حدث في الخامس من المحرم: سرية عبد الله بن أنيس الأنصاري


في الخامس من المحرم من السنة الخامسة للهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل عبد الله بن أُنيس الجُهني الأنصاري، في مهمة خاصة للقضاء على زعيم من المشركين بدأ في جمع جيش لغزو المدينة، وهذه المهمة الفردية يسميها مؤرخو السيرة سرية عبد الله بن أنيس.
قال عبد الله بن أنيس: خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمسٍ خلون من المحرم، على رأس أربعةٍ وخمسين شهراً، فغبت اثنتي عشرة ليلة، وقدمت يوم السبت لسبعٍ بقين من المحرم.
وكان قد بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن خالد بن سفيان بن نُبيح الهُذَلي، ثم اللحياني، قد نزل حول وادي عُرَنَة قرب مكة في ناسٍ من قومه وغيرهم، وجمع الجموع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وانضمَّ إليه عددٌ كثيرٌ من أشواب الناس.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس، فبعثه سريةً وحده إليه ليقتله. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتسب إلى خزاعة.
روى الواقدي في المغازي عن عبد الله بن أنيس قال: فقلت: يا رسول الله ما أعرفه، فصفه لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك إذا رأيتَه هِبتَه وفَرَقتَ منه وذكرتَ الشيطان. وكنتُ لا أهاب الرجال، فقلت: يا رسول الله، ما فَرِقتُ من شيءٍ قط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، آيةُ بينك وبينه أن تجد له قشعريرةً إذا رأيته. واستأذنت النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك.
قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد، فأجد بها خزاعة كثيراً، فعرضوا علي الحِملان والصحبة، فلم أُرِدْ ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سَرِف، ثم عدلت حتى خرجت على عُرَنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد خالد بن سفيان لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه. فلما رأتيه هبته، وعرفته بالنعت الذي نعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيتني أقطر عرقاً فقلت: صدق الله ورسوله! وقد دخلت في وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي، أومىء إيماءً براسي، فلما دنوتُ منه قال: من الرجل؟ فقلت: رجلٌ من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمدٍ فجئتك لأكون معك. قال: أجل، إني لفي الجمع له.
فمشيت معه، وحدثته فاستحلى حديثي، وأنشدته شعراً، وقلت: عجباً لما أحدث محمد من هذا الدين المحْدَث؛ فارق الآباء وسفه أحلامهم! قال: لم يلق محمدٌ أحداً يشبهني! وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض، حتى انتهى إلى خبائه، وتفرق عنه أصحابه إلى منازل قريبة منه وهم مطيفون به، فقال: هلم يا أخا خزاعة! فدنوت منه فقال لجاريته: احلبي! فحلبت ثم ناولتني، فمصصت ثم دفعته إليه، فعبَّ كما يعب الجمل حتى غاب أنفه في الرغوة، ثم قال: اجلس. فجلست معه، حتى إذا هدأ الناس وناموا وهدأ، اغتررته فقتلته وأخذت رأسه؛ ثم أقبلت وتركت نساءه يبكين عليه، وكان النجاء مني حتى صعدت في جبل فدخلت غاراً.
وأقبل الطلب من الخيل والرجال توزع في كل وجه، وأنا مختف في غار الجبل، وضربت العنكبوت على الغار، وأقبل رجلٌ ومعه إداوةٌ ضخمةٌ ونعلاه في يده، وكنت حافياً، وكان أهم أمري عندي العطش، كنت أذكر تهامة وحرها، فوضع إداوته ونعله وجلس يبول على باب الغار، فوضع إداوته ونعليه، وضربت العنكبوت على الغار، أو قال: خرجت حمامة، فقال لأصحابه، ليس فيه أحد، فنزل وترك نعليه و إداوته، فانصرفوا راجعين، وخرجت إلى الإداوة فشربت منها وأخذت النعلين فلبستهما، فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى جئت المدينة، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما رآني قال: أفلح الوجه! قلت: أفلح وجهك يا رسول الله! قلت: قد قتلته. قال: صدقت! فوضعت رأسه بين يديه، وأخبرته خبري.
ثم قام رسول الله فدخل بيته ، فأعطاني عصا ، فقال : أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس. قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا؟ قلت: أعطانيها رسول الله، وأمرني أن أمسكها عندي، قالوا: أفلا ترجع إلى رسول الله فتسأله لم ذلك؟ فرجعت إلى رسول الله، فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال : آيةُ ما بيني وبينك يوم القيامة؛ إن أقل الناس المتخصرون يومئذ. فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه ، ثم دفنا جميعاً .
وقال عبد الله بن أنيس في ذلك شعراً:
تركت ابن ثور كالـحُوار وحوله... نوائحُ تفري كل جيب مُقدد
تناولته والظَّعنُ خلفي وخلفه... بأبيض من ماء الحديد مهند
عجومٍ لهامِ الدارعِين كأنه... شهابٌ غضىً من مُلهَب متوقد
أقول له والسيف يعجُمُ رأسه... أنا ابن أنيس فارسا غير قُعْدُد
أنا ابن الذي لم يُنزِل الدهرُ قِدْرَه... رحيبُ فناء الدار غيرُ مزنَّد
وقلت له خذها بضربة ماجد... حنيف على دين النبي محمد
وكنتُ إذا همَّ النبي بكافر... سبقت إليه باللسان وباليد
والحوار: ولد الناقة، وقوله: يعجم رأسه من قولهم فلان يعجم التمرة أي يلوكها ويعضها، والقعدد الجبان.
أبو يحيى عبد الله بن أنيس الجهني القضاعي السَلَمي الأنصاري، هو من بني وبرة من قضاعة حلفاء بني سلمة من الأنصار، وقيل له الجهني لأنه جهينة من قضاعة، والعرب قد تقدم في النسبة الفرع على الأصل. ويتأكد هذا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عده من قضاعة، وقد أورد أبونعيم في الحلية أن رجلاً من حِميَر قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقام عنده ثم مات فقال: اطلبوا له وارثاً مسلماً. فلم يوجد فقال: ادفعوا ميراثه لرجل من قضاعة. فدُفِع إلى عبد الله بن أنيس، وكان أقعدهم يومئذ في النسب.
شهد عبد الله بن أنيس بيعة العقبة مع جده لأمه كعب بن مالك الأنصاري، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عاد إلى المدينة كسر مع معاذ بن جبل رضي الله عنهما أصنام بني سلمة، ولما هاجر مسلمو قريش إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الله بن أنيس وبين الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف المخزومي، المولود سنة 32 قبل الهجرة والمتوفى سنة 53، وهو الذي استخفى النبي صلى الله عليه وسلم في داره بمكة.
شهد عبد الله بن أنيس غزوة أحد وسائر المشاهد، ولم يشهد بدراً إذ كان محموماً، ذكر الواقدي في المغازي أن عبد الله بن أنيس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتُربان، وهو موضع على نحو 5 فراسخ من المدينة، فقال: يا رسول الله الحمد لله على سلامتك وما ظفَّرك، كنتُ يا رسول الله ليالي خرجتَ مورودا، فلم يفارقني حتى كان بالأمس، فأقبلتُ إليك. فقال: آجرك الله.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، خرج معه عبد الله ومعه زوجته وهي حبلى، فولدت في الطريق، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: انقع لها تمرا، فإذا انعمَ بَلُّهُ فامرثه لتشربه. قال عبد الله: ففعلتُ فما رأت شيئا تكرهه، فلما فتحنا خيبر أحذى النساء، أي منحهن من الغنيمة، ولم يُسهِمْ لهن، فأحذى زوجتي وولدي الذي ولد.
وكانت له مواقف متميزة في الجهاد، منها أنه شارك في سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي، وذلك في أول السنة السادسة بعد غزوتي الخندق وقريظة، فقد كان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ممن حزَّب الأحزاب وألَّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الخندق أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرادت الخزرج أن تتقرب لرسول الله بقتل من يعاديه، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم.
وروى الواقدي عنه في كتاب المغازي قصة السرية قال: قال عبد الله بن أنيس:
خرجنا من المدينة حتى أتينا خيبر. قال: وقد كانت أم عبد الله بن عتيك بخيبر يهودية أرضعته، وقد بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة بن ربعي، والأسود بن خزاعي، ومسعود بن سنان. قال: فانتهينا إلى خيبر، وبعث عبد الله إلى أمه فأعلمها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرا كبيسا وخبزا. فأكلنا منه ثم قال لها: يا أماه، إنا قد أمسينا، بيتينا عندم فأدخلينا خيبر. فقالت أمه: كيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قال: أبا رافع. فقالت: لا تقدر عليه. قال: والله لأقتلنه أو لأقتلن دونه قبل ذلك. قالت: فادخلوا علي ليلا. فدخلوا عليها، فلما نام أهل خيبر وهدأت الرِجل قالت: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع فقولوا إنا جئنا لأبي رافع بهدية فإنهم سيفتحون لكم.
قال: فصعدنا وقدمنا عبد الله بن عتيك، لأنه كان يرطن باليهودية، ثم استفتحوا على أبي رافع فجاءت امرأته فقالت: ما شأنك؟ فقال عبد الله بن عتيك ورطن باليهودية: جئت أبا رافع بهدية. ففتحت له فلما رأت السلاح أرادت تصيح. قال عبد الله بن أنيس: وازدحمنا على الباب أينا يبدر إليه، فأرادت أن تصيح، فأشرت إليها السيف، وأنا أكره أن يسبقني أصحابي إليه، فسكنت ساعة، ثم قلت لها: أين أبو رافع؟ وإلا ضربتك بالسيف!فقالت: هو ذاك في البيت. فدخلنا عليه فما عرفناه إلا ببياضه كأنه قطنة ملقاة، فعلوناه بأسيافنا، وجعل القوم يضربونه جميعا. وصاحت امرأته، فهم بعضنا أن يخرج إليها ثم ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتل النساء، وتصايح أهل الدار بعد ما قتل، فلم يفتح أهل البيوت عن أنفسهم ليلا طويلا.
واختبأنا في بعض مناهر خيبر، وأقبلت اليهود وأقبل الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف في آثارنا، يطلبوننا بالنيران في شعل السعف، ولربما وطئوا في النهر، فنحن في بطنه وهم على ظهره فلا يرونا، فلما أوعبوا في الطلب فلم يروا شيئا رجعوا إلى امرأته فقالوا لها: هل تعرفين منهم أحدا؟ قالت: سمعت منهم كلام عبد الله بن عتيك، فإن كان في بلادنا هذه فهو معهم. فكروا الطلب الثانية، فمكثنا في مكاننا يومين حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا مقبلين إلى المدينة، كلنا يدعي قتله، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهوعلى المنبر، فلما رآنا قال: أفلحت الوجوه! فقلنا أفلح وجهك يا رسول الله! قال: أقتلتموه؟ قلنا: نعم، وكلنا يدعي قتله. قال: عجلوا علي بأسيافكم. فأتينا بأسيافنا ثم قال: هذا قتله، هذا أثر الطعام في سيف عبد الله بن أنيس.
وفي السنة السادسة للهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس مع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر ليأتوا بالمستنير بن رِزام اليهودي، الذي كان يسير في غطفان وغيرهم يجمعهم لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر في شهر رمضان سرا، فسأل عن خبره وغرته فأُخبِرَ بذلك، فقدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة فقدموا على يسير فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك؟ قالوا: نعم.
قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك؛ لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع في ذلك فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كنا بقرقرة ثِبار ندم المستنير، فقال عبد الله بن أنيس: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعيري وقلت: غدرا أي عدوا الله! فعل ذلك مرتين، فنزلت فسقت بالقوم حتى انفرد لي فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه وساقه وسقط عن بعيره وبيده مخرش من شوحط فضربني فشجني، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجل واحد أعجزنا شدا، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم أقبلنا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحدثناه الحديث فقال: قد نجاكم الله من القوم الظالمين! وتَفَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شجة عبد الله بن أنيس فلم يقِح جرحُه ولم يؤذه.
وكان عبد الله يسكن بأعراف على منزلة بريد من المدينة، وكان يشق عليه أن يأتي للمسجد النبوي كل يوم في رمضان، فسأل رسول الله عن ليلة القدر، وقال: وقال: يا رسول الله إني شاسع الدار، فمرني بليلة أنزل لها. فقال: انزل ليلة ثلاثٍ وعشرين . وتُعرف تلك الليلة بليلة الجُهنيِّ وليلة الأعرابي.
وقد روى أصحاب السنن والسير عن عبد الله حديثاً في هذا أورده هنا، وقد جمعت فيه عدة روايات، يتبين منه أنه كان شاباً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله كان دون العشرين. قال عبد الله بن أنيس: كنت في مجلس بين سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا: إن قدمنا بأهلينا شقَّ علينا وإن خلفناهم أصابتهم ضيقة، من يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأله عن ليلة القدر التي نتحرى؟ قال عبد الله بن أنيس: أنا. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم عشية اثنين وعشرين من رمضان فصليت معه المغرب ليلة ثلاث وعشرين من رمضان، ثم انصرفت معه إلى بيته، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام قليل في العين وهو كثير طيب، فطفقت أخطط ليشبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي كأنه أراد أنه يَخطُّ الطعام يُري أنه يأكلُ وليس يأكلُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كُلْ يا عبد الله بن أنيس، فأني قد أرى ما تصنع، والله جاعل فيه بركة. فلما فرغ قال: ناولني نعلي، فقام وقمت معه، فقال: كأن لك حاجة؟ فقلت: أجل يا رسول الله، إن أصحابي من بني سلمة قالوا: من رجل يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأله عن هذه الليلة التي نتحرى فأخبرنا عنها يا رسول الله؟ قال: اطلبوها يا عبد الله بن أنيس في هذه الليلة، انزلوا ليلة ثلاثة وعشرين. فلما انصرفت قال: اطلبوها يا عبد الله بن أنيس في العشر الأواخر. قال عبد الله: فوقع في نفسي أنه لم يقل الذي قال إلا أنه خشي أن يتكل الناس عليها. وكان عبد الله بن أنيس إذا كانت ثلاثة وعشرين من رمضان نزل من أرضه فيحييها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرف إلى أهله.
وقد روى مسلم عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُريت ليلة القدر ثم أُنسيتُها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين. قال: فمُطِرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه.
ومَثله مَثل كثير من الأنصار من أهل المدينة ومن حولها، كان عبد الله بن أنيس ذا خصاصة حتى كان ثوبه يقر عن ستر عورته في الصلاة.
روى الطبراني في المعجم الكبير عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقمت عن يساره، فأخذني رسول الله، فأقامني عن يمينه، وعليّ ثوب متمزق لا يواريني، فجعلت كلما سجدت أمسكته بيدي مخافة أن تنكشف عورتي، وخلفي نساء، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا لي بثوب، فكسانيه، وقال: تودعه بخلْقِك هذا. أي: صِنْه به، والبس هذا الذي دفعت إليك في أوقات الاحتفال والتزين.
تزوج عبد الله بن أنيس سيدة من الأنصار تدعى فاضلة الأنصارية، وتزوجت بناته بأبناء كعب بن مالك أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت زوجته صاحبة صدقة وخير، قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على الصدقة فبعثت إليه بحُليٍّ لي، وقلت: هو صدقة لله عز وجل، فرده عليَّ، وقال: إني لا أقبل صدقة من امرأة إلا بإذن زوجها. فبعثت به إليه مع زوجي، فقال: هو لها يا رسول الله، ورثته عن أبيها، فقبله.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حزن عبد الله بن أنيس حزناً شديداً حتى أقعده المرض، ورثى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
تطاول ليلي واعترتني القوارع ... وخطب جليل للبلية جامع!
غداة نعى الناعي إلينا محمدا، ... وتلك التي تستك منها المسامع
فلو رد ميتا قتلُ نفسي قتلتَها ! ... ولكنه لا يدفع الموت دافع
فآليت لا أسى على هُلك هالك ... من الناس، ما أرسى ثَبيرٌ وفارع
ولكنني باك عليه ومُتبِعٌ ... مصيبتَه: إني إلى الله راجع!
وقد قبض الله النبيين قبله، ... وعادٌ أصيبت بالرزى والتبابع
فيا ليت شعري من يقوم بأمرنا؟ ... وهل في قريش من إمام ينازع؟
ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزِِّمةُ هذا الأمر، والله صانع
عليٌّ أو الصديق أو عمر لها، ... وليس لها بعد الثلاثة رابع!
فإن قال منا قائل غير هذه ... أبينا، وقلنا: الله راء وسامع
فيا لقريش قلِّدوا الأمر بعضهم، ... فإن صحيح القول للناس نافع
ولا تبطئوا عنها فَواقا فإنها ... إذا قطعت لم تمن فيها المطامع
روى عنه من الصحابة أبو أمامة إياس بن ثعلبة البلوي الانصاري، وجابر بن عبد الله. وروى عنه من التابعين بسر بن سعيد وبنوه: عطية وعمرو وضمرة وعبد الله، وعبد الله وعبد الرحمن ابنا كعب بن مالك وآخرون. واستشهد به مرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتأكيد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن أنيس: أنهم تذاكروا هو وعمر بن الخطاب يوماً الصدقة، فقال عمر: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة إنه من غلَّ منها بعيرا أو شاة أتي به يحمله يوم القيامة؟ قال عبد الله بن أنيس: بلى.
ومن الأحاديث التي رواها عبد الله بن أنيس قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وما حلف حالف بالله يمينا صبرا، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعله الله نُكتة في قلبه إلى يوم القيامة. حلف صبراً: حلف من غير إحلاف.
خرج عبد الله بن أنيس إلى الشام في بعث أرسله عمر بن الخطاب وجعل على رأسه عبد الله بن جعفر الطيار، وقد ذكر ذلك الواقدي في كتابه فتوح الشام، وذكر عن لسان عبد الله بن أنيس أنه كان يحب والده جعفراً رضي الله عنه، كما أورد عنه بعض تفاصيل معارك الشام يمكن الاستئناس بها مع ملاحظة منهج الواقدي وتساهله في الرواية.
وتتحدث كتب التاريخ والحديث عن رحلة قام بها جابر بن عبد الله الأسلمي رضي الله عنهما إلى مصر لسماع حديث يرويه عبد الله بن أنيس ولم يكن عند جابر، وخلافاً للجمهور رأى الإمام الذهبي أنه ليس صاحب هذه الترجمة بل هو عبد الله بن أبي أنيس، وقد فرِّق من قبله الإمام علي بن المديني بين عبد الله بن أنيس الجهني وعبد الله بن أنيس الأنصاري، ثم جاء الإمام الذهبي فجعلهم ثلاثة: الجهني والأنصاري وعبد الله بن أبي أنيس، ولكن يصعب تمييز خبر هذا عن ذاك، والله أعلم.
ولا تفيدنا كتب السير كثيراً عن حياة عبد الله بن أنيس بعد مقتل عمر رضي الله عنه، إلا أنه توفي بالمدينة سنة 54، رضي الله عنه ونفعنا ببركته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين