الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً (5)

قد يقول قائل: لماذا ابتدأت بالكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

فأقول : لأنه أحق بالتقديم لوجوه :

لأن الله تعالى لم ينزل كتابا من كتبه السماوية إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يرسل إلى البشر رسولاً من رسله الكرام إلا ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولم يوجب على عباده أن يتعلموا شرائعه إلا ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولم يفرض نصب حكومات في الأمم إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يشرع الحدود القاسية إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تُسلَّ السيوف من أغمادها للجهاد في سبيل الله ، ولا نصبت المشانق، ولا هوى الجلادون بالسياط على أبدان المجرمين، ولا بنيت السجون ، إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

ولأنه لولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما عاشت الدنيا طويلاً، فكان يتقدم إلى السرقة السارقون، ويقتحم الزنا الزانون، ولا يتهيب إراقة الدماء القاتلون حيث لم يأخذ على أيديهم آخذ، وبهذا كانت تضيع الأموال وتختلط الأنساب، وتزهق الأرواح بلا أيِّ مانع، وكيف مع هذا يطول أجل الدنيا هادئة عامرة؟

إذن لابدَّ من قوة تحول بين الظالمين وظلمهم حتى يأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأنسابهم، وهي السلطان الذي جعله ربنا لكلِّ مؤمن على من باشر معصية أيّ معصية، خصوصاً الحكومات التي إنما حُتم على الأمم إقامتها لتكون بقوّتها قيد للظالم عن أن يتقدم إلى ظلم، وحصناً للضعيف يأوي إليه يتحصَّن به من القويّ، وحارساً مهيباً تأمن به السبل ليسافر الناس إلى أيّ جهة شاءوا في ليل أو في نهار غير خائفين من اعتداء جريء، وإذا لم يكن هذا كانت الأمَّة كلها حاكمها ومحكومها آثمةً ظالمةً تستحق أن ينزِل بها ما نَزَل من عذاب .

ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألزم ما يلزم لنا الآن، وحاجتنا إليه في هذا الزمان أشدُّ من حاجتنا إلى أيِّ شيء سواه، فإن الناس غفلوا عن حياتهم الثانية غفلةً أنستهم ربهم وأنستهم ووعيده، وأضف إلى هذا أن قوانيننا الوضعية على كثرتها لم تُعنَ العناية المناسبة لانتهاك حرمات ربنا عز وجل، فلما لم يُخَف قانون سماويّ ولا قانون وضعيّ، هانت المعاصي على الناس، وكثرت ثم كثرت، بل قليل على تقدير المعاصي أن نقول فيها اليوم كثرت، فإن الدنيا من مشرقها إلى مغربها تموج بأصناف المعاصي موجاً، وذلك بمرأى ومسمع من الجميع، ولما تكررت المعاصي مع تلك الكثرة بين سمع الناس وأبصارهم، أصبحوا لا يشعرون بشيء من الغيرة على أوامر ربهم ونواهيه، وهي تنتهك أمام أعينهم.

ولقد حكوا عن رجل من عباد الله الصالحين البعيدين عن الناس ومشاهدة ما يقترفون من المعاصي ؛ حكوا أنَّه وقع نظره لأوّل مرة على إنسان يرتكب فاحشة من الفواحش فوقع عنده ذلك المنظر موقعاً آلمه ألماً جعله يبول دماً خالصا ً، تم تكرر نظره لمرتكبي الفواحش فكان يخفّ تأثره في كل مرة عن التي قبلها حتى صار كسائر الناس في خفة وقع رؤية المعصية على نفسه، وقد بلغنا نحن اليوم في برود دمنا أمام المعاصي أن نرى النساء هائمات في الشوارع والأزقّة كل ساعة من ساعات اليل أو النهار فاعلات بأنفسهن من أنواع المغريات ما يحرك أولياء الله تعالى فضلاً عن أولياء الشيطان دون أن تحرك فينا شعرة غيرة على ذلك التهتك الفاحش، بل لأكثر من هذا وصلنا في برود الدم أمام معاصي ربنا عز وجل.

وصلنا لأن ترى الرجال نهاراً جهاراً يذهبون إلى حيث يقتحمون موبقة الزنى واللواط في أماكن معلومة أُعدّت لذلك، دون أن يخطر على بال أحد أن يغير هذه الفواحش الكبرى ولو بكلمة إنكار واحدة، بل لعلك ترى بعينك الرجال يجرون وراء النساء في الشوارع كما تجري ذكور الكلاب وراء إناثها دون أن يحرك أحد ساكناً، ولا تتعجب لهذا فإنهم لا يُحركون ساكناً وهم يشاهدون بأعينهم ثعالب المبشرين يتخطفون أبناءنا وبناتنا كما تتخطف الذئاب الأغنام، لا يتخطفوهم إلا ليخرجوهم من دينهم الحق، وبذلك يصبحون من أهل جهنم أبداً لا يموتون فيها ولا يحيون.

وأرجوك أن تصدقني إذا قلت لك: إننا وصلنا اليوم لأن نشرع شرائع تحمى الرذيلة وتقضي على الفضيلة، بأنفسنا نشرع تلك الشرائع، وعلى أيدينا نظهر، وبقوتنا تنفذ، وهل يقف أمام ذلك أحد ولو بكلمة استغراب، ولا نستبعد أن يقف موقف المسئول من ينبس ببنت شفة إنكاراً على ذلك.

وأرجوك رجاء آخر: هو أن تتلقى بالقبول قولي لك: إن موت الغيرة الدينيَّة سرى بدرجة مخيفة حتى إلى من تظنهم أبطال الإسلام وحماته، وإلى هذا الموت يُعزى ما حكينا لك من كثرة المعاصي كثرة تستوقف الأنظار.

وإني والله لأخشى أن يتمادى بنا ذلك الحال حتى نصبح بلا دين، كما أصبحنا بلا دنيا، وخشيتي هذه على الكل، وأما البعض فقد أصبح بلا دين قطعاً، وإن كنتَ لا تعرف هذا فما أنت بعالم بما يجري في عصرك، إنَّ منا وبيننا أئمة للكفر يدعون إليه بألسنتهم وبأقلامهم وبكل ما يحسنون من حيلة، والذي شجعهم على المضيّ في هذا الطريق الوعر موت الغيرة الإسلامية من ناحية، ومن ناحية أخرى وجدوا من قلوب الكثير من أبنائنا الجهلة أرضاً خصبة نبت غرسهم فيها، وترعرع وأثمر الثمر الذي يرجونه.

وأحسن الله عزاءك في هذا الفريق، لم ينته هذا الموضوع بعد فانتظر في كلمة أخرى تمامه، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين