القضية المركزية

في حياة كل فرد وأسرة وجماعة وأمة قضية مركزية؛ تقودها وتهديها سبل النجاة، وتبلغها أقصى الغايات في طرق الحياة . 

ونعني بالقضية المركزية الهدف الموحد والغاية المحددة التي يعمل ويسعى ويحفِد من أجل تحقيقها الفرد في حياته.

وقد تمر هذه القضية بمراحل عدة حتى تتكونَ وتأخذَ صورتها النهائية، وتتمتعَ بمناعة كافية، تجعل منها قاعدة وإطاراً تتحصن بها الجهات التي ذكرنا . 

وكلما قام على تلك القضية أصحاب كفاءات، وتوافر عليها ذوو عقول وتجارب كلما كانت أقربَ الى الصحة، وأليق بالثناء، وألصق بالصواب . 

ونمتاز نحن المسلمين عن غيرنا أن قضيتنا المركزية التي نحيا لها ونعمل من أجلها ونموت في سبيلها اختارها الله لنا، ووجهنا إليها، وحضنا على إبقائها ما حيينا وإحيائها ما بقينا ...وشتان بين اختيار الله واختيار العبد . 

وقضيتنا المركزية التي يجب أن ننغض لها رؤوسنا، ونحني لها جباهنا، ونتنازل بسبيلها عن كثير من أغراض نفوسنا ورغباتنا وأهوائنا ومصالحنا هي وحدتنا الإسلامية، وتماسكنا المنشود، واجتماعنا المرصود والماثل في قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .

وقد رعى السابقون هذه القضية حق رعايتها ووعوها تمام الوعي؛ فأوصلتهم الى سدة الحضارة، وأمكنتهم من ناصيتها، وأسلمت إليهم قيادها قروناً متطاولة ، وأزمنة متباعدة . 

وحين صُرفنا اليوم- ويا ويح اليوم - عن هذه القضية، وانشغلنا عنها، وقدمنا عليها غيرها، وفضلنا عليها العاجل؛ على ما قال ابن الرومي :

نارُ الرَّويَّة نارٌ جِدُّ مُنْضجة ***وللبديهَة نارٌ ذَاتُ تَلْويحِ

وَقَدْ يَفضِّلُهَا قَوْمٌ لِعَاجِلِها ***لكنَّهُ عاجِلٌ يَمْضي مع الريحِ

نعم أضعنا البوصلة، وبإضاعتها أضعنا القضية، وبعد أن كانت مركزية صارت لامركزية، وبعد أن كانت ذات أولوية أمست هامشية، ...فالعرقية والإقليمية والطائفية والمذهبية وغيرها مصطلحات حاضرة وبقوة في كتاباتنا وخطاباتنا وتغريداتنا ... وما وسائل التواصل الموّارة بكل ذلك ببعيدة عنا .

فأنت تقرأ فيها من يخرج الأشاعرة والماتريدية عن عداد أهل السنة والجماعة، ويقصرهم على جماعته ... وفيها من يكّفر السلفية ويقصيهم عن دائرة الاسلام ...وفيها من يكره حركة إسلامية معروفة؛ لأنه يقف في الجهة الأخرى تماماً ... 

ويتجاهل كل أولئك قضية مهمة في خلافه مع الآخرين أنَّ ما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم . 

والسوءة السوآء أن أعداءنا اتفقوا ونحن لم نفعل ذلك.... تناسوا خلافاتهم وعملوا على إذابة ما يفرقهم ، واندفعوا بدافع من الوحدة نحو تفريقنا، مع أنهم على الباطل ونحن على الحق، وذلك ما لا ينقضي منه العجب . 

لما قُتل عامل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الأنبار خطب علي في أهل العراق فقال : هَذَا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ، فقتل ابْن حسان البكري ، وأزال مسالحكم عَن مواضعها ، وقتل منكم رجالاً صالحين ، لقد بلغني أن الرَّجُل من أَهْل الشَّامِ كَانَ يدخل بيت المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة؛ فيأخذ حجلها وقُلبها ورعاتها وقلادتها ، فيا عجباً يميت القلب ، ويجلب الهم ، ويسعر الأحزان من جد هَؤُلاءِ القوم فِي باطلهم ، وفشلكم عَن حقكم، فقبحاً وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى ، يغار عليكم وَلا تغيرون ، ويعصى اللَّه فترضون .

?فهل يعيد التاريخ نفسه يا سادة، ويرينا اشتداد أهل الباطل واجتماعهم والتفافهم حول راية واحدة، وتنازعنا وانشغالنا عن القضية المركزية؟ أظن أن هذا قائم اليوم...

فلا تمحور حول الأصول، ولا تسامح في الفروع، ولا ثمة صورة تدل على معنى التوحد والاجتماع المفهومة من كلمة أهل السنة، ما ثمة إلا التنابز والتفرق والطعن في الرموز وهدم صورة القدوات .

إن علماءنا رحمهم الله تكلموا في كتبهم عما يسمى ب(واجب الوقت)، منهم الامام ابن القيم وغيره، ويقصدون به أن أفضل الأعمال ما وجّه الوقت بضرورة تحصيله، ولو كان غيره أفضل منه عموماً؛ كإجابة المؤذن أفضل من الانشغال بالعلم والبيع وغيره ...يقول ابن القيم في مدارج السالكين: فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.

وواجب الوقت اليوم أن نتحد ولا نفترق، ونقدم اتحادنا على أية مهام أخرى، مهما عظمت وسمت، وأن نعتمد القواسم المشتركة، ونتغاضى عما يفرقنا من فروع واجتهادات في شؤون الحياة ، وألا نجعل منها ميزاناً لأُخُوتنا وصداقاتنا، وألا نسوي بالأعداء إخواننا المسلمين، مهما زخرفنا ذلك بالحرص على الدين، والدفاع عن حياضه، والغيرة على نصوصه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين