رحلة الحج (22)

يوم الخميس 12 من ذي الحجة سنة 1439هـ

لامية ابن الوردي:

ومما شرحت لهم من أبيات اللامية:

اطْـرَحِ الـدُّنيا فَمـنْ عَـادَاتهِا=تَخفِـضُ العاليْ وتُعلـي مَـنْ سَفَـلْ

عَيشةُ الـرَّاغـبِ فـي تحَصِيلِها=عَيشَـةُ الجْـاهـلِ فِيهْـا أَوْ أقْـلْ

كَـمْ جَهـولٍ بَاتَ فَيها مُكثـراً=وَعَليـمٍ بَـاتَ مِنهـا فـي عِلَـلْ

كَـمْ شُجاعٍ لم يَنـلْ فيها المُـنى=وَجَبـانٍ نَـالَ غـايـاتِ الأَمْـلْ

فَاتـركِ الحْيلَةَ فِيهَا وَاتَّكِـلْ=إِنمـا الحْيلَـةُ فـي تَـركِ الحِيَـلْ

أيُّ كَـفٍّ لمْ تَنـلْ مِنها المُـنى=فَـرْمَـاهَـا اللهُ مِنـهُ بـالشَّلَـلْ

لاَ تَقُـلْ أَصْلـي وَفَصلي أَبـداً=إِنما أصْـلُ الفَـتى مَـا قَـدْ حَصَـلْ

قَـدْ يسُـودُ المرءُ مِنْ دُونِ أبٍ=وَبِحُسـنِ السَّبْـكِ قـدْ يُنفَى الدَّغَلْ

إِنما الْـوردُ مِـنَ الشَّـوكِ وَمَا=يَنبُـتُ النَّـرجِـسُ إِلاَ مِـنْ بَصَـلْ

غَـيرَ أَنـي أَحمـدُ اللهَ عَلـى =نَسـبي إِذْ بِـأَبِـي بِكَـرِ اتَّصـلْ

تفسير سورة الكوثر:

وملخص ما درستهم اليوم من تفسير سورة الكوثر للفراهي:

والوجه الرابع أن الصلاة والنحر يتضمن أحدهما الآخر، فالصلاة من وجه نحر، والنحر صلاة، أما كون الصلاة نحرا فقد تبين مما مر آنفا من كونها ذبح السبعية، ثم هي أيضًا تحمل النفس مشقتها وتكفها عن لذتها ورتعها، فذلك من ذبح البهيمية.

وأما كون النحر صلاة فقد مر أن حقيقة النحر هي بذل النفس في سبيل الله، ولا يخفى أنه صلاة في صورة أخرى، فإن بذل المهجة في سبيل الرب إقرار وتصديق بالإيمان، ولذلك سمي شهادة، وأيضًا هو غاية الخضوع والطاعة فتضمن أوفى حظ من الصلاة إقرارا بالتوحيد وخضوعا للرب، ثم جعل للتضحية من الآداب ما يدل على كونها صلاة.

والوجه السادس أن كليهما شكر، أما الصلاة فكونها شكرا ظاهر حتى عبر عنها به، ومعظم الصلاة قراءة سورة الفاتحة، وبناؤها على الشكر، وأما النحر فإنا نعلم أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، "وهو يطعم ولا يطعم"، وإنما نقرب إليه مما أنعمنا به اعترافا بأن ما عندنا ملكه ونعمته.

والوجه السابع أنهما كليهما من التقوى، أما الصلاة فإن العبد لا يزال يذكر ما تعلق به رجاؤه وخوفه، والصلاة لهذا الذكر، فيتضرع العبد ويتخشع لما يبغي رضا ربه ويخاف سخطه، وإلى هذا يشير قوله تعالى: "وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون"، وأما كون التضحية من التقوى فذلك أن تسلط الإنسان على البهائم أشبه شيء بالتعبيد، فوجب أن ينفي هذا التوهم بالتخشع والإقرار بالعبودية، وأن النعمة والربوبية والملك لله تعالى، وصفة التقوى جماع هذه الأمور، فصارت سر التضحية، فالعبد في الحقيقة يتقرب إلى ربه بالتقوى، ولذلك لا يتقبل التضحية إلا بها "إنما يتقبل الله من المتقين".

والوجه الثامن أنهما من منازل الآخرة، فإن الصلاة رجوع إلى الله وصورة لوقوفنا بين يديه في المحشر، ففيها خلسة من المعاد، فمن كان مصليا كان ذاكرا لرجوعه إلى ربه، وهذا نفهم من قوله تعالى "إنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون"، وأما النحر فهو أيضًا رجوعنا إلى الله، وذلك أن أجسامنا سخرت لنا كالبهائم، فهي للركوب والرفق إلى أجل مسمى، ثم ترجع إلى الرب. ثم اجتماعنا في الحج أظهر تصوير لوقوفنا في المحشر، فصلاتنا واجتماعنا لذكر الله والحج والنحر يشبه بعضها بعضًا في نسبتها بالمعاد.

كلمتي:

ذكَّرتهم أن نشكر الله تعالى ونسبح بحمده على أن وفقنا للحج وأداء مناسكه في ضوء كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويسَّره لنا وجعلنا نستوحي من الملة الحنيفية، وخير الملل ملة الخليل بن آزر عليه السلام، وأن نثق بوعده بالمغفرة وتطهير الذنوب وتزكية القلوب، ولم يعلِّمنا مناسكنا إلا لينعم علينا بعفوه ورحمته ورضوانه، وهو للمواعيد غير مخلف ولا للمواثيق ناقض، ويجب علينا أن لا ننسى أننا عباد لله تعالى في الحج وبعد الحج، والعبودية لازمة لنا حيث نزلنا وأنى رحلنا، فلنواظب على صلواتنا في المساجد جماعة، ولنثبت على الطاعات في المناشط والمكاره، ولنكن عن الشرور قصيري الخطا، وللسيئات شديدي الكراهية والعدا، ولا نغبطن فتى عصى ربه وغوى، ولا نغبطن خلا أخا البر والتقوى، وذكرتهم بخطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله الملهم الذي لا ينطق به إلا صديق: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".

وأوصيتهم أن لنا خيارين في كل شيء، وهذا هو الابتلاء الذي خلقنا لأجله، ولن ينجح في الامتحان إلا من رغب في الاختيار الصحيح مسارعا إليه ومؤثرا له على سواه، والاختيار الصحيح ما اختاره الله، فأصلح شيء لنا وأنسبه أحبه إلى مولانا، وهو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا بل ومن أنفسنا والناس أجمعين.

وورد إلي سؤال: أليس جمعنا بين الصلاتين في السفر اتباعا للهوى؟ فقلت: لا، إن العبادة والهوى يتضادان ويتناقضان، ولايلتقيان ولا يتوافقان، والجمع بين الصلاتين تيسير، قال تعالى: "ويريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، وإذا أمكن تيسير في العبادة فينبغي أن يؤخذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما، والدين يسر، وهو ما أمر به الله ورسوله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين الصلاتين في السفر وتبعه أصحابه ومن بعده، ولا تسمى السنة هوى، وقد يكون ترك الرخص هوى، وهذه حكمة لا يتفطن لها إلا قليل، ولَرُب باطل برز من لفظة ظاهرها حق وباطنها أفعى، فاتبعوا الحق، والحق أبلج لا خفاء به، ولقل من تصفو له أفعاله، ولقل من يصفو له الهدى، والله للناس بأعمالهم، وكل ناو فله ما نوى.

رمي الجمار:

يممنا صوب الجمرات بعد صلاة العصر في الساعة الخامسة، ومشينا بهدوء نرعى الصغار والكبار، والرجال والنساء، ومررنا بهذا الربع المقدس كما نمر من الإكرام بالركن اليماني والحجر الأسود، ورمينا الجمار مقتربين منها، ودعونا الله بدعوات، وعلائم القبول عليها ظاهرة، وكأن قلوبنا تغشاها غاشية من رأفة الله ولطفه والطمأنينة والسكينة، وفارقنا عرفات والمزدلفة ومنى مسلِّمين عليها سلام وداع ومحيين لها تحية محب ساع، فإليها طوى المفاوز كل ركب، ساميا بهم التغرب والبعاد، ومجاوزين بلادا إلى بلاد، اللهم أعدنا إليها مجددي عهودنا بالوقوف والرمي وتطهير بيتك للطائفين والعاكفين والركع السجود.

العشاء:

نزلت مع بعض أصحابي إلى مطعم الفندق، وتناولنا بعض الحلويات، وشربنا الشاي، وحثثتهم على احترام العقل وحكمه والتأدب بآداب الصالحين، فما أنفع العقل لأصحابه، ولا يزدان العقل إلا بأخلاق وآداب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين