المُصطلَحاتُ وأثرُها في الفِكرِ الإِسلاميّ

لا شك أن الخطوة الأولى في مسيرة الفكر السليم هي العناية باللغة تحديدًا وفهمًا وسياقًا؛ حتى يقوم البحث أو الحوار والتفاهم على أسس علمية واضحة جليّة، وحتى لا تنقلب الأمور إلى أضدادها ويستغلها صاحب الهوى (فإن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر وكلاهما قبيح)([1])، ذلك لأن الألفاظ المبهمة الغامضة تربك الذهن وتشوش الفكر.. وإن من البلاغة أن تَبِين عن قصدك بالشكل الذي يجعل القارئ أو السامع يتفهم ما تريد، وعن أهمية الكلمة ووضوحها يقول الدكتور زكي نجيب محمود: (قد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها، لكنك إذا عزلتها وحدها ووضعتها في مخبار التحليل ألفيتها تقاوم وتراوغ، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ كائنٌ حي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، تنصاع لفهمك إذا جعلتها جزءًا من عبارة، وكأنها وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى)([2]).

لقد أدان القرآن الكريم محاولات أناس يلجؤون إلى الخداع اللفظي أو تعمد الغموض واللبس ليتسنى لهم تفسير اللفظة حسب أهوائهم وحسب الأوجه التي تناسبهم، فقال تعالى مخاطبًا بني اسرائيل ناهيًا إياهم عن الخلط والخداع الذي اتصفوا به: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [سورة البقرة: آية 42] وقال عنهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [سورة النساء: آية 46] وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن لا يستعملوا كلماتٍ فيها خلط وفيها باطل مثل كلمة (راعِنَا) وأن يقولوا عوضًا عنها (اُنْظُرْنا) ذلك لأن اليهود كانوا يستعملون كلمة راعنا بطريقة ملتوية خبيثة، يقصدون بها قصدًا سيئًا في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة: آية 104].

نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ليكون ذلك حماية له من التحريفات أو التأويلات الباطلة، فإن للغة العربية قدرةً فائقة على تحديد المعاني بطريقة واضحة جازمة {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الزخرف: آية 3] قال الشيخ ابن عاشور: (لأن أهل تلك اللغة أفهم لدقائقها، واصطفى رسوله من أهل تلك اللغة لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم، فيكونوا المبلغين مراد الله إلى الأمم)([3])، وقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [سورة الزخرف: آية 63] (والتبيين هو تجلية المعاني الخفية لغموض أو سوء تأويل)([4])، وقد وصف القرآن الكريم أشرف الخلق محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعبودية فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [سورة الإسراء: آية 1] وذلك حتى لا يكون هناك أي التباس أو أوهام من بنوّة أو أبوّة كما وقع للنصارى في عيسى عليه السلام.

سوء التعامل مع الألفاظ:

إنه من الملاحظ أن كثيرًا من التفرق والتحزّب الذي وقع في الأمة إنما هو ناشئ عن سوء التعامل مع الألفاظ والمصطلحات، ولهذا مَنع العلماء من إطلاق الألفاظ المبتَدَعة المجملة المشتَبِهة، فعندما شاع مذهب الجبرية أنكر العلماء هذا المصطلح وقالوا: لا يجبر الإنسان على شيء ثم يُحاسب عليه، ولكن قد يُجبل على خلق معين كما في حديث وفد عبد القيس حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرئيس الوفد: ((يَا أَشَجُّ إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، الْحِلْمَ وَالتُّؤَدَةَ)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشَيْءٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ، أَمْ شَيْءٌ حَدَثَ لِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَلْ شَيْءٌ جُبِلْتَ عَلَيْهِ))([5])، ولأنه قد تطلق الألفاظ وهي تحمل حقًّا وباطلًا، فإذا نُفيت فهذا يعني نفي ما فيها من الحق، وإذا أُثبتت فهذا إثبات ما فيها من الباطل، ولذلك لا بد من تحريرها، وإدراك ما تحمله من معانٍ، ومعرفة المقصود منها..

النقل والترجمة عن اللغات:

إن لكل أمة أوضاعًا ومصطلحاتٍ خاصةً في لغتها، ولما كانت اليونانية قديمًا لغة العلم، كما هو حال اللغة الإنجليزية اليوم، وكانتا مختلفتين تمامًا عن العربية؛ وجب ترجمة معاني مفرداتهما ومصطلحاتهما العلمية ترجمة دقيقة لمعرفة ماذا يقصدون بهذه المفردة في ثقافتهم؟ وكيف نشأت؟ ولماذا؟ (فإنه عندما يفهم المرء المعنى الدقيق لكلمةٍ ما؛ فإنه يفهم في غالب الأحيان كذلك الإشكالات التي تكون لها علاقة بهذه الكلمة)([6]) يقول الدكتور زكي نجيب محمود: (قل أي جملة شئت، مهما بلغت بساطة مضمونها، ثم انقل هذا المضمون إلى لغة أخرى تجدك قد اضطررت إلى نقص هنا وزيادة هناك مما تقتضيه ثقافة تلك اللغة الأخرى)([7]).

وإذا كان العلماء والمفسرون قد كفَوْنا مؤونة شرح بعض المصطلحات القرآنية المهمّة وتحديدها، مثل: (الجاهلية، الأمة، الحكم، الهجرة، الجهاد)؛ فإن عصر الترجمة في العصر العباسي الأول أدخل عباراتٍ ومصطلحاتٍ هي نتاج ثقافة أخرى ولغة أخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها لفظ (العقل).

إنّ مصطلح (العقل) عند اليونانيين القدماء الذين تُرجمت كتبهم إلى العربية مغايرٌ لمعناه في القرآن الكريم، فإنهم يعنون بالعقل جوهرًا قائمًا بنفسه، ولكنه في المصطلح القرآني: إجراء ذهني يساعد على السيطرة والضبط والتحديد، وهو عملية رُشد وتمييز بين الهدى والضلال، ولذلك ورد ذكره في القرآن بصيغة الفعل (تعقلون) أي الممارسة لعملية التفكير والمقارنة، والعقل عند بعض الفلاسفة اليونانيين، وحسب نظرية (الفيض) عند أفلوطين -وليس أفلاطون- تعني التدرج من المصدر الأول (الإلهي) نزولًا إلى العقل الإنساني وهي عشرة عقول، ولها تعلق بالأجرام السماوية، وهذه النظرية أخذها الفارابي عن أفلوطين، وهو تصور محضُ خرافةٍ وجهل بالله ومخلوقات الله، وإن نبوغ اليونانيين في الرياضيات أو الطب أو علم الفلك لا يعني أنهم كذلك في الإلهيات([8])، بل هم أجهل الناس بالإلهيات التي يجب أن تُتلقَّى عن الأنبياء، والحقيقة أن الفلسفة التي تسمى (إسلامية) استَجلبت نظامًا كاملًا من المفاهيم الأجنبية لا شأن لها أصلًا باللغة العربية أو برؤية الإسلام للعالم، ولما أراد هؤلاء الفلاسفة التوفيق بين الدين والفلسفة وإيجاد مصطلحات مناسبة لذلك -مع أن المفاهيم أجنبية- حدث التناقض والتشويش، لأنه من الصعب إيجاد مقابل تام في اللغة العربية لمصطلح يوناني، وقديمًا اشتكى الخطيب الروماني الشهير (شيشرون)([9]) من صعوبة التعبير باللّاتينية عن المفاهيم الإغريقية.

ولعل من الآثار السلبية لنقل المصطلحات بلا تتبع مصدرها وسبب نشأتها -بحسب رأي البعض- ما وقع للمسلمين من استعمال المصطلحات الإغريقية التي تفسر الوجود كله في إطار (الجواهر والأعراض) وما يعرض لها من حالات، واستخدام هذه المصطلحات في علم الكلام.

النقل والترجمة في العصر الحديث:

إننا إذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث فسوف نجد أنّ المشكلة تتكرر -وربما بشكل أوسع- ودون أن ننتبه إلى ما تلقي الكلمة المستوردة من ظلال على واقعنا اللغوي والمعرفي، وما المفاهيم الكامنة وراءها، وما لها من معان عند القوم غير موجودة في ثقافتنا.

ثم زدنا على ذلك فقمنا بترجمة المصطلحات الأجنبية ترجمة حرفية، فمصطلح (الأصولية) الذي شاع أخيرًا في الصحافة والإعلام وعند بعض الكتّاب؛ إنما هو ترجمة حرفية لكلمة (Fundamentalism)، التي تشير في المعجم الغربي بالدرجة الأولى إلى التفسيرات الحرفية البروتستانتية للعهد القديم والعهد الجديد، وهكذا نجد أن الأصولية والحَرْفِيّة مترادفتان في المفهوم الغربي، أما في السياق العربي الإسلامي فالأمر مختلف جدًا، فالحرفية تعني عدم إعمال العقل أو الاجتهاد، وهذا النمط غير معروف في الفكر الإسلامي، ويقال في التراث الإسلامي (أصوليّ) ويعنون بذلك المتمكن من علوم أصول الفقه، والأصول عندنا هو إطار علمي دقيق لعملية اجتهاد مستمر.

إنّ مصطلح (Religion) أي الدين عند الغرب يعني: التوجه الروحي للأفراد، أي أن الدين لا يتدخل في حياة الإنسان الدنيوية: السياسية والاقتصادية والحياة الاجتماعية، ويقال: إن هذا المصطلح مأخوذ من كلمة Relation التي تعني العلاقة.

وأما مفهوم (الدين) عند المسلمين فهو نمط حياة شامل لكل شؤون الحياة، وقد عَرَّفه العلماء بأنه: (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطنًا وظاهرًا)، فالمراد من الدين هو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [سورة النحل: آية 97]، ولذلك أطلق الغربيون -عن عمد أو عن جهل- مصطلح (الإسلام السياسي) وتلقفه المقلدون عندنا، وهو مصطلح غير صحيح، لأن معناه أن هناك إسلامًا غير سياسي {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [سورة الحجر: آية 91].

إنّ كلمة (Faith) الإنجليزية، تترجم إلى العربية بمعنى الإيمان، ولكننا نلاحظ الفرق الكبير بين مصطلح (الإيمان) القرآني وهذه الكلمة في الثقافة الغربية؛ إذ تعني عندهم الثقة بشيء ما، وتعني الاعتقاد بأي شيء كان، كما تعني الإيمان بالله والدين على أساس الفهم والتخوف الروحاني غير المعتمد على برهان أو دليل.. أما الإيمان بالمصطلح الإسلامي فإنه تصديق جازم مبني على الدليل والبرهان يشمل اعتقادات القلب وعمل الجوارح، وهو اليقين دون شك أو رَيْب.

كما تُترجم كلمة (nation) بمعنى (الأمة) ولكنها عند أصحابها تعني شعبًا ضمن حدود جغرافية، أي هي قومية معينة، والأمة بالمصطلح الإسلامي قائمة على رباط عقدي سياسي، لا تزال تجمع المسلمين دون حواجز اللغة أو العرق أو اللون.

ونستخدم مصطلح (التقدم) دون أن نحدد مضمونه، هل هو إقامة العدل وتحقيق إنسانية الإنسان، أم هو الإنتاج المادي والاستهلاك والرفاهية؟

إن الغربي ينظر إلى الوراء، إلى القرون الوسطى وكيف كانت أوروبا، ثم ينظر إلى ما هو عليه الآن، من بداية النهضة ثم التقدم العلمي والصناعي، فإذا سمع مصطلحًا يوحي بالرجوع إلى العصور السابقة، فإن هذا يفزعه، ولذلك كان لمصطلح (التقدم) سحر خاص لديه.. ولكن هذا لا ينطبق على كل شعوب الأرض، وإنه من غير المقبول أن يفرضوا نظرتهم إلى التاريخ على سائر البشرية، كما فعل (ماركس) إذ رأى أن المجتمعات البشرية تطورت من شيوعية بدائية إلى عبودية وإقطاع ثم الرأسمالية ثم الاشتراكية العلمية (الشيوعية) وهي نهاية المطاف، وهي الأمل والمثل الأعلى، وإن كان هذا التطور ينطبق على أوروبا مثلًا؛ فإنه لا ينطبق على المجتمعات الأخرى، أو على تاريخ البشرية كلها.

يتقن الغرب تحريفَ الكلمات وإعطاءَها مدلولًا يناسبها، كما حكى القرآن الكريم عن بني اسرائيل، فالغرب يسمي احتلال بلدان الشعوب الأخرى (الاستعمار) و(عصر الاكتشافات) وكأنه أعمر بلدانا كانت خرابًا، أو اكتشف قارة ليس بها أحد، وما ذلك إلا لأنه يرى أنّ هذه الشعوب المستَعمَرة لا تستحق الحياة.. وهو يسمي المنطقة العربية الإسلامية: (الشرق الأوسط) وذلك لإبعادها عن هويتها الإسلامية، فهي بنظره جزءٌ جغرافيٌّ من الشرق، فهناك شرق أدنى وشرق أوسط وشرق أقصى.

فإذا ما أتينا إلى المصطلحات التي كثر الحديث عنها في مجتمعاتنا المسلمة اليوم مثل: الدولة المدنية، المواطَنة، الديمقراطية... إلخ، نجدها أشد اشتباها مما سبق الحديث عنه، وإن الأصل والواجب علينا أن نعود إلى أصل المصطلح لنعرف أين نشأ وما هو مفهومه عند من أنشأه.

إن مصطلح (الدولة المدنية) مثلًا، نشأ من خلال صراع أوروبا مع الكنيسة وتسلطها، حين كان ملوك أوروبا - بحصولهم على تأييد القسس والرهبان ومباركتهم - يحكمون شعوبهم باسم الإله، وهو ما يُسمى بالنظام الثيوقراطي، أو الدولة الدينية، فالدولة المدنية باصطلاحهم هي مقابل الدولة الدينية، وليس عندنا في الإسلام شيء اسمه دولة دينية، ولكن عندنا دولة تحكمها الشريعة الإسلامية ونظم منبثقة عن هذه الشريعة، ولا يحكمها طبقة اسمها (رجال الدين)؛ إذ ليس في الإسلام طبقة اسمها (رجال الدين)، ومفهوم (الثيوقراطية) بعيد جدًا عن شكل النظام الإسلامي الذي له أسسه ونظرته الخاصة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فكيف نأتي بمصطلح نشأ في أوروبا نتيجة صراع طويل بين الشعب والسلطة الطاغية للملوك والرهبان؛ ونطبقه على واقعنا الإسلامي الذي لا يحمل أيًّا من ملابسات ظهور هذا المصطلح في التاريخ السياسي الأوربي؟

إن الدولة المدنية في الغرب تعني (الدولة العلمانية) حيث يُشرّع الإنسان ويضع القوانين التي تنظم حياته، ويكون الشعب فيها مصدرَ السلطة وصاحب الحق في التشريع، إذ هو أعرف بأمور دنياه، -كما ورد في برامج بعض الأحزاب العربية (الوسطية)- وأما الدين عند هؤلاء فإنه يقتصر على ممارسة الشعائر التعبدية.

وأما الذين يقولون: نقصد بالدولة المدنية أنها ليست دولة عسكرية، فإن كلامهم لا يعدو المغالطة والخداع، فالغرب عندما أطلق هذا المصطلح لم يكن تحت حكم عسكري، ويريد إزاحته بدولة مدنية.. وأما الذين يقولون: لا مشاحة في الاصطلاح إذا اتفقنا على المضمون الذي نريده لشكل الحكم؛ فيقال لهم: لماذا لا نبتعد عن المصطلحات الغامضة التي لها جذور علمانية، ويكون لنا مصطلحاتنا البريئة من هذه العيوب؟

إن مصطلح (المواطنة) هو انتساب جغرافي، فهل يتعارض مع (الهُوِيَّة)؟

إن الناس لا بد لهم من هُوِيَّة هي نظام حياتهم وعلاقاتهم، وإذا كانت هوية الأكثرية هي الغالبة، وهي التي تدعم الاستقرار والأمن، والمخالفون في الهوية لهم حقوقهم وواجباتهم، -وخاصة في الأشياء العامة المطلوبة من كل مواطن- فإذا كان الأمر كذلك فهذا هو الشيء الطبيعي في الدول والحضارات، وهو الذي يساعد على التفاهم والتعايش.

وأما مصطلح (الديمقراطية) الذي قامت حوله المعارك الكلامية، فهو ليس مصطلحًا وحسب، بل هو نظام معين، سواء من حيث الشكل أو المضمون، وقد تدرج وتأصل في الغرب في العصر الحديث، وله آلياته وثقافته، ويعني حكم الأكثرية من خلال الانتخابات -ولو كانت أكثرية ضئيلة- وقد تقدم الغرب سياسيًّا بسبب هذا النظام رغم عيوبه ونقائصه التي يتكلم عنها كتّاب الغرب أنفسهم، فهل نقول: إنه هو نظام الشورى الموجود عند المسلمين، أي نحرّف الكلمات!.

لا شك في أن هناك خلافا أساسيًّا بين الديمقراطية والشورى، وليس هنا مجال التفصيل في هذا الموضوع، فهذا له بحث طويل عريض؛ إذ النظام الإسلامي يختلف تمامًا عن كل الأوضاع البشرية الأخرى، فلا هو ديمقراطي ولا ثيوقراطي ولا أوليرشي (حكم الأقلية) ولا منوقراطي (قانوني حرفي)، فهل من المعقول أن ننقل نظامًا نشأ في الغرب وتطور ضمن بيئة وثقافة معينة وأصبح ثقافة لعامة الشعب، إلى بيئة وثقافة أخرى في دين أبنائها أساسيات مختلفة للحكم والسياسة؟ هل ننقل مثل هذا النظام بعجره وبجره، بلا مراعاة للظروف وأسلوب الحياة؟

إن ما أقوله هنا لا يعني أبدًا القبولَ بالنظم الاستبدادية، كما لا يعني الانغلاق عن قبول أي شيء مفيد، ومن أي جهة كان.. ولكن يجب أن نعلم أن أسوأ السرقات هي سرقة الهوية، والقبول بسذاجة تعريف الآخرين لما يجب أن نسير عليه.

مصطلحات إسلامية خاصة:

وفي مقابل ما سبق ذكره؛ فإن هناك مصطلحاتٍ إسلاميةً ذات دلالة خاصَّةٍ ليس لها مرادف في اللغات الأجنبية، ولا يمكن أن تترجم حرفيًا، وإلا فسيضيع معناها ومغزاها.

إن من المصطلحات الإسلامية الخاصة (العبودية) أو (عبدًا لله) فهل يمكن ترجمة هذا التعبير بكلمة (slave) الإنجليزية، والتي تعني العبد المملوك، أم هل يمكن ترجمتها بـ (servant of Gad) التي تعني الخادم لله؟ والحقيقة أن كلا التعبيرين لا يمكن استخدامهما بمعنى العبودية في المصطلح القرآني، والتي تعني الخضوع لله مع المحبة، ولذلك وُصف أشرف الخلق في القرآن الكريم بصفة العبودية، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [سورة الإسراء: آية 1].

ومثل العبودية مصطلح (الهجرة) في الشرع، فهل يمكن ترجمته إلى الإنجليزية بكلمة (Immigration)، التي تعني الانتقال من مكان إلى آخر؟ لا شك في أن ذلك ليس ممكنًا في ظل دلالة الكلمة الإنجليزية على الانتقال الطبيعي من مكان لآخر، والذي يختلف تمام الاختلاف عن مصطلح الهجرة الشرعي؛ الذي يعني الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو من بلد لا يسمح للمسلم بإقامة شعائر دينه إلى بلد يسمح له بذلك.

وقل مثل ذلك في مصطلح (الجهاد)، فليس هو كما يترجم في الإنجليزية بتعبير (Holy war) الذي يعني الحرب المقدسة، فالجهاد في الإسلام يجب أن يكون في سبيل الله، وهو مصطلح شرعي له مفهومه الخاص وآدابه وشروطه، وعندما يترجم بـ (الحرب المقدسة) يفقد معناه وروحه، كما هو الحال في ترجمة الهجرة أو العبودية، فإنه إِن لم يترجم المصطلح حسب ما عُرف في لغته الأصلية وما تأسس له من معنى كمصطلح قرآني في منهجية الإسلام العقائدية؛ فإنه سيفقد ما وضع له ويُعطي صورة مشوهة أو غير دقيقة للغير.

وقاعدة العلاج للخلل الغربي في نقل المصطلحات من لغة إلى أخرى (هي أن يُدرَس المصطلح الغربي الذي يشير إلى ظاهرة ما من خلال سياقه الأصلي دراسة جيدة، نعرف مدلولاته معرفة جيدة، ونحاول توليد مصطلح من داخل المعجم العربي بحيث لا يكون ترجمة حرفية، وإنما تسمية للظاهرة من وجهة نظرنا، وقد أدمنّا عملية نقل المصطلحات بلا إعمال فكر أو اجتهاد، ومن غير إدراك للمفاهيم المتحيزة الكامنة)([10]).

وأخيرا علينا أن نعلم أن تقريب مصطلحاتنا إلى المفاهيم الغربية يعقّد مشكلة النهضة والإصلاح التي نسعى إليها، ويوقعنا في حالة الاستتباع والانبهار، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (مَا جَهِلَ النَّاسُ وَلا اخْتَلَفُوا، إِلَّا لِتَرْكِهِم لِسَانَ العَرَبِ، وَمِيلِهِمْ إلى لِسَانِ أَرْسطَاطَالِيْسَ)([11]).

المصدر: العدد الثالث من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

([1]) البشير الابراهيمي: الآثار الكاملة (3/18).

([2]) ثقافتنا في مواجهة العصر (192).

([3]) التحرير والتنوير (10/161).

([4]) المصدر السابق، تفسير سورة الزخرف.

([5]) الحديث رواه ابن ماجه في سننه، باب الحلم، رقم (4178) بترقيم الأرناؤوط، وله رواية قريبة عند أبي داود، وجزؤه الأول مروي في صحيح مسلم وغيره.

([6]) أريك فروم: حب الحياة، نصوص مختارة (81).

([7]) في حياتنا العقلية (132).

([8]) كمن يظن أن تقدم الغرب في العلوم المادية يجعله الحَكم في العلوم التي تحل مشاكل الإنسان.

([9]) ماركوس تيلوس شيشرون فيلسوف وخطيب وسياسي روماني ولد (106 ق.م) وتوفي (43 ق.م).

([10]) عبد الوهاب المسيري: حوارات (1/350).

([11]) سير أعلام النبلاء، طبعة مؤسسة الرسالة (19/57).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين