الإسلام في أفريقيا (36)

مدخل إلى عهد الدولة العبيدية ونشأتها

لابد لنا قبل الحديث عن الفقهاء في المغرب وإفريقية أيام الدولة العبيدية، وما لاقوه على يد ملوكها وحكامها وقضاتها من مظالم، وما تعرضوا له من محن، وصلت في بعضها حد القتل والصلب وتقطيع الأوصال والتشهير، ولم تلن لهؤلاء الفقهاء قناة في مجابهة هذه الدولة الغاشمة التي شقت عصا المسلمين، والتصدي لدعوتها الباطلة التي استطالت على القرآن والسنة، وحرَّفت تعاليم الإسلام وأبطلت أركانها، وطعنت بالصحابة الكرام، وفي مقدمتهم الشيخين أبي بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم. 

أقول لابد لنا من الحديث عن بذور هذه الدعوة وأصل دعاتها، والأرض التي نمت فيها، وعوامل هذا النماء الذي روى شجرتها حتى اشتد جذعها ونمت أغصانها، لتصبح دولة قوية بسطت نفوذها - فيما بعد - على بلاد واسعة من بلاد المسلمين، لتغير اسمها من (الدولة العبيدية) في المغرب إلى (الدولة الفاطمية) بعد تمكنّها من دخول مصر.

عوامل نماء هذه الدعوة

لقد كانت أرض العراق وفارس أرضاً خصبة لقيام الدعوات الباطلة المنحرفة، ذلك لأن هذه البلاد كانت مرتع الديانات المجوسية قبل الإسلام، وكان كثير ممن دخل الإسلام من المجوس دخلوه تقية، إما خوفاً أو إحجاماً عن دفع الجزية. وتوالد هؤلاء مع السنين وعاشوا بين أظهر المسلمين والعرب، يتكلمون لغتهم ويدينون بدينهم، ويخططون بالخفاء لتدمير هذا الدين الذي سلب - باعتقاد هؤلاء - العز والجاه والأرض والمال والملك، واستغل هؤلاء ما تعرض له آل بيت رسول الله صلى الله عيه سلم من ذرية علي بن أبي طالب رضي الله عنهم من ضيم على يد الأمويين، ومن ثم على يد العباسيين أبناء عمومتهم. ومن هنا بدأت تنشط الدعوات لآل البيت على أنهم الأحق بالخلافة وإمامة المسلمين. ومن جملة هذه الدعوات (الدعوة العبيدية).

لقد لجأ العبيديون إلى نشر دعوتهم في الخفاء، وفي بلاد بعيدة عن مركز الدولة العباسية في بغداد، ليدرؤوا عن أنفسهم الفضيحة والانكشاف الذي سيؤدي بهم إلى حتفهم كما حصل لغيرهم من الدعاة، وخاصة وأن العباسيين قد قامت دولتهم على دعوة سرية ولهم تجربة غنية في هذا المضمار، فاتخذ العبيديون مدينة (سلمية) في سورية الآن، وهي من أعمال مدينة (حماة) ببلاد الشام (سورية حالياً) مكاناً لتجمع أتباعهم وشيعتهم لنشر هذه الدعوة بعيداً عن عيون العباسيين.

ومن المفيد أن نتتبع ما قاله المؤرخون في هذه الدعوة ودعاتها. حيث يقول الأمير عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم الصنهاجي في كتابه (الجمع والبيان في أخبار القيروان ومن كان فيها من سائر المغرب من الملوك والأعيان):

يقول ابن شداد:

أول من أظهر (الزندقة) في الإسلام أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان، صاحب كتاب (الميدان) في نصرة الزندقة، وأبو سعيد من أهل (رامهرمز) من كورة (الأهواز). وكان من (خرمية المجوس) فألقى هؤلاء إلى من اختصوا به أن لكل شيء من العبادات باطناً، وأن الله ما أوجب على أوليائه ومن عرف من الأئمة والأبواب صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجاً، ولا حرَّم عليهم شيئاً من المحرمات، وأباح لهم نكاح الأمهات والأخوات. 

وقال: إنما هذه العبادات عذاب على الأمة وأهل الظاهر، وهي ساقطة عن الخاصة، وإن آدم وجميع الأنبياء كذّابون محتالون طلاب رئاسة. ولما كان في أيام بني العباس اشتدت شوكتهم مع أبي الخطاب وأصحابه لانتحالهم التشيع لبني هاشم، وحماهم بنو العباس. فلما قامت البيّنة عليهم في الكوفة، وأن أبا الخطاب أسقط العبادات وحلل المحرمات، أخذه عيسى بن موسى الهاشمي مع سبعين من أصحابه فضرب أعناقهم.

وتفرق باقيهم في البلاد فصار منهم جماعة في نواحي خراسان والهند، وصار أبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان إلى بيت المقدس مع جماعة من أصحابه وأخذوا في تعليم الشعوذة والنارنجات ومعرفة الزرق (أعمال السحر والطلاسم) وصفة النجوم والكيمياء، وإظهار الزهد والورع. ونشأ لأبي شاكر ميمون ابن يقال له عبد الله القداح.

وقد وصف المؤرخ المقريزي في خططه (عبد الله القداح) فقال: إنه كان عالماً بجميع الشرائع والسنن والمذاهب، وأنه اعتنق مذهب الشيعة، لا للدعوة إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق أو ابنه محمد، بل كان ذلك لحيلة اتخذها ليجمع حوله أنصاراً، بمعنى أنه اتخذ هذه الدعوة وسيلة لتنفيذ أغراضه، وهي تكوين دولة فارسية. 

ويعتبر عبد الله المؤسس الحقيقي لذلك (المذهب الإسماعيلي) الذي انتشر بين (القرامطة) وغيرهم فيما بعد.

أما النويري في كتابه (نهاية الأرب في فنون الأدب) فيقول عن عبد الله القداح: أنه كان من كبار الشعوبية رجل يسمى محمد بن الحسن بن جهار نجار، الملقب دندان، وهو بنواحي الكرج وأصبهان، له حال واسعة وضياع عظيمة، وهو المتولي على تلك المواضع. 

وكان يبغض العرب ويذمهم، ويجمع معايبهم. وكان كل من طمع في نواله تقرب إليه بذم العرب، فسمع به عبد الله بن ميمون القداح، وما ينتحله من بغض العرب وصنعة النجوم، فسار إليه. وكان عبد الله يتعاطى الطب وعلاج العين، ويقدح الماء النازل فيها، ويظهر أنه إنما يفعل ذلك حسبة (زلفى إلى الله) وتقرباً إلى الله عز وجل بنواحي أصفهان الجبل. فأحضره دندان، وفاتحه الحديث فوجده كما يحب ويهوى، وأظهر له عبد الله من مساوئ العرب والطعن عليهم أكثر مما عنده، فاشتد إعجابه به وقال له: مثلك لا ينبغي أن يطبب، وإن قدر يرتفع ويجل عن ذلك، فقال: إنما جعلت ذلك ذريعة لما وراءه، ألقيه إلى الناس وإلى من أسكن إليه على مهل ورفق من الطعن على الإسلام. وأنا أشير عليك ألا تظهر ما في نفسك إلى العرب ومن يتعصب لهذا الدين، فإن هذا الدين قد غلب على الأديان كلها، فما يطيقه الروم ولا الترك ولا الفرس والهند مع بأسهم ونجدتهم. وقد علمت شدة (بابك) صاحب الخرمية وكثرة عساكره وأنه نفسك، والزم التشيع والبكاء لآل البيت، فإنك تجد من يساعدك من المسلمين، ويقول هذا هو الإسلام. وسب أبي بكر وعمر، وأقع عليهما عداوة الرسول وتغيير القرآن وتبديل الأحكام، فإنك إذا سببتها سبت صاحبهما، فإذا استوى لك الطعن عليهما، فقد اشتفيت من محمد، ثم تعمل بعد ذلك في استئصال دينه. ومن خرج على ذلك فقد خرج من الإسلام من حيث لا يشعر، ويتم لك الأمر كما تريد. فقال دندان: هذا هو الرأي، ثم قال له عبد الله: إن لي أصحاباً وأتباعاً أبثهم في البلاد، فيظهرون التقشف والتصوف والتشيع. ويدعون إلى ما نريده من إحكام الأمر. فاستصوب دندان ذلك وسر به، وبعث لعبد الله القداح ألفي ألف دينار (مليوني دينار)، فقبل المال وفرقه في كور الأهواز وسواد الكوفة، و(بطالقان) خراسان، وسلمية من أرض حماة. ثم مات دندان، فخرج عبد الله إلى البصرة وسواد العراق، وبث الدعاة، وتقوّى بالمال، وتدبر الحال.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين