لن تبلُغوا الكعبة

قالوا: قصدنا الكعبة حاجِّين.

قلت: وهل أخذتم أهبتكم للحج سالكي أسبابه؟ قالوا: نعم. قلت: ما الأهبة التي أخذتموها؟ وما الأسباب التي سلكتموها؟ 

قالوا: انضممنا إلى حملة من حملات الحج حصلت لنا على التأشيرة، وحجزت لنا الرحلات الجوية، وغرفا في فنادق عالية قرب البيت العتيق، ومخيمات في منى وعرفات والمشعر الحرام.

قلت: أو ليس الذين يهجرون بيوتهم للسياحة أو للتجارة أو لأيِّ غرض مادي يأخذون الأهبة التي أخذتموها ويتوسلون بالأسباب التي توسلتم بها؟ أو ليس سفرهم يعتمد على الحصول على التأشيرة واشتراء التذاكر وحجز مقاعد الطائرات والغرف والمخيمات؟ 

قالوا: بلى.

قلت: فلا فرق بينكم وبين السائحين والتاجرين.

قالوا: ألا يميِّزنا عنهم الاتجاه الذي اتجهناه؟ فقد يمَّمْنا شطر أم القرى بيت الله الحرام مخالفي المتبعين لأهوائهم غير مصادقيهم ولا موافقيهم وفاقا. 

قلت: لا، فقد وليتم وجوهكم شطر بقعة من البقاع، وهم يولون وجوههم شطر غيرها من البقاع والديار.

قالوا: أو ليس الحجُّ الإحرامَ والتلبية والطواف والسعي والمبيت بمنى، والوقوف بعرفات والمشعر الحرام ورمي الجمار، والذبح والحلق؟ 

قلت: لا.

قالوا: ألا نراك طاعنا في المذاهب بأسرها، ومنسلخا من آراء الفقهاء كلهم؟ فهذه هي أعمال الحج مذكورة في الكتب المعتمدة في المناسك.

قلت: قد ضل من قال ذلك وركب شططا.

قالوا: فهل شرعت دينا جديدا؟ أم جعلت إنكار المعروف ومخالفة المألوف سنة لك وعادة؟ فما رأيك في الصلاة والزكاة والصيام؟ أليست الصلاة التحريمة والقيام والقراءة والركوع والسجود والقعود والتسليمة مع إتمام شرائطها من الطهارة وأخذ الزينة والاتجاه إلى الكعبة؟ أوليست الزكاة إخراج قدر معلوم من المال إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول؟ أو ليس الصيام الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهارا مع النية؟

قلت: لا.

قالوا: استبشعنا قولك بل أنكرناه إنكارا شديدا، ولن نستغرب إذا رماك المُفتون بالكفر والفسق وقذفك المقلدون بالإحداث في الدين، والآن أدركنا سر معاداة الناس إياك وبغضهم لك.

قلت: لقد تسرعتم في أمري مسيئي القول في وظانين بي الظنون، سواء علي أوافقتموني أم وافقتم من عاداني ما دمتم قد فهمتم رأيي ووعيتم عني ما أقول.

قالوا: فاشرح لنا قولك غير تارك لنا غموضا أو التباسًا.

قلت: صفوا لي البقرة التي تحلبونها، والمرأة التي تنكحونها؟ 

قالوا: أتتخذنا هزؤا؟

قلت: معاذ الله أن أكون من الجاهلين، ولكن أجيبوا عن سؤالي إن كنتم على معرفة قولي حريصين. 

قالوا: البقرة رأس ووجه وأرجل وظهر وبطن، والمرأة جمال وحسن ورشاقة. قلت: فإذا نحتُّ بقرة من الحجر أو الحديد لها رأس ووجه وأرجل وظهر وبطن، فهل تحلبونها؟ قالوا: لا، قلت: وكذلك إذا خلقتُ امرأة من الحجر بيضاء لها وجه جميل وخَلْق حسن وجسم رشيق فهل ترغبون في نكاحها؟ قالوا: لا.

قلت: فليست البقرة بالبقرة، وليست المرأة ما وصفتم، إن البقرة ذات حياة وحركة قبل أن تكون ذات رأس ووجه وظهر وبطن، والمرأة قلب وعقل وروح وحركة وإرادة قبل أن تكون ذات جمال ظاهر وحسن فاتن.

قالوا: فهمنا ما قلت، ولكن أين ذلك مما نحن بصدده من معاني الصلاة والزكاة والصيام والحج؟

قلت: إن الصلاة والزكاة والصيام والحج دعائم الإسلام وأركانه، والإسلام يَتْبع الإيمان، فإذا تحقَّق الإيمان ونتجت منه الأعمال الصالحة كانت تلك الأعمال أعمالا تعتبر ويقام لها وزن ويحتسب لها احتساب.

قالوا: أو لسنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو ليست شهادتنا إيمانا؟

قلت: لا، ليست الشهادة إيمانا وإنما هي دعامة من دعائم الإسلام كالصلاة وأخواتها، أو لا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها حديث أمور الإسلام، وحينما أجاب جبريل عليه السلام على سؤاله عن الإسلام؟

قالوا: فأخبرنا عن الإيمان والإسلام والفرق بينهما،

قلت: يحتاج إلى مقال آخر سأكتبه قريبا إن شاء الله تعالى.

قالوا: لخِّصه لنا هنا حتى يتبين لنا وجه نفيك الحج وسائر الأعمال عنا. 

قلت: اعلموا أن الإيمان نظر بالعقل وتفكير في الكون وخالقه وربه، ومعرفة أن الكون كله معتمد على علم الله وقدرته ورحمته وحكمته وعدله في وجوده وبقائه، ثم التوجه إليه حنيفا، ثم الإسلام له بالقلب، ثم تقوية هذا الإسلام بعبادته وإطاعته والخضوع لأوامره، فإذا حصل الحج وسائر الأعمال ولم يسبقها إيمان بالعقل وإسلام بالقلب، فلا تعدو أن تكون عادات محضة وتقاليد بحتة وطقوسا ميتة لا تقرِّب إلى الله تعالى أحدا، يتشارك فيها المسلمون (الناشئون على الإسلام بدون دين) والمنافقون.

قالوا: قد بان لنا وجه قولك، ولعلنا نزداد علما إذا أتينا على مقالك عن الإيمان والإسلام، وإنا إليه لمتطلعون في شوق كبير ولهف زائد. قالوا: فأوصنا بما ينفعنا في توجهنا هذا للحج.

قلت: اعتنوا بالإيمان راسخيه في عقولكم، وإلا فإن الطريق الذي تسلكونه يؤديكم إلى باريس ولندن وواشنطن وغيرها من ديار الجنف والإثم والعدوان، ولن تبلغوا الكعبة التي أُسِّست على الحنيفية والبرِّ والتقوى، أو لا تسمعون الكعبة تأبى على أقوام تلبياتهم وتتبرأ من طوافهم ومناسكهم ولا تعدُّها إلا طقوسا ورسوما؟ واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..."، وقوله: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .... ".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين