قيمة الغائب والمفقود

 المحاور:

- جرت عادة البشر أن لا يستشعروا قيمة الموجودات قدر استشعارهم لقيمة المفقودات، ومن تلك الهبات التي يستشعر العقلاء قيمتها عند فقدانها:

1. الدين. 

2. الشباب والفراغ.

3. الوالدين والأولاد.

4. الأموال.

5. الصحة.

6. الطيبين من الأزواج والأصحاب والجيران. 

7. الأمن. 

8. الماء والهواء. 

- ولعل من أسباب إهمال قيمة الموجودات ما يأتي:

1. الألفة واعتياد وجودها جعلها في نظر البعض بلا قيمة. 

2. طمع النفس ونظر العين إلى ما عند الآخرين من موجودات يؤدي إلى زهد فيما نملك نحن من موجودات. 

3. تحصيل بعض هذه الموجودات بطريقة سهلة، فالدين والمال تم تحصيلهما لدى كثير من الناس بالوراثة مثلاً. 

- وحدهم الشاكرون لربهم هم الذين يستشعرون نعمة الله (الموجودات) قبل زوالها، بل إنهم بالشكر يستدعون أعظم سبب من أسباب بقائها. 

- في تدبر أحوال من فقدوا النعمة التي كانت موجودة بين أيديهم مزيد حرص منك على الموجود من نعمة الله عليك، فكم من خائف بعد أمن .. وكم من مريض بعد صحة .. وكم من فقير بعد غنى .. وكم من مرتد بعد هدى .. وكم من حزين بعد فرح ..! 

- ‏ لا ينفع طول الندم والحسرة على فقدان موجودات غالية لاسيما إن كان الفقدان لها طبيعياً، وعن غير تقصير .. فالموت حق على كل حي .. والصحة تبلى مهما أخذ المرء بأسباب العافية .. وكلنا مبتلى .. إنما الحسرة والندم على التقصير والتفريط والغفلة .. كذاك الذي طال عويله على أم ماتت لم يبرها .. أو على مال وصحة وشباب بالمعصية والفجور هدرها .. أو على صحبة وزوجة هجرته لأنه لم يعرف قيمتها وقدرها. 

- ‏كلما أدرك المرء قيمة الدنيا لم يحزن على فوات ما يفوت منها .. فهي دار فناء وممر .. لأجل ذلك قالوا في المواساة: ما فقد من وجد رحمه الله .. وما وجد من فقد رحمة الله.

- ‏وحدهم المتفائلون بقدرة الله وحكمته يدركون أنه سبحانه ما أخذ منا إلا ليعطينا، فأخذه عطاء .. وأن عند الله من العوض لكل فاقد محتسب ما يدهشه. 

- ‏كلما استشعر الإنسان قيمة ما حوله استشعر ما حوله قيمته .. حتى الجمادات والحيوانات تحنّ لفقدان الرفيق بها، بخلاف القاسي العنيف المغرور الذي لا يرى سوى نفسه في الكون فإن مَن حوله إذا لم يفرحوا لفقده فإنهم لن يحزنوا .. وصدق الله: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ  وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (الدخان: 29).

- ‏ ما أبأس حال أمة لا تعرف قيمة وشرف علمائها ودعاتها ومجاهديها ورموزها إلا عند انتقالهم إلى الرفيق الأعلى بحجة أن الأحياء لا تؤمن عليهم الفتنة .. فإذا ماتوا أقمنا عليهم مأتماً وعويلا. 

- ‏من أكثر ما يحزن الناس مشهد أيتام فقدوا والدهم .. وكأن الوالد هو الرزاق ذو القوة المتين .. على الرغم من أن بعض الفقدان رزق .. وقد وجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في يتمه أكثر مما فقد، لأجل ذلك قال الشاعر:

نِعمَ اليتيم بدت مخايل فضله =واليتم رزق بعضه وذكاءُ

- ما ابتليت الأمة بفقدانٍ أعظم من فقدان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .. فلنذكر مصابنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كل مصيبة بعده هينة، وليس في الوجود موجود من البشر يكافئ ما كان عليه. 

- انقلبت موازين بعضنا حتى صرنا نتألم لفقدان ما لا قيمة له، ولا نحرك ساكناً لفقدان الدرر، فماذا يعني لنا فقدان العلماء في مقابل فقدان فرصة فوز في مباراة ؟! 

- ‏ ليس من الحكمة الترحم على فاسد إن ابتليت أمتنا وأوطاننا بمن هو أفسد، فالمفقود سيء والموجود أسوأ (ورحمة الله قريب من المحسنين) وهي أبعد ما تكون عن المفسدين. 

- ‏لا يشعر الناس بغيابك إلا إذا أدركوا قيمة وجودك .. فهلا تركت بصمة وبسمة تكشف عن رفعة منزلتك .. ففي الليلة الظلماء يُفتقد البدر. 

- ‏ من أسوأ انتكاسات الفطرة أن ينتظر البعض غائبا ليحل أزماتهم، في حالة من السلبية غير المشهودة، وأسوأ من ذلك أن يكون هذا المنتَظر هو المشكلة بذاتها، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الدجال بقوله: (فشر غائب يُنتظر). 

- ‏ لن تتحرك الأمة لاستعادة أسراها وتخليص أقصاها إلا إذا أدركت قيمتهم واستشعرت مرارة غيابهم وفقدانهم؛ فأي ذل وهوان نعيشه اليوم، ولو حضرت بيننا ملذات الدنيا كلها، ولوحة الطهر والعفة فينا مفقودة بل منهوبة. 

 وختاماً: ‏ لما جعل الله تعالى من الماء كل شيء حي علم سبحانه أننا سنتناسى قيمة هذه النعمة؛ لأجل ذلك نجده يحبسها أحياناً لنستشعر قيمتها عند فقدانها فنلهج إليه بالدعاء والاستسقاء .. قال تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين