحسان

وتذكر صفحة على الشبكة أنه في سنة 1365=1946 هدم المدرسةَ معولُ التخطيط الحديث واقتطع منها جزءاً كبيراً أضيف إلى شارع الرشيد، وشُيِّد على ما تبقى منه مسجد جامع، ولم يبق من أصل المدرسة سوى بابها الأثري القديم.

ودرَّس الآلوسي في إستانبول بعضاً من حاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي، وكان ممن درس عليه الأديب أبو النصر السَّلاوي، يحيى بن عبد الغني المغربي الأصل المصري الولادة، وقد ناله من إكرام الآلوسي وتواضعه، وهو موظف عادي من موظفي دائرة المعارف العمومية لا يرجى نفعه ولا يخشى ضر، مما يدل عى كرم ومرؤوة الآلوسي، وصدقه في بث العلم، قال السلاوي: حضرت بين يديه في خلال أوقات متفرقة شيئا من حاشية رد المحتار على الدر المختار لمؤلفها ابن عابدين، وكان بودي أن أتلقى عنه كثيرا من الفنون والعلوم لولا ما شُغلت به من عوارض الغربة والهموم، ولكن سماحة نفسه الكريمة وأخلاقه المشهورة، أخلفتني خيرا مما فرط مني ... وكان يتنازل لتشريفي، ويتعهدني بالزيارة في منزلي مرة بعد أخرى، ويملي عليَّ من معقوله ومنقوله.

ودرس على الآلوسي كثير من نوابغ العراق وعلمائه، ومن أبرزهم ابن أخيه محمود شكري، المولود سنة 1273 والمتوفى سنة 1342، وللآلوسي إجازات في الحديث الشريف مجيزاً ومجازاً، ولكنه لا يعد من المحدِّثين، بل هي إجازات معتادة بين علماء ذلك العصر، لا تخرج عن كونها تقليداً لعلماء الحديث وتبركاً برواية حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ذكر الأستاذ محمد بهجة الأثري في ترجمته لخير الدين الآلوسي أنه كان واعظاً من الطراز الأول تقبل على درسه العامة قبل الخاصة، وشبهه بابن الجوزي أشهر واعظ عرفته بغداد، وذكر أنه واجه مشكلة كبيرة في بغداد في درسه تغلب عليها بجرأته دون تنازل عما يعتقد أنه الحق، قال الأثري: وقد كان رحمه الله جوزيَّ زمانه في الوعظ، وقد بلغ في حسن التذكير والإرشاد النهاية، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة فيُقصَد من أطراف البلد حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في شهر رمضان سنة 1305هـ أن استطرد في أحد مجالسه فناقش بحث إن كان الموتى يسمعون كلام الأحياء، فذكر ما قاله علماء الحنفية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، وأن من حلف لا يكلم زيدا مثلا فكلمه وهو ميت لا يحنث، وعليه فتوى العلماء.

فقام عليه المخالفون وقعدوا لها وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد جهلة العوام والمرجفين في مدينة السلام، وكادت تقع فتنة، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب فقهاء المذاهب الأربعة، وصعد كرسي الوعظ وقد احتشدت الجموع، فأعاد البحث وصدع بالبيان ثم أخذ يتناول كتابا كتابا فيتلو نصوص العلماء ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء هم علماؤكم فإن كنتم في ريب منهم فدونكموهم وناقشوهم الحساب! حتى إذا فرغ نهض واخترق الجموع غير وجل ولا هياب، فأقبلوا عليه يقبلون يديه ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين من فريق المقلدة والجامدين. ثم ألف رسالة لطيفة جمع فيها ما آراء الفقهاء في هذا الباب واسماها: الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات، ونشرها سنة 1305.

وحج الآلوسي مرة أخرى في سنة 1311، وكان قد اشتهر وعلا ذكره، فاجتمع به العلماء للمذاكرة والأخذ عنه، ومنهم العلامة المحدث شمس الحق العظيم آبادي، محمد بن علي الصديقي، المولود بالهند سنة 1273=1856 والمتوفى سنة 1329=1911.

صنف خير الدين الآلوسي عدداً من الكتب نورد أسماءها مع نبذه عن كل واحد منها حسب تاريخ تأليفها، وأولها ما سبق الحديث عنه وهو جلاء العينين الذي طبع سنة 1298، وكتاب غالية المواعظ، ومصباح المتعظ وقبس الواعظ، طُبع في بولاق سنة 1301، ويتألف من 50 باباً، ولعله على عدد أسابيع العام، وقد لخصه من كتب ابن الجوزي وغيره، ورتبه ترتيبا حسنا سهل فيه مسالك الوعظ، وصار عليه عليه اعتماد أغلب الواعظين في الديار العراقية، وكتاب الآيات البينات المطبوع سنة 1305، وسبق الحديث عنه، وكتاب الجواب الفسيح لما لفّقه عبد المسيح، وهو ردٌّ على رسالة منسوبة لعبد المسيح بن اسحق الكندي التي أجاب بها في زمن المأمون رسالة عبد الله بن إسماعيل الهاشمي حينما دعاه فيها إلى الإسلام، وكلاهما فيما يظهر مزور، وكانت المنصرون قد طبعوا الرسالتين في ليدن بهولندة سنة 1880م، ثم في غيرها من بلاد العرب، فتصدى رحمه الله وألف هذا الكتاب في سنة 1306 وطُبع في المطبعة الإسلامية بلاهور في الهند آنذاك، ورسالة شقائق النعمان في رد شقاشق ابن سليمان، طُبع في مصر سنة 1313، وابن سليمان هذا كان من متصوفة بغداد اسمه داود ألف رسالة دعا بها العوام إلى الغلو في أهل القبور، فردَّ عليه بهذه الرسالة، وكتاب الأجوبة العقلية لأشرفية الشريعة المحمدية، وهو رد على طائفة القاديانية والأحمدية وتأكيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأن شريعته نسخت سائر الشرائع، وطبع سنة 1314 في مومباي، وله مؤلّف أسماه الإصابة في منع النساء من الكتابة، طبع سنة 1314، وهو جواب سؤال ورده من الهند، قال فيه: فأما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله منه، إذ لا أرى شيئاً أضر منه بهن. فإنهن لما كُنَّ مجبولات على الغدر، كان حصولهن على المَلكة من أعظم وسائل الشر والفساد... فاللبيب من الرجال هو من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع!

وهناك كتب أخرى لم تنشر، وكتب نشرت بعد وفاته، منها كتاب صغير اسمه سلس الغانيات في ذوات الطرفين من الكلمات، طبع في بيروت سنة 1318، وهو كتاب لغوي في الأسماء التي تقرأ طردا وعكسا مثل: قلق وسدس وليل، وكتاب الطارف والتالد في إكمال حاشية الوالد، وهو في النحو يتمم حاشية والده على كتاب قطر الندى لابن هشام، وطُبع سنة 1320، ورسالة الحباء في الإيصاء، وهي في أحكام الوصية والإيصاء، استقاها من رد المحتار على الدر المختار للعلامة الفقيه ابن عابدين الحنفي، وطبعها ابنه علي علاء الدين في إستانبول سنة 1328.

قال الأستاذ الأثري في ترجمته لخير الدين الآلوسي: هذا وقد نشر رحمه الله عدا كتب أبيه كتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن ابن عيسى الكاتب، وقد دعاه كتاب الأشباه والنظائر، ونسبه سهوا إلى عبد الرحمن الأنباري. والكتاب المشار إليه طبع في إستانبول سنة 1302، ومشحون بالأخطاء، وقد أوضح الأب أنستاس ماري الكرملي في مقالة له في مجلة لغة العرب البغدادية ملابسة تتعلق بالكتاب استحسنت إيرادها لأن مصدرها هو الآلوسي دون ريب، قال الكرملي: كنا قد قلنا إن النسخة التي نشرت في الآستانة باسم كتاب ألفاظ الأشباه والنظائر كان قد سعى في تعميم فوائدها بالطبع السيد نعمان الآلوسي. وقد اتضح لنا الآن ما يخالف هذا القول فأسرعنا إلى تصحيحه. والحقيقة هي أن الطابع وهو أبو ضياء استعار النسخة الآلوسية من السيد المذكور لكي يطبعها على نفقته وهي نسخة قديمة الخط محفوظة إلى الآن في خزانة كتب جامع مرجان التي أوقفها السيد على الجامع المذكور تعميماً لفوائد العلم على ما هو مشهور عن الأسرة الآلوسية، وكان السيد نعمان في ذلك الحين موجوداً في الآستانة فصحح الملزمة الأولى فقط من الكتاب، ثم عاد إلى وطنه لأمور أوجبت رجوعه إلى مسقط رأسه، وبعد أن تم طبعها أرسلت إليه نسخة منها، فلما رآها وجد الطابع نسب تصحيحها إليه ترويجاً لمقصده، وهو بيعها بأقرب مدة فأسف لذلك.

نظم الآلوسي الشعر ليس عن موهبة وصنعة بل استكمالا لشخصيته العلمية، وقد قال الأثري عنه: كان عقله أكبر من علمه، وعلمه أبلغ من إنشائه، وإنشاؤه أمتن من نظمه. ولذا كان شعر مثال شعر الفقهاء، ومن شعره ما أورده في أول كتابه غالية المواعظ في مديح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني:

بمولانا أمير المؤمنينا ... لقد سرت قلوب العالمينا

وفي ظل الإله همُ أقاموا ... وظل الله يؤوي القائلينا

أنامَ الكلَّ في ظل ظليل ... فكان لجمعهم كهفاً أمينا

وأصناف الرعية قد تراءت ... بأنواع المعارف عارفينا

مليك ليس يشبهه مليك ... فلا تطلب له ملكاً قرينا

ملاذ الخلق في الدنيا جميعاً ... وسيدنا إمام المسلمينا

أدام الله دولته علينا ... وأيدنا به دنيا ودينا

وملَّكه أقاصي الأرض طُراً ... شمائلَها البعيدة واليمينا

وأيد جنده الباري بنصر ... وفتح كائن حيناً فحينا

كان خير الدين يصرف كل وقته في القراءة والتحقيق، وينفق كل ماله في جمع الكتب، فجمع خزانة كبيرة كانت من أغنى خزائن كتب بغداد وأحفلها بالمخطوطات النادرة، ووقفها على مدرسة جامع مرجان، ثم أصبحت ضمن مكتبة الأوقاف العامة عندما ضمت الدولة العراقية سنة 1345=1926 المكتبات الوقفية في مكتبة واحدة.

وقد ذكر الشيخ زاهد الكوثري في مقالاته أن خير الدين نعمان قد تصرف في تفسير والده المسمى روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، تصرفاً ينسجم مع نزعته السلفية، وأثار هذه القضية الأخ الأستاذ المحقق محمد بن عبد الله آل رشيد، واستشهد على صحتها بإفادة الأستاذ الباحث أحمد بن عبد الكريم العاني، رغم نفي الأثري والدكتور محسن عبد الحميد لها نفياً قاطعاً، وبقي السجال معلقاً في انتظار أن تحسمه مخطوطة مكتبة راغب باشا بإستانبول التي كان المؤلف والد خير الدين قد أهداها إلى السلطان عبد المجيد خان.

كان الآلوسي ربعة نحيفا، أبيض اللون يميل إلى الصفرة، جوادا معطاء؛ نقيا تقيا، ورعا زاهدا، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، حفيا بالأهل وذوي القربى، منشطا لأهل العلم، مستقيما في العمل، حلو المفاكهة، لطيف المحاضرة، بشوش الوجه. أثنى عليه كثير من معاصريه، وقرَّظ كتبه عدد من مشايخ العصر، وقد قرَّظ كتابه غالية المواعظ أبو الهدى الصيادي، محمد بن حسن، المولود سنة 1266=1849 والمتوفى سنة 1328= 1909، وكان من كبار متصوفة الوقت، وكان شيخ المشايخ عند السلطان عبد الحميد، وهو مما يستدعي مزيداً من البحث والدراسة لمسار التطور العلمي والفكري لدى الآلوسي الذي اشتُهِر بكونه من المدرسة السلفية الإحيائية التي أرادت تجديد أمر الدين من خلال العودة إلى المصادر والمبادئ الأصلية، وهي تختلف عن المدرسة السلفية المعاصرة، باحترامها وإجلالها واغترافها من التراث الفقهي للمذاهب الأربعة، فهي تأسس على ما أنجزه علماء هذه المدارس وتقدرإنجازاتهم، وتراجعها وتنتقدها في اعتدال وتواضع ومحبة، كما رأينا في كتاب جلاء العينين.

توفي خير الدين الآلوسي، عن 65 عاماً، بعد مرض استمر عدة أشهر، في 7 من المحرم من عام 1317 ودفن في مدرسته في جوار قبر مرجان رحمهم الله جميعاً.

تزوج الآلوسي السيدة آسية بنت درويش أفندي المفتي، وله منها 4 بنين اشتغلوا كذلك بالعلم، وأشهرهم علاء الدين علي، ولد سنة 1277=1860 وتوفي سنة 1341=1922، أرسله والده إلى الهند للأمير صديق حسن خان في أمور تتتعلق بطباعة كتبه وكتب والده، وانتظم في سلك مدرسة القضاة، وقام مقام أبيه بعد وفاته، وتولى تدريس مدرسة مرجان وصار قاضياً لبغداد وانتخب في مجلس النواب العثماني نائباً عنها، وصنف في التراجم كتاب الدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر ولم يوفق لإتمامه، ونظم الأجرومية في علم النحو، وله ديوان شعر.

أما ولده الأكبر ثابت الدين محمد، المولود سنة 1275=1858 والمتوفى سنة 1329=1911، فكان أميل للشعر، وتولع بحب الخيل والبادية، وتولى آخر حياته نيابة لواء السليمانية فحمدت سيرته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين