الإسلام في أفريقيا (35)

الصراعات داخل البيت الأغلبي جعلت الدولة العبيدية 

تتمكن من القضاء على الدولة الأغلبية 

كان قدر دولة الأغالبة التسارع نحو الهاوية، بفعل أيديهم وما ارتكبوه من شناعات بحق أنفسهم. فقد بلغ أبا العباس أن ابنه زيادة الله يريد الانتفاضة عليه والاستيلاء على الملك. فبعث إليه يستحثه في القدوم من صقلية. فقدم لعشرين بقين من جمادى الآخرة سنة (290هـ/902م). فأمر باعتقاله، وقبض على رجال بطانته وأمر بسجنهم. 

ولم يطل الأمر بأبي العباس فقد عاجله اثنان من فتيانه فقتلاه وحملا رأسه إلى ابنه المسجون زيادة الله، ظنا منهما أنهما يصطنعان بقتله يداً عند أبنه زيادة الله . وقيل في بعض المصادر أن زيادة الله هو الذي دبر عملية اغتيال والده. 

وعندما تأكد لزيادة الله مقتل أبيه كسر قيوده وأحضر رجال بطانته بعد أن فك اعتقالهم وأخرجهم من السجن، فأشاروا عليه أن يرسل في طلب أعمامه على لسان أبيه مع وجوه من رجال الدولة والقواد. فأرسل فيهم ودفع إليهم الصلات وأخذ عليهم البيعة.

وجلس القاتل على العرش الملطخ بدماء أبيه، وبدأ سيرته بحجز عمومته وتكبيلهم ووضعهم في مركب حربي وأمر بنقلهم إلى (جزيرة الكراس)، وهي على اثني عشر ميلا من تونس، وهناك ضربت أعناقهم ليلة السبت لثلاث خلون من رمضان.

ولما صفا الجو لزيادة الله دعا بالفتيين قاتلي أبيه فأمر بصلبهما، فصلب أحدهما على باب الجزيرة والآخر على باب القيروان من أبواب تونس، ليتخلص بذلك من تبعة جريمتهما في نظر الشعب. ثم التفت إلى عمه أبي الأغلب الزاهد المعتكف في سوسة فقتله. وقتل أخاه أبا عبد الله الأحول، وقتل وزيره ابن القياد. ثم قلد شركاءه في جريمة قتل أبيه أبو عبد الله بن الصائغ الوزارة وولاية البريد، ومنصور بن إسماعيل ديوان الخراج، وجماس بن حبشي ولاية الجيوش. وأمر بتأسيس مدينة (وهران) على يد عامله محمد بن أبي عون بن عبدوس وسيّر إلى العراق الحسن بن حاتم رسولا إلى أمير المؤمنين محملاً بالهدايا الثمينة والكثيرة وكان من جملتها عشرة آلاف مثقال من الذهب ليقره على ولاية إفريقية.

وجمع زيادة الله الثالث علماء إفريقية وفقهاءها وذوي الرأي والمكانة فيها في مدينة تونس للنظر في الدعوة العبيدية والأخطار التي تمثلها هذه الدعوة بالنسبة للمسلمين. فاجتمعوا في يوم مشهود برئاسة كبير وزراء زيادة الله عبد الله بن الصائغ. فكان هذا الاجتماع أول مؤتمر إسلامي انعقد في إفريقية للنظر في أمر الدعوة العبيدية والبت في مصير البلاد التي تهددها. فافتتح ابن الصائغ هذا المؤتمر بخطاب قال فيه: يقول لكم الأمير إن هذا الصنعاني - يقصد أبو عبد الله الشيعي - الخارج علينا مع كتامة يزعم أن أصحاب النبي ارتدوا بعده ويسمي شيعته المؤمنين ومخالفيه الكافرين ويبيح دماءهم.

وتناقش المؤتمرون وتداولوا هذا الخطب المحدق بهم، فأقروا بوجوب إعلان كفر الصنعاني ووجوب لعنه والبراءة منه ومما يدعو إليه. وأفتوا بحربه وتحريض المسلمين على قتاله لمنع فتنته وزيفه.

ولكن لأمر يريده الله كانت الدعوة العبيدية في صعود، ودولة بني الأغلب في هبوط. فبعد أن قتل زيادة الله الثالث أخاه عبد الله الأحول، وكان قائداً قادراً على قيادة المعارك، انفتحت حدود دولة الأغالبة أمام أبي عبد الله الشيعي، فاجتاح الجانب الغربي كله من إقليم الزاب، وكلما أرسل له الأغالبة جيشا انتصر عليه، ثم أخذت جيوش أبي عبد الله تدخل إقليم إفريقية نفسه وتستولي على مدنه، وعندما سقطت (الأربس) يئس زيادة الله من استطاعته الصمود في وجه العبيديين. 

وعندما شعر أبو عبد الله الشيعي بأنه قد أصبح من القوة بمكانة بدأ في اجتياح بلاد الأغالبة، فاستولى على الزاب والأربس - كما قلنا - في جمادى الآخرة من سنة (296هـ/908م)، وأسقط بيد زيادة الله الثالث فقرر الفرار والخروج من إفريقية، فاصطحب معه ألفاً من أقرب الناس إليه من أهل بيته وجواريه وخدمه ورحل إلى مصر تاركاً دولته غنيمة سهلة لأبي عبد الله الشيعي، فدخل هذا القيروان واستولى على رقادة والقصر القديم.

وهكذا أسدل الستار على دولة الأغالبة بعد حكم دام ما يقرب من مئة واثنتي عشرة سنة. 

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين