حكم الشرع في فرض الضريبة على منزل الأسرة

حين يتحول المفتي إلى خبير اقتصادي

شاهدت مقطعا تاما غير مقتطع لبرنامج تلفازي ديني مصري تلقَّى فيه المذيع سؤالا من متصل يقول فيه: يا فضيلة الشيخ ما حكم الشرع في الضريبة العقارية المفروضة على منزل الأسرة؟

وكنت أتوقع من فضيلته بيان حكم الشرع في الضرائب والمكوس وأنها في الأصل محرمة من الكبائر ومن أكل أموال الناس بالباطل فقد روى أحمد وابو داود وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر رضي الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة صاحب مكس)، وروى مسلم عن بريدة في حديث الغامدية التي أقيم عليها حد رجم الزاني المحصن بالحجارة حتى الموت واستشكال بعض الصحابة الصلاة عليها وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم:( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون لم يفرضوا ضرائب على الناس على الرغم من السنوات العجاف الشداد التي مروا بها واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر أمراء الجور.

وعلى هذا جرى أئمة الدين وفقهاء المسلمين تقريرا وتطبيقا وكلام سلطان العلماء العز بن عبد السلام في ذلك وموقف الامام النووي مع الظاهر بيبرس في ذلك معروف مذكور بالخير عند الله والأخيار فقد اراد الظاهر بيبرس البندقداري قاهر التتار ومذل الصليبيين أن يفرض على الناس ضرائب كي يستعين بها على جهاد التتار وأفتاه بذلك جمع وأبى الإمام النووي رحمه الله أن يفتي له بالجواز وأنكر على من أفتى بذلك وكان النووي إماما متبعا ولكلمته صولة وجولة فاستدعاه السلطان الظاهر بيبرس وكلمه في ذلك فلم يفلح في تليين موقفه ولا ثنيه عن فتواه بل واجهه الإمام النووي بشجاعة قائلا: أعرف أنك كنت مملوكاً للأمير بندقدار وليس لك مال، ثم يسر الله لك أمراً على المسلمين فوليت الملك، وسمعت أن عندك كذا ألف مملوك، لكل مملوك منهم حياصته(الحياصة في أصل اللغةهي حزام الدابة) بألف دينار، وعندك مائتي جارية كل جارية عندها حُق حلي يزيد على عشرة آلاف دينار، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك ببنود الصوف بدلاً من تلك الحوايص وبقيت جواريك بثيابهن دون الحلي أفتي لك بجواز أخذك المال من الرعية.

فغضب السلطان من كلامه وأمر بإخراجه من دمشق الخ القصة.

وكان قد أمر بقطع راتبه أو ما يسمونه المعلوم فقيل له: إنه زاهد في الدنيا ولا يأخذ راتبا من السلطان، فكان الظاهر يقول: إني لا أخاف إلا من هذا النووي.

فإن قيل: إن بعض العلماء أجاز فرض ضرائب عند الضرورة، فالجواب ان ذلك استثناء لا يكون إلا عند الضرورة أو الحاجة العامة الملحة وفي حال خلو خزينة الدولة وعدم كفاية الزكاة ومن اجل الصرف على مصالح المسلمين العامة بإشراف ومتابعة سلطان عادل لعلاج مشكلة طارئة.

فإذا اختل شرط من هذه الشروط عادت حراما كما كانت.

وإذا كنا نلهج بالحديث عن فقه الواقع وإدراك الواقع وأثر الواقع فما الذي يقوله واقعنا المعاصر في تحقق هذه الشروط؟

لا أظن الجواب يخفى على عالم حر لم يستعبده مال ولم يستذله منصب ولم يجند نفسه لخدمة حكومة أو جماعة فقد عم الفساد مفاصل الدولة إلا من رحم الله وعدمت الشفافية في نفقات الدولة ومصارفها وساءت خدماتها العامة المقدمة للشعب وانتشر الفقر ورفع الدعم عن كثير من السلع الأساسية حتى تطفل الأحياء على مساكن الأموات وزاحموهم في القبور.

ولكن الشيخ راغ عن السؤال الموجه إلى فضيلته عن حكم الشرع بقوله:( لا علاقة لأحكام الدين بهذا) فهالني ما سمعت وأعدت المقطع لعلي أخطأت السمع فرجعت خائبا حين رأيت الشيخ يتحول من وظيفة المفتي ذي العمامة والجبة إلى خبير اقتصادي واجتماعي ويأبى أن يبين حكم الشرع المنوط بمثله معرفته، ويدعي ان لا علاقة لأحكام الدين بهذا الأمر، ويبين أنه رافض لهذا القانون من الناحية الاجتماعية والاقتصادية بعبارة لطيفة:( أنا مش معاه) ولكن هذا الرفض لا يقوله إلا في اللجان المخصصة لمناقشةالموضوع وفي المجالس الخاصة، ويصرح بان زيادة الاعباء على المواطنين غير سديد، ويستدرك على ما يفهم من كلامه السابق فيقول: (ولكني سألتزم دفع الضريبة العقارية وإن كنت غير مقتنع بها ما دام ولي الأمر قد أمر بها، ولن أمتنع عن سدادها حتى تلغى بقانون جديد؛ لأنه لا يجوز الافتيات على الإمام).

ويؤكد في ختام كلامه أن اعتراضه على الضريبة العقارية على منزل الأسرة (رأي اقتصادي لا ديني ولا حتى شخصي بحيث آخذ موقفا من الدولة).

وما ختم به كلامه هو ما يجب ان نفتتح به فهمنا لموقف الشيخ وكلامه..فالمهم عنده أن لا يأخذ أحد "موقفا"من دولته، وأن تستمر ماضية في طريقها لا يقلق راحتها "موقف" حر صريح. 

وأنا والله لا أدري كيف ننحي حكم الشرع عن هذا الامر الجلل؟! وإذا كان فضيلته معارضا هذه الضريبة ويرى فيها إجحافا وظلما لمن جاهد حسب عبارته وأفنى سنين من حياته كادحا حتى استطاع شراء سكن يؤويه، فجاءت الضريبة كأنها عقوبة له على تعبه وكده وجهاده، إذا كان يراها كذلك -وهي والله وتالله وبالله كذلك- فكيف يتهرب من بيان حكم الشرع في هذا الظلم الفادح والاعتداء على مال معصوم وأكله بالباطل؟ هل كل هذا التهرب من أجل أن لا يتخذ موقفا من الدولة؟!! هل صار رضا الدولة وعدم إزعاج خاطرها أهم من بيان حكم الله ومن إنكار الظلم الواقع على المواطن الغلبان والفقير المطحون؟!

وهل يجوز لولي الأمر أن يفتئت على الشعب ويحرم على الشعب أن يفتئت على سيادته؟!

إن طاعة ولي الامر واجبة في غير معصية وفي غير مضرة وفي غير أكل المال بالباطل، كما ثبت في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كهذا الحديث الذي أخرجه البخاري (13 / 203 - فتح) ومسلم (6 / 15) وغيرهما عن علي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا، وأمر عليهم رجلا فأوقد نارا وقال:ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين قولا حسنا، وقال- فيما زاده الطيالسي(???)- لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف.

وفي رواية عنه في الصحيحين قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه إلى شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها!

قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا (وفي رواية: فقال لهم شاب): إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، (فلا تعجلوا حتى تلقوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها)، فكانوا كذلك، وسكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف ".

ولهذا قرر فقهاؤنا الشافعية( أن الإمام إذا أمر بواجب تأكد وجوبه، وإن امر بمندوب وجب، وإن أمر بمباح فإن كان فيه مصلحة عامة.. وجب، بخلاف ما إذا أمر بمحرم أو مكروه أو مباح لا مصلحة فيه عامة) حاشية البجيرمي على الاقناع ???/?.

وأما قول سيدنا عمر الذي رواه الطبري في تاربخه وابن زنجويه في الأموال : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين) فهو مجرد تمن لم يحوله الى برنامج عمل وكان قادرا على ذلك لو أراد، وما أشبهه بحديث:( لقد هممت ان آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم أخالف إلى بيوت أقوام يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم)، فلذا لم يفرض عمر ضريبة على غني ولا فقير، ولو تأملنا لوجدنا الاستدلال بهذا القول في هذا الموطن خطأ، إذ البيت والمأوى من حاجات الإنسان الأساسية وليس من فضول المال الذي وقع في كلام عمر، ولا ننسى أن قائل ذلك هو سيدنا عمر الفاروق الذي كان شديدا على نفسه وعلى آل الخطاب وعلى ولاته وعماله شدة بالغة فأين واقعنا من عمر وعدل عمر وانضباط بيت المال الدقيق في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه؟!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين