ما أجمل السّماحة!

لي صديقٌ شديد لا يترك حقاً أُخِذَ منه إلا اشتدّ في استرجاعه، وأنا على خلافه، أترك بعض ما هو لي عند الناس من حقوق مادية ومعنوية وأتجاوز في استيفائها. فقال لي يوماً يعيّرني: إنك ضعيف. قلت: ليس ذلك، ما بي ضعف ولكنه خوف. قال: تخاف من الناس؟ قلت: بل أخاف من رب الناس. قال: كيف؟ قلت: أخبرُك، أمَا قرأت "تاجر البندقية"؟ قال: أوضِحْ أكثر.

قلت: نعم؛ في مسرحية شكسبير الشهيرة يَشترط المرابي اليهودي شايلوك على أنطونيو (الذي اقترض منه المالَ) أن يقتصّ منه رطلاً من لحم إنْ عَجَز عن القضاء، فلما عجز شكاه إلى المحكمة وطالب بحقه. وعبثاً حاول القاضي أن يقنعه بالتنازل والتسامح، فلما عَيَّ ويئس منه ناوله السكين وقال: دونك، خذ حقك. واقترب شايلوك من الرجل المسكين فهتفت به بورشيا (ولا يهمنا الآن مَن هي بورشيا) قالت: حسبك، انتبه؛ من حقك أن تقطع رطلاً من اللحم لا ينقص ولا يزيد، وحَذارِ أن تريق نقطة من دم. فبُهت المرابي القبيح وقال: كيف أقتطع لحماً ولا يسيل دم؟ قالت: أنت الذي قررت الجزاء، وليس فيه إلا رطل لحم لا غير.

وكانت النتيجة أن خسر اليهودي المرابي القضيةَ وخسر المال لأنه عَجَز عن استيفاء حقه الصافي بلا زيادة ولا عدوان.

* * *

لقد تعلمت من الحياة أن الحقوق المادية والمعنوية معقدة متشابكة يتداخل بعضُها في بعض، وأن المرء لا يمكن أن يحصل على حقه كاملاً إلا إذا أخذ شيئاً (ولو يسيراً) من حق غيره، فآثرتُ أن أترك شيئاً ممّا لي عند الناس على أن آخذ منهم شيئاً ممّا ليس لي، فما أدراني وأنا أقتضي اللحمَ الذي لي أن أُريق الدمَ الذي ليس لي؟ وأيُّ مكسب أكسبه إذا اقتضيت حقي هنا من متاع الدنيا فجُرْتُ على حقِّ غيري ثم اقتُضي مني هناك حسنات؟

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: "أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا مَن لا درهمَ له ولا متاع. قال: "إن المفلس مِن أمّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثم طُرِح في النار".

* * *

فيا أيها الناس: احرصوا على حقوقكم ولا تكونوا من الضعفاء والمفرّطين، ولكن لا تبالغوا بطلبها حتى تجوروا على حقوق الآخرين.

مَن أراد رحمة الله وثوابه فليسامح وليتسامح في اقتضاء الحقوق: "رَحِمَ الله رجلاً سَمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".

ومن أراد الدنيا وزهد في رحمة الله وثوابه فليصرّ على حقه الكامل الذي يتصوره، ولن يناله إلا بزيادةٍ سيُسأَل عنها يومَ الحساب، فإنكم لن تستطيعوا استيفاء حقوقكم صافيةً مهما بلغتم من الحرص والورع والتقوى، ومَن زاد واعتدى وأخذ ما ليس له أدّاه يوم القيامة من حسناته، أو حمل مقابلَه من سيئات الآخرين. فما لكم وتضييع ثمرات الأعمال الصالحة التي تعملونها؟ وما لكم وحمل أوزار الآخرين؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين