الهجرة الداخلية ... كيف نفهمها؟

بسم الله الرحمن الرحيم

في مناسبة الهجرة العظيمة نتطرق فيما نتطرق إليه إلى الهجرة الداخلية بمعنى أن تهاجر وأنت في وطنك، وتسافر وأنت بين أهلك وصحبك ، ويولع البعض بالتركيز على هذه النقطة ، وأن الهجرة لم تنقطع وأنك بإمكانك أن تكون في عداد المهاجرين بذلك. 

ولربما فهم البعض من القراء وسامعي ذلك الكلام الأمر فهماً عكسياً سلبياً، واستقر في أذهانهم أن تلك الهجرة لا تتأتى إلا باعتزال الناس وترك مجالسهم والانصراف عن أماكن وجودهم ، وتراهم يهرعون إلى ذلك فيعطلون مصالهم، ويضرون بأنفسهم وبمن يعولون ، ويتأخرون عن بناء المجتمع وتطوير الأوطان بسبة أنهم مهاجرون فيها... غرباء على أراضيها... مستوحشون على ترابها . 

ولعل سائلاً من هؤلاء يسأل فيقول : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ - فَتْحِ مَكَّةَ - «لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»؟ ، فاعتزال الناس جهاد ونية في الخير . 

وصحيح هذا الاستدلال إلى حد ما، لكن الهجرة هنا بالنية والإرادة ... ثم العمل بها ما كانت في مصلحتك ومصلحة من تعول، فإذا تعارض ذلك ، وأضرت هجرتك الداخلية وعزلتك الجسدية بدنياك ومعادك فلا... وألف لا . 

وبوسعنا أن نتبين شيئاً من هذا المعنى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رفعه ابن عمر رضي الله عنهما ورواه عنه ابن ماجه والترمذي : الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ .

فالقوة تقضي بأن تعاشر الناس وتخالطهم ببدنك وتعتزلهم بقلبك، على ما قال عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : " كُونُوا فِي النَّاسِ كَالنَّحْلَةِ فِي الطَّيْرِ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الطَّيْرِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَضْعِفُهَا ، وَلَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ مَا فِي أَجْوَافِهَا مِنْ الْبَرَكَةِ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهَا ، خَالِطُوا النَّاسَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ ، وَزَايِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ ، فَإِنَّ لِلْمَرْءِ مَا اكْتَسَبَ ، وَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " ، رواه الدارمي في سننه .

فالفعالية والتأثير يتمثل في الانخراط التام في المجتمعات، وبث الخير ووجوه النفع فيها، وإن كان هناك من وجوه قصور فيها وأمور منكرة فبالقلب والنية، وتلكم الهجرة بعد الهجرة ، وذلكم الجهاد الأكبر . 

روى الترمذي في سننه – وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ - عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ، فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الجَنَّةَ، اغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ.

فيا أيها المصلح ... ويا أيها الداعية ... ويا أيها الأب ... ويا أيتها الأم ... ويا أيها المسلم : 

لا يخلو الناس من عيوب ... ولا يتجردون عن خطأ... لأنهم بشر ... فلو هاجرت عنهم وهاجرتهم لفسدت مصالحك وتعطلت أمورك وأمورهم ... ولكن اصبر على أذاهم وتحمل مضارّهم وحاول إصلاحهم وتقويم اعوجاجهم وهدايتهم، فذلك خير لك من هجرة وعزلة قد تكون منفعتها شخصية وآنية وقاصرة . 

إن في اختلاطك بالناس تكثيراً لسواد المسلمين وهذا جيد ... وقد تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر وتلك عبادة ... وقد تبذل لهم أنواع الخير من إعانة وإغاثة ونحو ذلك فتلك طاعة وقربة إلى الله . 

ولو هاجرت ... ولو اعتزلت ... لفاتتك تلك المنافع وتأخرت عن ذلك الثواب... ولو انصرفت عن الناس بحجة طلب السلامة وأنت قوي ... وباسم الهجرة والهجر في الله وأنت ذو نفع متوقع وفائدة متأملة ... فلمن تترك الساحة ... ولمن تخلي الميدان ؟ لمن لا يَصْلُح لها ولا يُصْلِح فيها؟ لمن لا يعمل بحقها ؟ ... إنك إذن مخطئ ومقصر ومفرط ... وأذكرك بقول ابن الرومي : 

ومن رعى غنماً في أرض مَسبَعَةٍ *** ونام عنها تولى رعيها الأسد 

فالهجرة الداخلية ضرورة ... والضرورات تقدر بقدرها ... وهي حل لا أصل ... وعلاج لا صحة ...

الهجرة حالة اضطرارية وحاجة استثنائية يلجأ إليها الإنسان مضطراً ... وليست حالة أساسية يشجع عليها ... ويدفع إليها ... هي حل خاص بفرد أو جماعة معينة لتجاوز وضع ما ، فإذا زال عاد الأمر على ما كان عليه . 

فلنهاجر بقلوبنا ... ولنسافر بأرواحنا .... والله الموفق والمعين ... والحمد لله رب العالمين . 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين