رحلة الحج (24)

يوم السبت 14 من ذي الحجة سنة 1439هـ

زيارة جدة:

شيخنا محمد بن ناصر العجمي من أنصح شيوخي وإخواني لي، مبتغيا لي الخير، ولافتا إياي إلى ما ينفعني، والله يكلؤه ويحميه، فإن له مكارم من يخوَّل بعضها عُدَّ من الكرام، وقد عرَّفني قبل سنة بسعادة الشيخ عمر سالم صاحب دار المنهاج، وحثني في رحلتي هذه على أن أزوره في جدة، وممن عزمت على لقائه بها أخونا الحبيب الشيخ سلمان أبو غدة، وصديقنا الحميم الدكتور محمد أبو بكر باذيب، فخرجت في الصباح مع بناتي، وأخَّرَنا تنسيقُ السيارة تأخيرا، ووصلنا إلى منزل الشيخ عمر في الساعة الواحدة والنصف تقريبا.

دار المنهاج:

تأسست دار المنهاج للنشر والتوزيع بمدينة جدة سنة 1415هـ كمركز هادف يعتمد المسار الوسطي المعتدل، وكدار تنشر كل ما هو ملتحم بالمصادر التشريعية في اقتفاء تام لمنهج الأسلاف، وتعتني بإخراج كنوز التراث مبرأة من وصمة التحريف والتصحيف، ومن أهم الكتب التي قامت بإصدارها: "شرح صحيح مسلم" و"شرح سنن ابن ماجه" للشيخ العلامة محمد الأمين الهرري، و"الرسالة القشيرية" في حلة مميزة علميا وفنيا مع الفهارس العامة، و"نهاية المطلب" لإمام الحرمين في 21 مجلدا، و"رياض الصالحين"، و"كتاب الأذكار" للنووي، وغيرها، والتي تقارب بمجموعها خمسمائة عنوان.

الشيخ عمر سالم:

وصاحبها هو الشيخ أبو سعيد عمر سالم سعيد باجخيف، ولد في مدينة جدة، حارة الشام، وهو رجل مثقف صالح محب للعلماء والمشايخ، وقد صحب بعضهم، وله إجازة من الشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري رحمه الله وغيره من المشايخ المسندين، سبق كثيرا من الناس بخصال من السبق منفردا بها، وسمعت منه مقتبسات من بعض الكتب، فوجدته متقنا للغة، مجيدا للنطق، ومعربا للكلمات إعرابا، وحدثني طويلا عن تجاربه في الطباعة والنشر، وعن صحبته للشيوخ، وانطباعاته عن بعض الكتب، وهو واسع المطالعة، دقيق النظر، صاحب عقل وفهم، وذو وسطية واعتدال، وما أكثر المتطرفين والمتشددين في عصرنا! وما أقل الوسطيين المعتدلين! وألفيته محترما للاختلاف وتعدد الآراء والمذاهب، وكارها للعداء والشقاق والعصبية والتفريق، فأعجبني عقله وفهمه، وهو مدرك للفرق بين الذكاء والعقل، فكم ممن يملك ذكاء قويا وهو خفيف عقل، وكم ممن أوتي عقلا كبيرا وهو ضعيف في الذكاء، وقل من يجمع بينهما في اعتدال وخلق حسن وتواضع، وقد تجلى لكل ذي عينين أن المتشددين في العالم الإسلامي مأتاهم من قبل ضآلة في العلم وتخلف في العقل، فلا بارك الله في الطائشين، ولا كلل الله سعي المتهورين بالنجاح.

وله نهم بالمخطوطات، ويحرص على زيارة الهند ليطلع على وضع المخطوطات بها، ويدرس إمكانية إعادة طباعة بعض كتب دار المنهاج بها، وأبدى عجبه من رحلة المخطوطات من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، ومن اغتراب بعض المخطوطات من مولدها إلى صقع ناء قلما يرجى حلولها بها، ثم قال: إن الحج لعب دورا هاما في تنقلاتها في سرعة تفوق الوصف والخيال، وهو بمثابة "دي ايج ايل" (الخدمات البريدية السريعة) في عصرنا الحديث. 

وهو رجل ودود، زاكي الحسب، عف اللسان، صادق الفعال، بعيد عن ملة الثقلاء كل البعد، صحبته سويعات فأنست به، وأصبحنا وكأن بين أجسادنا عهدا قديما، وبين أرواحنا تعارفا سابقا للزمان، وأعدّ لنا غداء فاخرا، فيه أنواع من الأطعمة، منها الهريسة، وذكر لي سنيتها، ووصفها بأنها بُرٌّ يخلط باللحم ثم يهرس بعصا غليظة إلى أن يندمج بعضهما في بعض متلافَّين ومتلبِّسَين، ثم قال: أخبرنا الدكتور محمد عبدالرحمن شميلة الاهدل أنه زار شيخه العلامة محمد نور سيف بمنى بعد صلاة الفجر فحضر الإفطار، وكان هريسة، ثم أنشد الشيخ نور سيف هذه الأبيات لنفسه:

تعالوا إلى من عذبت طول ليلها=بأضيق سجن في الجحيم تسعروا

وقد جلدوها الحد وهي بريئة=تعالوا إلى دفن الشهيدة تؤجروا

فما كان منهم إلا أن بادروا بدفنها في بطونهم.

وأهدى إلي "أيها الولد"، و"إلجام العوام عن علم الكلام"، و"ميزان العمل" للإمام الغزالي، و"المطلب السامي في ضبط ما أشكل في الصحيحين من الأسامي" للإمام الحافظ جمال الدين محمد بن أبي بكر بن عبد الله الأشخر الزبيدي اليمني الشافعي (945-989هـ)، تحقيق عمر الأهدل، طباعة دار المنهاج، أفرد صاحبه الكلام على رجال الصحيحين، وأودع ذلك منظومته الرائعة، التي تكاد تكون غرة في جبين هذا الفن، ضبط فيها أسماء رواة الصحيحين وكناهم وألقابهم وما يشتبه منهم بغيره بأسلوبه الرائع وقدرته الفذة في سبك وتطويع الألفاظ، من غير حشو ولا تطويل، بل بأوجز العبارات، ومحكم الكلمات"، يقول في بدايته:

وبعد: فاحفظ هذه القصيده

فإنها منظومة مفيده=في ضبط ما يُخشى من الأسامي

إشكاله فكن أخا اهتمام=تحفظها لتأمن الخطأ في

ما في الصحيحين من المختلف.

و"المناهج الأزهرية" قائمة بالكتب المعتمدة في الأزهر الشريف، طباعة الأزهر الشريف وسقيفة الصفا العلمية سنة 1439ه، يجمع عناوين طائفة كبيرة من المؤلفات في شتى العلوم الشرعية والعربية، والتي اعتمدها علماء الأزهر في جامعه المعمور ومعاهده الدينية، ومن المذكور فيه لأهل الهند: الرشيدية على الشريفية" في آداب المناظرة لعبد الرشيد الجونفوري، و"سلم العلوم" لمحب الله البهاري"، و"شرح سلم العلوم" لمحمد حسن اللكنوي، و"فواتح الرحموت على مسلم الثبوت" للملا عبد العلي بحر العلوم الفرنجي محلي، و"إظهار الحق" لرحمة الله الكيرانوي، وشعرت بابتهاج واعتزاز بأن تدرس كتب علماء الهند في الأزهر الشريف.

و"حياتي في حكاياتي" لحسن الشافعي، رئيس مجمع اللغة العربية وعضو هيئة كبار العلماء، طباعة دار الغرب الإسلامي، سنة 1436هـ، يقول في مقدمته: "حياتي في حكاياتي: نبش في الذاكرة، ورقم على الورق، أريق فيه الحبر، الممزوج بالهم والأسى، والذات والأنا، والألم والأمل، رسالة من جيل ينزل على السفح إلى جيل يشرع في الصعود، وحوارا بين قرنين، العشرين والحادي والعشرين". وفيه فصل عن شيخنا الإمام أبي الحسن الندوي رحمه الله يقول فيه: "قرأنا له، وعرفناه من خلال كتابه الشهير "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، إنه عالم فقيه مصلح وداعية، لكنه يؤثر الدعوة بمسلكه وهديه العملي، على الدعوة القولية والبيان اللساني، مع سهمه الوفير من هذا الأخير". وختمه بقوله: "وكان الشيخ يوم رأيته لأول مرة خارجا من ميضأة هذا المسجد، يقطر وجهه ماء، فرفع قميصه الطويل الذيل على سروال هندي، ومسح وجهه، وقلت لنفسي: هذا رجل ملأ اسمه عالمنا العربي الإسلامي، ولا يتخذ منديلا ويجفف وجهه في ثوبه!! رحمه الله".

الشيخ سلمان أبو غدة:

وزرت بعد العصر أخانا الحبيب الشيخ سلمان أبا غدة في منزله، وقد هيَّج شوقي إليه طولُ التنائي والفراق، فعانقته عناق الوله، ورحب بي ترحيبا حارا، منبئةً طلاقة بشره عن نبله وكرمه، وله ضياء وجه لو تأمله امرؤ صادي الجوانح لارتوى من مائه، وعليه لباس الخلد حسنا ونضرة، وهو حسن الفعل والرواء، وكم دلّ على سؤدد الشريف وفضل العالم الحكيم رواؤه، وكلما رأيته أذهلني خيال عن مرآه، واستأسرني تصور ناقلا إياي من عالم المشاهدة إلى عالم المكاشفة، صرتُ وكأني أتوسم فيه شيخنا رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ولا أزال ينازعني الشعوران منازعة.

وظلنا نتحدث إذ انضم إلينا أخونا الكريم محمد أبو بكر باذيب، والأخ الكريم طارق قباوة.

الأخ الشيخ سلمان أبو غدة، ولد في1391 في الرياض في حضن أبويه، ونال شهادة البكالوريوس من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلية أصول الدين قسم السنة وعلومها، ثم شهادة الماجستير من الكلية نفسها، واختص بوالده اختصاصا كبيرا، وأخذ الفقه عن الشيخ العلامة محمد رواس القلعجي، وشيخنا العالم الصالح وصفي مسدي، وأخذ عن الشيخ عبد الوهاب طويلة الشافعي الحلبي النحو والفقه الشافعي.

أحببت سلمان لكريم خصاله وفضل مودته، لقيته أولا في سمرقند وبخارا وهو يصحب والده رحمه الله تعالى سنة 1993م، وتوثقت بيننا أسباب الإخاء والقربة، وخلال سفرنا من سمرقند إلى بخارا رأيت الشيخ عبد الفتاح أبا غدة رحمه الله تعالى كلما أنشد شيخنا أبو الحسن الندوي بيتا من الشعر أو روى قولا مأثورا أو لفظ بكلمة حكيمة أمر سلمان بيتقييدها، ثم لقيته خلال زيارة الشيخ للندن وأوكسفورد لما أكرم بجائزة السلطان حسن بلقية، وتتابعت لي لقاءات معه في جدة.

وهو عالم فطن ذكي مهذب ذو أخلاق رفيعة، وأوتي جمالا وحياء، وهو معنيّ بالبحث والتحقيق، وقد قام بطباعة كتب والده رحمه الله تعالى واعتنى بها، وآخر ما صدر بعنايته وتصحيحه كتاب عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان للحافظ المؤرخ محمد بن يوسف الصالحي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، وأهدى إلي منه نسخة.

خرجت من منزله في الساعة السادسة، ففارقت حين فراقه الزمنَ الذي لاقيته فيه ونحن نهتز اهتزازا.

الشيخ محمد باذيب:

وهو أخونا الفاضل الدكتور محمد بن أبي بكر بن عبدالله باذيب، ولد في مدينة شبام حضرموت في شوال 1396، وهاجر مع والدته الى جدة عام 1408. حيث كان والده يعمل، وأكمل دراسته بجدة. ثم التحق بكلية الشريعة جامعة الأحقاف بمدينة العلم والعلماء تريم. بحضرموت. سنة 1417 وانتهى منها عام 1421، وواصل دراسة الماجستير في لبنان. جامعة بيروت الاسلامية. كلية الشريعة. وانتهى منها عام 1428، وحاز على شهادة الدكتوراة في أصول الدين من جامعة عليكراه الإسلامية عام 2013.

لقيته أول مرة في الحج سنة 2003م في مكة المكرمة، وزرنا معا الشيخ عبد الرحمن الكتاني، وسمعنا منه المسلسل بالأولية وقرأنا عليه أشياء، ثم زرته مرة أخرى في منزله بجدة، وبتنا ليلة صحبة أخينا الفاضل الشيخ محمد بن عبد الله آل الرشيد، وقضينا ما معنا من الوقت نتدارس العلم، ورأيت فيه جودا وسخاء كالغيث منسكبا على إخوانه، ثم أخذني في اليوم التالي إلى مطار جدة بسيارته، وزرته صحبة الأخ محمد وائل الحنبلي للأخذ عن شيخنا عبد الله الناخبي، ولقيته بعد ذلك مرارا، وساعدني كثيرا في كتابي "الوفاء في أسماء النساء"، وألقى مرة كلمة على طلابي في معهد السلام خلال رحلتنا للعمرة في مكة المكرمة، وهو أخ عزيز غال ناظر في حرمة الود وذاكر عهد الإخاء.

وهو عالم محقق جادّ في عمله، باحث في التراث الاسلامي عموماً، والفقه الشافعي، وتاريخ الفرق والشعوب الاسلامية خصوصاً، ويعمل في مؤسسة الفرقان للتراث الاسلامي، فرع موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة. ونشرت مقالاته بها من المجلد الرابع وحتى التاسع (المرتقب صدروه) وهي أكثر من 800 مقالة، وصدر له حوالي 70 عنواناً بين تأليف وتحقيق، ومن الكتب التي أهداها إلي: "المقاصد السنية إلى الموارد الهنية في جمع الفوائد الفقهية" تأليف العلامة المحقق الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد باسودان المقدادي الكندي الشافعي الحضرمي (ت 1281هـ)، اعتنى به الدكتور محمد أبو بكر عبد الله باذيب، وقدّم له السيد عمر بن حامد الجيلاني، طباعة دار الفتح للدراسات والنشر، يعد من أنفع وأشمل مؤلفات الفقهاء الشافعية عمومًا في بابه، وزاد عليها فوائد كثيرة من مصنفات نادرة هي اليوم في عداد المفقودات.

و"العالم الإسلامي في رحلات عبد الرشيد إبراهيم: بدايات الإسلام في اليابان وأوضاع المسلمين في وسط وشرق وجنوب وغرب آسيا قبل مائة عام"، نقله من التركية إلى العربية صبحي فرزات وكمال خوجه، طباعة دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن"، 1432هـ، وقد اعتبره بعض الباحثين أهم من رحلات ابن بطوطة.

و"الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها" للسيد الشريف علوي بن طاهر بن عبد الله بن طه الحداد (ت 1382هـ)، اعتنى به الدكتور محمد أبو بكر باذيب، يمتاز بغزارة المعلومات ودقة المؤلف، وهو علامة كبير في الوصف والرصد والتتبع مع سعة اطلاعه وقدرته الباهرة على التصنيف مع ما يمتلكه من شغف كبير بعلم التاريخ.

و"ثبت النخلي: بغية الطالبين لبيان المشايخ المحققين المعتمدين"، تأليف أحمد بن محمد النخلي المكي الشافعي (ت 1130هـ)، اعتنى به الدكتور محمد أبو بكر عبد الله باذيب، طباعة مكتبة نظام يعقوبي الخاصة، 1438هـ، يقول الشيخ نظام يعقوبي في مقدمته للكتاب: "وقد اعتنى بتحقيقه الأخ الكريم الدكتور محمد أبو بكر باذيب وفقه الله تعالى، عن نخ ذات عدد ونفاسة، ووشاها بتعليقات مفيدة".

الشيخ طارق قباوة:

والأخ الكريم الأستاذ طارق بن عبد الحميد قباوة، ولد في حلب سنة 1389هـ، وخرج صغيرا مهاجرا من بلده حلب سنة 1400هـ مع امه واخيه وأخواته واقام في مكة المكرمة منذ ذلك الوقت، ثم انتقل إلى جدة، وله مهارة وبراعة في الطباعة والتنسيق، وقد رقم مئات الكتب والرسائل والبحوث، وهو المشرف الفني على موقع رابطة العلماء السوريين منذ تأسيسه سنة 2008م والذي يرعاه في جانبه العلمي شيخنا مجد مكي، والاخ طارق هو العضد المساعد له في هذا الموقع المتميز، وقد نشر الكثير من مقالاتي ورحلاتي، وأجزته وأسمعته المسلسل بالأولية، ووجدته لطيفا في حديثه محترما للعلماء في أدب وتواضع، وسألني أن أزوره في بيته، فاعتذرت لضيق الوقت، ويا ليتني قضيت معه من الزمن ما ساعدني في الاستزادة منه معرفة وإلفا.

الرجوع إلى مكة المكرمة:

وغادرت جدة حوالي الساعة الثامنة مساء، وأنا مستلذ بلقاء الإخوان والأحباء، ومحادثة الألاف والأخلاء، وإذا فارقت بلدة فلا أراني لوداد إخوان الصفا مفارقا، ولا لخلة الأصادق مودعا، فهوى القرب لا يسليني عن هوى البعد، ولا هوى البعد ينسيني هوى القرب، وحمدت الله ربي على ما أنعم به علي من مصافاة الصالحين، ولساني مجموع على ثنائه وشكره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين