رحلة الحج (23)

يوم الجمعة 13 من ذي الحجة سنة 1439هـ

الشيخ حامد أكرم البخاري:

لم يمكني لقاء شيخنا الكريم حامد البخاري في رحلة الحج هذه، فإنه كان مسافرا إلى المملكة المتحدة خلال هذه المدة، ووددت لو كنت في بريطانيا فاستقبلته بها مرحبا به، وهو من كبار علمائنا المعاصرين من ناشري علمي القراءات والحديث، وهو أحد أركان الإسناد والإجازة في عصرنا، وتعرفت عليه من خلال أخي العالم الصالح الحبيب الشيخ أحمد عاشور، ولأحمد علي من الفضل ما يعجز عنه لسان شكري، والحمد لله حمدا كثيرا على ما أنعم علي بأمثاله من ذوي المودة والصفاء وأصحاب الخلة والوفاء. والإخوان الناصحون من خير مرافق الحياة الدنيا.

ولقد أحزنني كثيرا ما بلغني أن بعض الشباب المتهورين نال شيخنا حامدا بالأذى خلال رحلته إلى بريطانيا وقد وردها معلمًا ونافعًا، ما أشقانا أن نعتدي على علمائنا من منطلق طائفي بغيض، ومن جراء تعصب منهجي كريه، وبإملاء من هوى وتحاسد ممقوت، ونقع في أعراضهم محلِّلي ما حرّم الله ظانين أننا نحسن صنعا، وبئس ما ظننا، وما أمكر الشيطان ببني آدم وما أشده تلاعبا بعقولهم وتسفيها لأحلامهم.

وشيخنا هو محدث المدينة المنورة ومقرئها الكبير أبو عبد الرحيم حامد بن أحمد بن أكرم بن سيد محمود بن علي المدني البخاري، ولد في المدينة المباركة الثامن عشر من شهر رجب عام سبعة وثمانين وثلاث مئة وألف للهجرة، وتخرج من كلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية، وأكمل الماجستير فيها، وله عدد كبير من الشيوخ في القراءات والعلوم، وحصل على أسانيد مشهورة وإجازات عالية، يروي جملة كبيرة من الأثبات والفهارس والمشيخات للأئمة الأعلام من علماء الإسلام، ذكر قريبا من مئتين منها في ثبته “المجتبى من لقط الدرر”.

أخذ عنه عدد كبير من الطلاب القرآن الكريم والقراءات وكتب الحديث، وانتخب من قبل الجامعة الإسلامية لإسماع مصادر السنة في مسجدها، ومما أسمع فيها صحيح الإمام البخاري وشمائل الترمذي، وموطأ الإمام مالك بروايتي يحيى ومحمد، وخلق أفعال العباد للإمام البخاري، والأربعين النووية، وصحيح الإمام مسلم، وله دروس أسبوعية في مسجد الجربوع – الذي هو إمامه – ، وفي قاعة المحاضرات بوقف عبد الشكور البخاري بالمدينة المنورة.

ومن مؤلفاته وتحقيقاته: إجابة الناسك إلى أحكام المناسك، ولقط الدرر من الأسانيد الغرر الموصلة إلى سيد البشر، وتحقيق شرح الشاطبية لملا علي القاري الهروي، وتحقيق جزء من شرح سنن النسائي، المسمى بـ تيسير اليسرى للبهكلي، وهو على منهج السلف، يقدم كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأقوال الصحابة وسلف الأمة وعلماء الملة، ويعظم الدليل، ولا يتعصب لأحد إلا ما وافق الحق، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، وهو على جانب كبير من الآداب والأخلاق، متواضعاً للصغير والكبير والغني والفقير، حلو المفاكهة، محبوب العشرة، كثير اللطائف والفوائد.

حضرته في منزله قديما، ولقيته غير مرة، وأجاز لي ولأولادي.

تفسير سورة الكوثر:

وملخص ما درستهم اليوم من تفسير سورة الكوثر للفراهي بعد صلاة الفجر:

والوجه التاسع أنهما من أبواب الصبر، أما الصلاة فلأن العبد يداوم عليها مطمئنا بوعد الله، وقد جمع القرآن بين الصلاة والصبر في غير آية، وأما النحر فهو مبني على تعليم الصبر العظيم الذي ظهر من إبراهيم عليه السلام، فإنه رضي بربه وفضله، ولم يعط ولدا حتى كبر، ثم لما أعطاه الله الولد وجعله قرة عينه ابتلاه بذبحه، فما تزعزع قدم صبره.

والوجه العاشر إقرار الملك والنعمة لله، وهذا في الصلاة ظاهر فإنها بنيت على إقرار الشكر والربوبية، وأما التضحية فهي إقرار بذلك بلسان الحال، كما تقول إن الملك والنعمة لله تعالى، فنفوسنا وأموالنا كلها لله، فلا بد أن نفوضها إليه ونحبسها لطاعته ونأخذ منها على سبيل الهبة منه تعالى، فنقر بإحسانه ونضعها حيث أمرنا، ولا نشرك فيها أحدا، فنعبده ونقدم إليه ما أعطانا، فإنه هو الخالق الواهب.

والوجه الحادي عشر أن العبد يتقرب بهما إلى الرب، وذلك ظاهر جدا.

والوجه الثاني عشر أن الصلاة والنحر أعظم طرق العبادات، وأقدمها وأرسخها في فطرة الناس، فترى السجود والركوع وتقديم النذور لإظهار التعبد في كل ملة ونحلة.

صلاة الجمعة:

خرجت الساعة العاشرة مع بناتي والأخ عمران لصلاة الجمعة في الحرم الشريف والطواف بالبيت العتيق، ماشين على أقدامنا في الشمس مسرعين، حتى وصلنا إلى الأنفاق التي تؤدي إلى ساحة توسعة الملك عبد الله، فإذا بها قد أقيمت الحواجز في مداخلها، فبقينا ننتظر فتحها منذ الساعة الحادية عشرة صابرين محتسبين، ورأيت أصحاب أمن الحج والعمرة يلاطفون الحجاج يتحدثون معهم في رفق ولين، يشرحون لهم سبب نصب السدود، ويرشدونهم إلى أقرب مسجد لأداء صلاة الجمعة، وقدم شرطي إلي كرسيا لأجلس عليه، فأعجبني خلقه، وأنس بي أنسا كبيرا، وهو من أهل الطائف يقيم بها أهله كلهم، وانتقل هو إلى مكة المكرمة بسبب العمل، وحاورني محاورة أخوة وإكرام، وقال لي: قد أشاع الناس أننا نكره الحجاج، فإنا لا نكرههم، بل نحبهم ونعرف ما علينا من حقوقهم، ونساعدهم في تنسيق أمور الحج، فصدقته فيما قال، ثم سألني أن أسدي إليه نصيحة، فقلت له: أنصحك بأمرين: الأول أن تقوي لغتك العربية وتتقنها ما وجدت إلى التقوية والإتقان سبيلا، والثاني أن لا تقتصر على قراءة القرآن بل تسعى لفهمه وتدبره، فقال: "شيء أفضل من لا شيء"، قلت: عامة الناس لا يقتنعون بما أوتوا من مال، ولا يقولون "شيء أفضل من لا شيء"، فلماذا نلجأ إلى القناعة في أمور الدين، والله تعالى قد أمر الناس بتفقه كتابه وتدبره والنظر فيه والتفكر.

وقدم رجال الأمن للحجاج ماء للشرب في احترام، وأقيمت الصلاة، فصلينا في مكان قريب، وانتظرنا أن ترفع الحواجز فننزل إلى الحرم الشريف، ولما رأيت بناتي قد أعياهنّ الانتظار قررت أن أعود إلى الفندق، وتركت الأخ عمران ليتم ما نوى من الطواف، وما مشينا إلا مائة خطوة أو أكثر إذ رأيت عمران يتبعنا، وقال: إن الحواجز قد رفعت، فرجعنا نمشي إلى الحرم الشريف، وآذت سمية وفاطمة أحذيتهما، فخلعتاها، ومشتا حافيتين، فأهمّني ذلك، ولكن شكرت الله تعالى على أن آتاهما قوة الاحتمال في سبيله، ولأجر الله أكبر، ولمثوبة منه أفضل من الدنيا وما فيها، وستنسينا سائر همومنا ومتاعبنا.

ودخلنا فناء الحرم الشريف مدفوعين من باب إلى باب، وصعدنا إلى المطاف في الدور الأول من جهة المسعى، وسرعان ما وجدنا سبيلا للنزول إلى الدور الأرضي، فنزلنا، وكان مكتظا بالطائفين، فقضينا منسكنا في حر وازدحام ذاكرين الله تعالى ومصلين على نبيه صلى الله عليه وسلم ومستغفرين من ذنوبنا وتائبين.

ولما أتممنا الطواف صلينا ركعتين عند باب الملك عبد العزيز، ونزلنا إلى نفقه لنستأجر سيارة، فما ظفرنا بها إلا بعد جهد شديد ومحاولات تتبعها أخرى فاشلة، بخمسين ريالا لكل رأس، وركبناها حامدين الله تعالى، ونزلنا عند مطعم "البيك" واشترينا غداء، ورجعنا إلى الفندق بعد الساعة الرابعة وتناولنا غداءنا.

احتفال بنجاح عائشة:

بلغني اليوم خبر سارٌّ، وهو نجاح عائشة في امتحانها للسنة الثانية للغة العربية في معهد السلام بامتياز، فاشتريت حلاوي لأصحابنا في الحملة احتفالا بنجاحها، فأكلوها مجتمعين بعد العصر، وقصدي بذلك تشجيعها لتواصل مسيرها في سبيل اللسان الذي لا تعدله الألسنة، اللسان الذي أنزل الله به كتابه المجيد واختاره لحبيبه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، اللهم أتمم لعائشة ولسائر بناتي ما نويت لهن وفقههن في دينك.

تسوق:

خرجت مع بناتي بعد العشاء لاشتراء الهدايا، ورأيت الأسعار قد ضوعفت، بل بولغ فيها مبالغة شديدة، واستغربت دناءة بعض البضائع، ولا أرى أحدا يشتريها في الأحوال العادية، ولكن الحجاج يشترونها لاضطرارهم إليها فإنهم يحبون أن يرجعوا إلى أهليهم ومعهم هدايا للأهل والأولاد والأقربين والجيران والأصدقاء، فيشترونها طائعين ومكرهين، بارك الله في طاعاتهم وفي سائر شؤونهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين