رحلة الحج (27)

يوم الثلاثاء 17 من ذي الحجة سنة 1439هـ

مع الأخ تركي الفضلي:

اقترح الأخ تركي الفضلي تكرمًا منه أن أزور بعض آثار مكة المكرمة، ووافاني إلى الفندق حوالي الساعة التاسعة صباحا، وقد استلم لي كتبا من مكتب زاجل أرسلها إليّ أخونا الفاضل المؤرخ الشيخ محمد الرشيد، فحملها إليّ في سيارته، شكر الله سعيه وجزاه خيرا، وهي: (الإعلام بتصحيح كتاب الأعلام للعلامة خير الدين الزركلي) تأليف محمد بن عبد الله آل رشيد، قدم له الدكتور عبد الهادي التازي والدكتور يوسف القرضاوي، طباعة دار الفتح، عمَّان سنة 1435هـ، و(ألقاب الأسر كتاب فيه فوائد من الأنساب وشوارد من أسباب الألقاب) تأليف بن عبد الله آل رشيد، دار الفتح، عمَّان سنة 1435هـ، و(معجم النسابين من القرن الأول الهجري إلى العصر الحاضر) تأليف محمد بن عبد الله آل رشيد، دار الفتح، عمان سنى 1438هـ، و(تذكرة الرشيد في نوادر الحكم والآداب) جمع وانتقاء محمد بن عبد الله آل رشيد، دار الفتح، عمَّان سنة 1436هــ، و(الإشادة والتعريف بمن برَّ أباه بالتأليف) بقلم محمد بن عبد الله آل رشيد، دار الفتح، عمَّان، 1438هـ، و(كفاية الطالب لمناقب علي بن أبي طالب) للعلامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي (ت 1363هـ)، قدَّم له محمد بن عبد الله آل رشيد، دار الفتح، عمَّان، 1435هـ.

وخرجت مع بناتي في سيارته، وزرنا بعض البقاع التي قرأنا عنها خلال دراستنا لتاريخ الجزيرة العربية أو تاريخ الأدب العربي، وأغبِطْ بالمرء أن بتتبع آثارا تقع من قلبه موقع الحبيب الأثير، ولا تسألني عن مدى عشقي للعرب وحضارتها وثقافتها وعلومها وفنونها وآدابها بل سائر ما يمت بها بصلة:

سوق ذي المجاز:

وقفت في تاريخ الأدب العربي، وأنا طالب في دار العلوم لندوة العلماء، على أسواق العرب الثلاثة الشهيرة في جاهليتها: عكاظ ومجنة وذي المجاز، فطربت جذلا لرؤية الأخيرة منها، تقع ذو المجاز في شرق مكة المكرمة ويبعد عنها مسافة 21 كم، على يمين القادم من عرفة من جهة المغمس، وهو عباره عن شعب يسيل من جبل كبكب غربا فيدفع في وادي عرنة في الطرف الشرقي من المغمس، كانت العرب ترحل إليها بعد فراغها من سوق مجنّة لقربها من جبل عرفات حيث يقيمون فيها حتى يبدأ موسم الحج، توجد في هذا الموقع التاريخي أطلال مبان متهدمة وآبار، بعضها مدفونة، ومن المؤمل أنه إذا ما أجريت فيه حفريات أثرية منظمة مستقبلا أن يعثر فيه على بقايا أثرية متنوعة، مثل: الفخار، والخزف، والزجاج، والعملات المعدنية، والادوات والاواني الحجرية، علاوة على الابار، وعظام الابل التي كانت تنحر فيه، مما سيسلط الضوء على النشاطات التي كانت تعتلج فيه.

وسمي ذا المجاز لأن إجازة الحاج كانت منه، وهي من ديار هذيل، وكثر ورود ذي المجاز في أشعار العرب، لا سيما شعر الهذليين، قال أبو ذؤيب الهذلي:

وراح بها من ذي المجاز عشية=يبادر أولى السابقات إلى الحبل

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إليها في المواسم ليعرض الإسلام على القبائل العربية عند اجتماعها بها من أول ذي الحجة إلى اليوم الثامن منه، وجاء في كتاب الجامع لأحكام القرآن للامام القرطبي في تفسير قوله تعالى: "تبت يدا أبي لهب"، قال طارق بن عبد الله المحاربيّ: إني بسوق ذي المجَاز، إذ أنا بإنسان يقول: يا أيها الناس، قولُوا :لا إل?ه إلاّ الله تُفْلِحُوا، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: مَنْ هذا؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب، وجاء في المستدرك على الصحيحين للإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن ابن حمدان الجلاب بهمدان، ثنا أبو حاتم الرازي، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا ابن أبي الزناد أخبرني أبي، حدثني ربيعة بن عباد الدؤلي الكناني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية بسوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قال: يرددها مرارا والناس مجتمعون عليه يتبعونه، وإذا وراءه رجل أحول ذو غديرتين، وضيء الوجه، يقول: إنه صابئ كاذب، فسألت: من هذا؟ فقالوا: عمه أبو لهب."

درنا حول الوادي، ووقفنا فيه قليلا نستعرض موقعه والجبال حوله، ونتصور خيام العرب فيه ومبايعاتها، ومفاخراتها، ومساجلاتها الشعرية، ما أروع الماضي وما أشد ذكرياته استهواء للنفوس! وذكر لي الأخ تركي أنه قلما يعرف الناس موقع ذي المجاز، وأن له عهدا به لقربه من موطن قبيلته، وحدثني عن زيارة الشيخ عبد الله التوم له قريبا.

جبل كبكب:

ومررنا بجبل كبكب، وهو خلف عرفات على يمين المتجه من وادي نعمان إلى مكة، وهو أيضًا لهذيل، قال الزمخشري: كبكب جبل لهذيل مشرف على موقف عرفة. ذكره امرؤ القيس وغيره من الشعراء الجاهليين، قال الأصمعي: ولهذيل جبل يقال له: كبكب، وهو مشرف على موقف عرفة، قال ساعدة بن جؤية الهذلي:

فاستدبروهم فهاروهم كأنهم=أفناد كبكب ذات الشث والخزم

وقال:امرؤ القيس:

فريقان: منهم جازع بطن نخلة=وآخر منهم قاطع نجد كبكب

وادي المغمس:

ودخلنا وادي المغمس، وهو أحد أودية مكة المكرمة، يطلق عليه في الوقت الحاضر اسم الوادي الأخضر، يحاذي مشعر عرفة من شمالها الشرقي، اشتهر في واقعة الفيل عندما قدم أبرهة الأشرم الحبشي سنة 571م على أرس جيش كبير لهدم الكعبة المشرفة ونزل فيه، وورد اسم المغمس في حديث مرفوع عن نافع بن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب لحاجته إلى المغمس، قال نافع: المغمس على ميلين أو ثلاثة من مكة.

وادي نعمان:

وادي نعمان من أكبر الأودية، يقع شمالي شرقي مكة المكرمة في جهة الطائف، تغنّى الشّعراء بجمال وادي نعمان، لما به من الهواء العليل وأشجار السّدر، والسّلم، والسّمر، والأراك، وهو من مساكن هذيل، وللوادي تاريخ طويل منذ العصر الجاهلي، تغنى الشعراء به كثيرًا، فقد قال أبو حية النميري متغزلا:

تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت=به زينب في نسوة عطرات

وقال أبو العميثل في نعمان الأراك :

أما والراقصات بذات عرق=ومن صلّى بنعمان الأراك

لقد أضمرت حبّك في فؤادي=وما أضمرت حبّاً من سواك

وقال الفرزدق :

دعون بقضبان الأراك التي جنى=لها الركب من نعمان أيام عرفوا.

دخلنا في بطن نعمان، وفيه مساكن أهل أخينا تركي، فشاهدنا بيت والده، ومررنا قريبا من بيوت أجداده وأعمامه، وأهل زوجته، وذكر أنه يزور كل خميس القرية فيقضي ساعات مع والده، وتزور زوجته والدتها، وأخبرني بزيارة أخينا الكريم الشيخ عبد الله التوم لوادي نعمان فتمتع بمناخه وصباه.

عين زبيدة:

عين زبيدة هي عين عذبة الماء غزيرة، أمرت بإجرائها أمة العزيز بنت جعفر بن المنصور، زوجة هارون الرشيد وغلب عليها لقبها زبيدة، سقت بها أهل مكة الماء وبعد أن كانت الراوية عندهم بدينار، وأسالت الماء عشرة أميال بحط الجبال وتحت الصخر حتى غلفته من الحل إلى الحرم ومهدت الطريق لمائها في كل خفض ورفع وسهل وجبل ووعر، وعرفت هذه العين بعين الشماس، وكان جملة ما أنفق عليها مما ذكر وأحصى ألف ألف وسبع مائة ألف دينار. 

وقال ابن جبير بعد أن ذكر المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة: إن كل ذلك من آثار زبيدة، فانتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها الرضا عنها.

كنت قد اطلعت على بعض مجاريها قرب جبل الرحمة في عرفات سنة ست وأربعمائة وألف خلال رحلة لعمرة، وعاينت هذه المرة مع الأخ تركي بعض مجاريها بوادي نعمان، والتي قد رمم بناؤها، ووضعت على أفواهها أغطية ترقبا لخطر وحذرا.

سماع بناتي:

وسمعت بناتي من الأخ تركي الحديث المسلسل بالأولية، وأجازهن وأزواجهن وأولادهن، وللأخ تركي عناية بالسماعات والإجازات، وقد جمع صاحبه الشيخ ماجد الحكمي عيون مروياته، ويقدّر أن عدد شيوخه يبلغ قرابة أربعمائة شيخ، وبهذا يصحح ما مضى قريبا من عدد شيوخه أنهم مائة أو أكثر، وعلق عليه أخونا أحمد عاشور: لعل الاستدعاءات المتداولة الآن يُحَصِّل بها أبناءُ الشيخ تركي قريبا من هذا العدد"، ثم قال: "والحمد لله أن رزقكما (ضمير الخطاب للشيخ ماجد الحكمي والشيخ تركي) وبقية مشايخنا حب العلم نفسه والحديث خاصة، فهذا هو الشرف والنعمة حقا، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين