حدث في السادس والعشرين من ذي الحجة: استشهاد عمر بن الخطاب

في السادس والعشرين من ذي الحجة من عام 23، اغتال أبو لؤلؤة المجوسي الخليفة الزاهد العادل عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، فانتهت خلافته التي دامت قرابة 10 سنين ونصف السنة، واستشهد رحمه الله عن 63 عاماً.

وقد اخترت للحديث عن هذا الخبر أن أورد – بتصرف يسير - ما كتبه الأستاذ الأديب إبراهيم عبد القادر المازني، رحمه الله، في مجلة الرسالة، وقد ترددت في اختياري هذا لأن الأستاذ المازني رحمه الله كتب عن هذا الحدث التاريخي الجلل بحلة حديثة قديمة فيها شيء من الجدة والطرافة، قد لا تليق بحدث حزين مثل مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنني حزمت أمري وأوردته ليعلم القارئ سعة أساليب العربية، وبلاغة كتّابها، وأن العقم في الأفكار والأقلام لا في اللغة وأساليبها، فهو مقال تاريخي دقيق وأدبي فريد، وأعتذر للقارئ إن لم يوافقني في هذا الاختيار. قال الأستاذ المازني:

مقتل عمر بن الخطاب

نقلها عن جرائد ذلك العهد الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

اختلف المؤرخون في مقتل عمر رضي الله عنه، فمنهم من قال: إن أبا لؤلؤة حقد عليه لأنه لم يخفف عنه الخراج الذي ضربه عليه سيده المغيرة بن شعبة؛ وقال آخرون: بل ائتمر به الهُرمزان وهو قائد فارسي أظهر الإسلام وأضمر الغدر، وجفينةُ وهو من نصارى نجران الذين أجلاهم عمر عن جزيرة العرب.

وقد فاتني - لسوء حظي - أن أشهد الحادثة الضخمة وتأخرتُ عنها أكثر من ثلاثة عشر قرناً، ولو حضرتها لعرفت كيف أقول! ولكنه لا يجدي الأسف على شيء فات؛ وما لا يدرك كله لا يترك جُلّه؛ وقد وقعت لي أعداد من صحف ذلك الزمن، مثل جريدة يثرب، وجريدة دار الهجرة، وجريدة العذراء، وغيرها من الصحف الأولى التي كانت تصدر - صباحاً أو مساءً - في صدر الإسلام، وأكبرها جميعاً يثرب، وكانت تظهر في الفجر، فيتخطفها الناس وهم خارجون من صلاتهم بالمسجد، وكان لها مكاتِبون في الأمصار قاصيها ودانيها، يوافونها بأخبارها وأحوالها، وسيرة ولاتها وعمالها، وجُلُّهم - أي المكاتبون - ممَّن دخلوا مع رسول الله مكة، واشتركوا في حروب الردة، وقاتلوا مع سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة، وخالد بن الوليد، في فتوح العراق وفارس والشام، ومن أجل هذا كانت الثقة بأنبائهم عظيمة، والاطمئنان إلى الرواية تاماً؛ ولا عجب بعد ذلك إذا كانت يثرب كبرى الصحف في ذلك العهد وأوسعها انتشاراً، وأوثقها حالاً.

ومما ينبغي أن يذكر من مفاخر هذه الجريدة أن العرب إلى عهد عمر رضي الله عنه كانت تتعامل بالنقود الفارسية والرومية فدعت يثرب إلى ضرب نقود عربية وألحّت في ذلك؛ ورأى عمر رضي الله عنه أنها على حق، فأمر فضربت الدراهم على شكل النقود الفارسية، فلم تقنع يثرب بهذا، وطلبت أن ينقش اسم الله تعالى واسم رسوله تمييزاً لها عن نقود الفرس، فاستحسن الخليفة رأيها، فأمر فكتب على الدراهم: "الحمد الله" على وجه، و"محمد رسول الله" على الوجه الآخر. وقد زعم حاسدوها وشانئوها - من الفرس المغلوبين على أمرهم - أنها ما دعت إلى ذلك إلا ليسهل بيعها، فينتشر أمرها ويعظم ربحها، وقالوا: ألا تراها قد أشارت بضرب الدراهم ولم تذكر الدنانير قط؟ فذاك لأن الدراهم خسيسة، ولأن النسخة من جريدة يثرب تباع بدرهم! ولكن هذا طعن الفرس الموتورين فلا يُسمَع في العرب.

على أن من المحقَق أن حاجة يثرب إلى سنة تؤرخ بها، هي التي أمْلَت عليها الدعوة إلى وجوب الاتفاق إلى سنة معينة للتاريخ منها، غير عام الفيل وعام الفجار وما أشبه ذلك مما لا آخر له، فكان أن استشار الخليفة أصحابه في ذلك فأشار عليه عليٌّ كرم الله وجهه - على رواية يثرب - باتخاذ السنة التي هاجر فيها الرسول إلى المدينة مبدأ للتاريخ الإسلامي.

بعد هذا الاستطراد الذي لم نر منه بداً للتعريف بيثرب ورفعة مقامها وعلو منزلها، نقول: إنا وجدنا فيما عندنا من أعدادها وصفاً مفصلاً لجريمة مولى المغيرة، فرأينا أن ننقله بحروفه حسما للخلاف، وإحقاقاً للحق.

قالت في ملحق أصدرته ضحى الأربعاء 26 ذي الحجة سنة 23 هجرية تحت العنوانات الآتية المكتوبة بالخط الجليل على سبعة أعمدة: عِلجٌ فارسيٌّ يطعن أمير المؤمنين وهو يقيم الصلاة - ويصيب 13 رجلا ثم ينتحر - أهي مؤامرة فارسية نصرانية؟ 

- تحريات مندوبي يثرب الخصوصيين.

ثم قالت الجريدة:

لم نكد نفرغ من طبع العدد الأخير من يثرب وندفع به إلى الباعة، ونذهب إلى المسجد للصلاة، حتى فوجئنا باعتداء أثيم مُرَوِّع من علوج فارس على حضرة أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الفاروق عمر بن الخطاب وهو يسوي الصفوف في المسجد ويهم باقامة الصلاة. وهو اغتيال دنيء وغدر خسيس تنكره الشهامة ولا تعرفه العرب، ولو أن مئة من أمثال هذا العلج الزنيم تصدوا له وهو يراهم، لخلط عظمهم بلحمهم وأكلهم وتأدم بآبائهم وأجدادهم إلى قابيل، ولكن هذا العلج جاءه من وراء ظهره، وأخذه غدراً وطعنه غيلة، وهو رافع يديه يكبر للصلاة.

وقد سبق لنا أن حذرنا الحكومة من هؤلاء الفرس والنصارى الذين يفدون على مدينة الرسول؛ فإنها - على وفرة الماء فيها بالقياس إلى غيرها من بلاد العرب - يابسة الضرع، وغيرها من الأمصار التي فتحها أخصب، والعيش فيها أرغد، فمجيء هؤلاء الأغراب الموتورين إلى المدينة وإقامتهم فيها أمر مريب، فما يعقل أن يطيب لأمثالهم فيها عيش، وهم الذين نشأوا في ظلال الدعة وألفوا حياة اللين والترف، وهذا ما جناه السماح لهم بالإقامة بين ظهرانينا.

ودعونا مراراً إلى اتخاذ الشرطة والحراس، والعسس بالليل، ومراقبة الأجانب، وقلنا: إن خروج الخليفة وليس معه حارس، ولا في يده سلاح، ونومه في الأحيان الكثيرة في ظل شجرة أو جدار لا يخلو من الخطر، وأنه تعرض لا تؤمن مغبته، ولو أنه ليس بالمدينة إلا العرب لما أشفقنا، ولكن الأغراب كثروا بيننا، وهم من بلاد داستها جيوشنا، ودوخت أممها، وثلت عروشها، فهم حاقدون مضطغنون، لا يُؤمن غدرهم ولا يتقي شرهم إلا بالحيطة والتحرز منهم. وقد صدق ظننا مع الأسف، وليته خاب ألف خيبة، نسأل الله اللطف فيما وقع.

ثم فصَّلت الجريدة الحادث كما وقع فقالت:

دخل الخليفة المسجد ليصلي بالناس على عادته، وكانت في يده الدرة التي لا تفارقه، فاخترق الصفوف والناس يفسحون له، ويحيونه بأحسن من تحيته، حتى صار إلى الصدر فاستقبل الناس ليقوّم صفوفهم، وذاك دأبه، فإنه يكره الفوضى ويحب النظام، ثم ألقى الدرة من يمينه، وكان يسوّي بها الصف، ويشير للمتقدم أن يتأخر، وللمتأخر أن يحاذي الذي بجانبه، ثم اتجه إلى القبلة ورفع يديه وكبر، ولم يكد صوته الجهوري يرتفع بالتكبير حتى هجم عليه رجل - ظهر فيما بعد أنه غلام المغيرة - وفي يده خنجر وضربه به في كتفه، فانحنى أمير المؤمنين قليلاً من عنف الصدمة وقوة الضربة على غير توقع منه، فمال معه المجرم وكاد يسقط، غير أنه اعتمد بيسراه على ظهر أمير المؤمنين ونزع الخنجر الذي أصاب عظمة الكتف، وكان الخليفة قد تمالك، وذهبت عنه دهشة المفاجأة فدار ليواجه المعتدي عليه، فعاجله الجاني بطعنة في خاصرته، وأسرع فنزع، وتشدد الخليفة فضربه بجمع يده في صدره وهو يقول: تريد قتلي يا ابن الفاعلة؟! فارتد المجرم خطوات، ثم كر عليه بالخنجر يطعنه طعناً سريعاً فسقط أمير المؤمنين على الأرض.

وكان الناس قد أذهلتهم هذه المباغتة، وأصابتهم منها لأول وهلة كالرعب، فتراجعوا والتوت صفوفهم، ثم أفاقوا، فصاح بعضهم يطلب الشرطي - وأين هو حتى يلبي النداء؟ - وهجم منهم عليه رهط، فأعمل فيهم خنجره يضرب يميناً وشمالاً كالمجنون، فأصاب منهم ثلاثة عشر رجلاً، وألهم الله بعضهم فألقى عليه برنسا - كما تُلقي على الجواد الجامح ثوباً - فأعماه وشلّ حركته، ثم تكاثروا عليه، وأيقن هو أنه هالك لا محالة فطعن نفسه فمات!

وأقبل الناس بعد ذلك على أمير المؤمنين واجمين محزونين - حتى الجرحى منهم - فردهم عنه بإشارة وسأل: هل فيكم عبد الرحمن بن عوف؟ فتلفت الناس ينظرون، فإذا ابن عوف يفرقهم ويقول: نعم يا أمير المؤمنين. فقال له: تقدم، فصلِّ بالناس.

فكانت دهشة، ولكن عمر هو عمر، لا يشغله خَطب عن دينه وواجبه، ولا يجرؤ أحد على خلافه من هيبته، فصلى ابن عوف بالناس صلاة خفيفة، وعيونهم على الخليفة، وهو ساكن وادع معتمد على الأرض بمرفقه، يصلى معهم بشفتيه، ثم أقبلوا عليه فحملوه، يريدون أن يذهبوا به إلى داره، فقال: مهلاً، ناولتي درتي يا هذا. فناولوه إياها، فأخذها وعلى فمه ابتسامة،فابتسموا لابتسامته، ولكن دموعهم كانت تساقط على لحاهم وأيديهم التي خضبها دمه الزكي، فنظر اليهم يبكون وقال يزجرهم: بل الحمد الله الذي لم يجعل منيتي بيد مسلم.

أما الجاني فهو أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة، وأصله فارسي من نهاوند.

وقد كتب الينا مندوبنا القضائي يقول:

منذ بضعة أيام جاء فيروز هذا إلى أمير المؤمنين يشكو إليه أن مولاه المغيرة بن شعبة يشتط في الخراج الذي ضربه عليه ويرهقه بما يتقاضاه منه، وسأله التخفيف عنه. فسأله الخليفة: كم خراجك؟ فقال: درهمان في كل يوم. فسأله: أو كثير هذا عليك؟ قال: نعم، وحقك. قال الخليفة: دع هذا، وقل ما صناعتك؟ قال الغلام: نحاس ونقاش وحداد. فقال أمير المؤمنين: ثلاث صناعات في يديك، وتشكو رقة الحال وتستكثر درهمين؟ كلا ليس خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال! وأعرض عنه.

وقد يؤخذ من هذا أن فيروز حقدها على أمير المؤمنين، وأسرَّها في نفسه، وأضمر أن ينتقم، ولكنا لا نعرف أن الناس يقتل بعضهم بعضاً من أجل درهمين، فكيف باغتيال خليفة؟ ثم إن تحرياتي تدل على أن الأمر كان مبيَّتاً بليل، فقد حدثني عبد الرحمن ابن أبي بكر - وهو ثقة - أنه رأى عشية أمس الهرمزان الفارسي وجفينة النصراني وأبا لؤلؤة هذا، وهم يتناجون، فلما رأوه اضطربوا، وسقط من أحدهم خنجر له شعبتان، يقول ابن أبي بكر أنه هو نفس الخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة أمير المؤمنين. فبماذا كانوا يتناجون في غلس الليل، وهذا فارسي أعجمي، وذاك نصراني عربي وثالثهم مملوك للمغيرة؟ وماذا جمع العربي النصراني، والفارس المجوسي وإن تظاهر بالإسلام؟

ومعروف أن الهرمزان هذا كان من قواد الفرس الذين هزمهم سعد بن أبي وقاص، وقد أظهر الإسلام لينجو بجلده، وخان المسلمين مراراً ثم زعم أنه تاب، ومثله خليق أن يبطن العداوة للعرب وألا يغفر لهم أنهم مزقوا عرش الأكاسرة وغلبوهم على بلادهم ومجوسيتهم، وسووا بين الناس فلا سيد ولا مسود، ولا شريف ولا وضيع.

أما جفينة فأمره مشهور، وهو نصراني من نجران، أتى به سعد بن أبي وقاص ليعلم الناس الكتابة - فيا سوء ما أتى به سعد من هذا! وقد كان أمير المؤمنين خاف انتقاض النصارى في نجران عليه، وهو في حرب الفرس والروم، فأجلاهم عن جزيرة العرب، ثم عوضهم وأوسع لهم من الأرض في الشام والعراق، وأعطاهم خيراً مما تركوا، ثم هزم المسلمون جيوش هرقل وهو حامي النصرانية، فجفينة لا ريب مضطغن لذلك؟ وقد وجد في الهرمزان حليفاً ونصيراً، وفي فيروز وهو فارسي كالهرمزان، أداة لارتكاب الجريمة المدبرة.

وهذا هو الذي عليه الرأي العام، ولو ترك الناس لرأيهم وخلى بينهم وبين ما يريدون لفتكوا بالفرس والنصارى وشربوا دماءهم، فإن النفوس فائرة، والصدور مضطرمة، ولكنهم يكبحون أنفسهم ويحملون عليها ويردونها على مكروهها احتراماً لأمير المؤمنين وانتظاراً لما يفعل، شفاه الله وعافاه.

بل هذا هو رأي أمير المؤمنين نفسه، فقد اجتمع إليه في داره المهاجرون والأنصار بعد أن حُمل إليها، فقال لابن عباس وكان معه: أخرج إليهم فاسألهم أعن ملأ منهم ومشورة كان هذا الذي أصابني؟ فعاد إليه ابن عباس يقول: إن القوم يقولون: لا والله، ولوددنا أن زاد الله في عمرك من أعمارنا. فقال الخليفة: إذن أبرق إلى العراق وفارس وأنبئ العمال بما كان، وحذرهم أن ينتقض الناس على غرة منهم، فما يدريني ويدريك، لعله تدبير من هناك.

وقد أرسلت البرقيات اللاسلكية إلى عمال الأمصار بالاستعداد لكل طارئ فلا خوف من هذه الناحية فإن قوتنا كافية لقمع ما عسى أن ينجم من الفتن.

وعند مثول هذا الملحق للطبع أبلغنا مندوبنا ما يأتي تليفونياً:

عرفتم أن المجرم أبا لؤلؤة عليه لعنة الله وملائكته، أصاب ثلاثة عشر من المصلين بخنجره، كانوا يحاولون القبض عليه وانتزع الخنجر منه، فالآن أقول: إن سبعة منهم كانت جراحهم خطيرة، فتوفوا من النزف، وسيجهزون للدفن وتشيع جنازتهم بعد صلاة العصر باحتفال كبير يمشي فيه المهاجرون والأنصار والبدريون، وقد أمر الخليفة بأن ينوب عنه في تشييع الجنازة صهيب الرومي.

أما الستة الآخرون فجراحهم خفيفة، وقد بعث إليهم الخليفة بابنه عبد الله بن عمر ليعودوهم ويستفسر عن حالهم، فشكروا له هذا العطف السامي ودعوا الله أن يعجل بشفائه.

هذا وقد فحص الطبيب الشرعي الخنجر فتبين أنه مسموم فلا حول ولا قوة إلا بالله، وأذيعت نشرة طبية موجزة جاء فيها أن الإصابات ست في الكتف والخاصرة والظهر، وإن النزف منها شديد، وقد سُقيَ أمير المؤمنين لبناً فخرج من إحدى الطعنات أبيض كما هو، فنصح الطبيب الخليفة بأن يعهد، تولانا الله برحمته.

صدر العدد التالي من يثرب في الثاني من المحرم من عام 24 مجللاً بالسواد، ينعي أمير المؤمنين إلى العالم الإسلامي، ورثاه رثاء طويلاً، ولخص سيرته في الجاهلية والإسلام، ولا نحتاج أن ننقل من هذا شيئاً فإنه معروف، ووصف تجهيزه للدفن في اليوم السابق، وتشييع جنازته والصلاة عليه بالمسجد، وحمله على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنه معه إلى جانب أبي بكر الصديق، وسرد أسماء المشيعين من الأنصار والمهاجرين وغيرهم، وروت فيما روت أن علياً وعثمان تقدما للصلاة عليه فردهما عبد الرحمن بن عوف وقال منكراً عليهما ذلك: لا إله إلا الله! ما أحرصكما على الإمرة! أما علمتما أن أمير المؤمنين قال: ليصلّ بالناس صهيب؟ وأثبت تصريحاتَه قبل موته، لابن عباس، ووصيته لمن يخلفه، وقالت الصحيفة إنه دفع بها إلى ابنه عبد الله وقال له: إذا اجتمع الناس على رجل - أي أمير المؤمنين - فادفع إليه هذا الكتاب وأقرئه مني السلام. وأوردت الصحيفة ما أمر به في اختيار خليفته، وما أوصى به أبا طلحة الانصاري والمقداد بن الأسود، وكل هذا مشهور فلا داعي لنقله.

ولكن حادثاً وقع بعد ذلك، تعد يثرب مسئولة عنه، فقد ذهبت إلى أن قتل عمر كان عن تآمر من جفينة النصراني والهرمزان الفارسي، وأنهما هما اللذان أغريا أبا لؤلؤة بقتله، وروت ما شهد به عبد الرحمن بن أبي بكر وغيره في ذلك، وأيدت ذلك بالدليل العقلي، فهاج عبد الله بن عمر، ومضى إلى ابنة أبي لؤلؤة فقتلها، ثم إلى جفينة والهرمزان فألحقهما بها، انتقاماً لأبيه؛ ولم يكن الذين وكل إليهم التشاور في أمر الخلافة قد فرغوا، فبعث صهيب عمرو بن العاص إلى عبد الله، وكان عمرو داهية، فلم يزل يحاوره ويداوره ويمسح منه في الذروة والغارب حتى سكنت نفسه، فأخذ منه سيفه، ثم جاء سعد بن أبي وقاص فقبض عليه وحبسه في داره.

ولما تولى عثمان بن عفان الخلافة، استشار أصحابه في أمر عبد الله بن عمر، فأشار بعضهم بقتله فيمن قتل، ولكن آخرين استنكروا أن يقتل الأب أمس ويقتل الابن اليوم، ووجد عمرو بن العاص مخرجاً من هذه الورطة، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان، ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك. أي قبل أن تكون خليفة، فمال عثمان إلى الرأفة، ورفض رأي علي بن أبي طالب، وكان يذهب إلى قتل عبد الله بن عمر، وقال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي.

وقد أثنت يثرب على مشورة ابن العاص، ومروءة عثمان بن عفان، وقالت: إن هذا درس عسى أن ينفع العجم والنصارى فيصرفهم عن التآمر مرة أخرى، ولكن فريقاً من الأنصار كتبوا إليها يفندون رأيها، ويقولون : إن الواجب كان أن يقتل ابن عمر؛ فكان هذا أول خلاف في عهد عثمان.

ولم ننقل هذا إلا لأن الفريق الذي طالب بقتل ابن عمر كذّب ما روته يثرب في ملحقها من أن أبا لؤلؤة قاتل عمر انتحر لما كثر عليه الناس وأيقن من الهلاك، وأكد أنه لم ينتحر، وإنما ثار رجل من المصلين فقتله وأخذ منه الخنجر.

وكذّب أيضاً أن الخنجر كان مسموماً، ولم يحفل بما قاله الطبيب الشرعي في ذلك، وقال: إن ستة ممن طعنهم أبو لؤلؤة بخنجره هذا شفوا ونجوا، ولو كان الخنجر مسموماً لماتوا، وإنما مات من مات لإصابته في مقتل، أو من شدة النزف.

وطال الحوار والأخذ والرد بين يثرب ومخالفيها في الرأي، حتى لأنكروا عليها أن الحدث كان عن تآمر، واستهجنوا منها أن تحض على اضطهاد العجم والنصارى، وقالوا: إن هذا التحريض من سوء الرأي، وإنه خليق أن يفسد أمور الدولة ويخلق لها متاعب هي في غنى عنها في عهد التأسيس، وأنه توجد عصبيات لا يؤمن شرها في المستقبل، وتفاقم الخلاف بين الفريقين حتى لدعا علي كرم الله وجهه، الخليفة إلى إغلاق يثرب، أو على الأقل تعطيلها حتى تقر الفورة وتهدأ النفوس، ولكن الخليفة شقَّ عليه أن يصيب حرية الرأي في عهده أي سوء، فاكتفى بالنصح لجريدة يثرب ألا تسرف في دعايتها، وأن تتقي اللجاجة وما قد تجر إليه من الفتنة.

وقد آثرنا التلخيص، لأن النقل يطول، والقارئ أدرى بالصحف وكيف تبدئ وتعيد حتى تعكر الجو وتضجر وتغشى. 

وقد بلغ من تفرق الرأي في ذلك الوقت أن الناس كانوا يجلسون في المسجد حلقات وفي أيديهم أعداد يثرب، فهذا يؤيد، وذاك يعارض ويكذب، حتى خيفت الفتنة وحسبنا هذا القدر.

وأورد هنا بعضاً من ترجمة الأستاذ المازني كما أوردها صديقه الأستاذ الزركلي في الأعلام:

إبراهيم بن محمد بن عبد القادر المازني، المولود سنة 1308= 1890، والمتوفى سنة 1368=1949، أديب مجدد، من كبار الكتاب، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة ، امتاز بأسلوب حلو الديباجة، تخرج بمدرسة المعلمين، وعانى التدريس، ثم الصحافة، وكان من أبرع الناس في الترجمة عن الإنكليزية، ونَظَمَ الشعر، ثم رأى الانطلاق من قيود الأوزان والقوافي فانصرف إلى النثر، وقرأ كثيرًا من أدب العربية والانكليزية، وكان جلدا على المطالعة، وذكر لي أنه حفظ في صباه كتاب الكامل للمبرد غيبا، وكان ذلك سر الغنى في لغته، ورأى الكتابَ يتخيرون لتعابيرهم ما يسمونه أشرف الالفاظ، فيسمُون به عن مستوى فهم الأكثرين، فخالفهم إلى تخير الفصيح ممَّا لاكته ألسنة العامة، فأتى بالبين المشرق من السهل الممتنع.

وكان من أرق الناس عشرة، ومن أسلسهم في صداقته قيادا، يبدو متواضعا متضائلا - وفي جسمه شئ من هذا - وفي قرارة نفسه أشد الاعتزاز بها والعرفان لقدرها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين