معركة مناذكرد Manzikert

في يوم الجمعة السابع من ذي القعدة من عام 463 وقعت قرب مدينة ملاذكرد Malazgirt في محافظة موش في شرق تركيا معركة مناذكرد Manzikert بين الجيش المسلم بقيادة السلطان السلجوقي ألب أرسلان - الأسد الشجاع بالتركية - وبين الجيش البيزنطي بقيادة الإمبراطور البيزنطي رومانوس الخامس ديوجانس، وانجلت عن هزيمة ساحقة للبيزنطيين، وأسر فيها الإمبراطور، وفتح هذا الانتصار الطريق أمام التوطن التركي الإسلامي في الأناضول وانهيار الإمبراطورية البيزنطية فيما بعد.

وكان السلطان ألب أرسلان، واسمه محمد وكنيته أبو شجاع، قد تولى إمارة خراسان في عهد والده جغري بك، وبقي فيها بعد وفاة والده وتولي عمه طغرلبك، الذي راسل الخليفة العباسي القائم بأمر الله معلناً ولاءه وطلب منه أن يعلنه سلطاناً ففعل، ولما توفى العم سنة 454 دخل ألب أرسلان في صراع مع أخيه سليمان وعمه قتلمش على خلافة والده، وكان النصر لألب أرسلان الذي صار سلطان الدولة السلجوقية في سنة 455 وعمره 30 عاماً، وصار يحكم المنطقة الواقعة من جيحون إلى الفرات.

واستوزر ألب أرسلان الوزير القدير نظام الملك الذي ساعده في استباب الأمور له وانتشار الأمن والازدهار الاقتصادي، فاتجه للتوسع في الغرب فاستولى على جورجيا وأرمينيا، ثم اتجه لمحاربة الفاطميين في سورية ضمن مخطط له لضم الأراضي الإسلامية تحت رايته، وبخاصة أن الدولة العباسية في العراق كانت في مرحلة ضعف وانحطاط، وأن الحكم الفعلي في الدولة الفاطمية كان قد خرج من أيدي الخلفاء وأصبح تحت سيطرة الوزراء الجماليين، وشجع ذلك البيزنطيين على الإغارة على حدود الدولتين في العراق والشام، وتمهيداً لذلك عقد ألب أرسلان في سنة 460 هدنة مع البيزنطيين مدتها سنة، ثم مددها ثانية.

وفي سنة 462 أرسل ألب أرسلان جيشه إلى شمال سورية وفرضوا نفوذهم على حلب وحماة وحمص، واتفق صاحب حلب محمود ابن شبل الدولة نصر بن صالح الكلابي مع ألب أرسلان أن يقطع الخطبة بحلب للفاطميين ويدعو للخليفة القائم بأمر الله.

وكان ناصر الدولة بن حمدان قد تغلب على مصر، ووقع بينه وبين جماعة من الأمراء بمصر وحشة، رسولاً إلى السلطان ألب أرسلان يستدعي عساكره ليسلم إليه ديار مصر، فلما ورد عليه الرسول إلى خراسان جهز جيشاً كبيراً واتجه على رأسه ماراً بديار بكر، وحاصر البيزنطيين في الرها، واسمها اليوم أورفة، في أول سنة 463، واستدعى محمود بن نصر بن صالح إلى حضرته أسوة بمن وفد عليه من ملوك المناطق فخاف محمود ولم يستجب لذلك.

وعرض الإمبراطور البيزنطي رومانوس الخامس على ألب أرسلان تجديد الهدنة فوافق، ورفع الحصار عن الرها واتجه إلى حلب وحاصرها حتى خرج إليه محمود ليلاً ومعه والدته فعفى عنه وأقره عليها، ورغم الهدنة فإن الإمبراطور البيزنطي انتهز انشغال السلطان في حلب وتوجهه لمتابعة المسير إلى مصر، فخرج رومانوس في جيش جرار تختلف الروايات المسلمة في تقديره بين مئتي ألف إلى ثلاثمئة ألف، وتقدره المصادر الحديثة بحوالي 40.000 جندي، وكان الجيش البيزنطي يتكون من المقاتلين النظاميين إلى جانب متطوعين ومرتزقة من الروس والأرمن والكرج والقوقاسيين وغيرهم من طوائف تلك البلاد، ووصل إلى بلاد خلاط بالقرب من بحيرة وان شرقي تركيا اليوم.

وسمع ألب أرسلان بما حشد الإمبراطور من جموع، وأدرك أنه لن يتمكن من حشد جيوشه كلها بسرعة لتفرقها في البلاد وقرب العدو، ورأى أن التأخر عن المواجهة في انتظار الحشد له عواقب وخيمة، فسير الأثقال مع زوجته ووزيره نظام الملك إلى همذان، وسار هو بمن عنده من العساكر، وهم خمسة عشر ألف فارس، وجدَّ في السير، وقال لهم: إنني أقاتل محتسباً صابراً أحتسب نفسي عند الله، وهي إما السعادة بالشهادة، وإما النصر كما قال تعالى?ولينصرن الله من ينصره? فإن سلمتُ فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي.

وأرسل الإمبراطور قوة من الروس في عشرين ألف فارس فأغارت على خلاط Ahlat ونهبت وسبت، فخرج إليها عسكر خلاط بقيادة القائد صندق التركي الخارج فكسروهم وأسروا قائدهم، وصادف ذلك وصول السلطان ألب أرسلان فأمر بجدع أنفه، وأرسلت إمارتا حلب والموصل قوات انضمت إلى جيش ألب أرسلان فأصبح عدده يقارب 30.000 جندي.

وكانت مجموعة من أتراك المنطقة قد انضمت إلى الجيش البيزنطي، فلما وصل ألب أرسلان وبدأت المناوشات وانكسر الروس شرع هؤلاء في التسلل من بين البيزنطيين الذين قتلوا بعضهم ونجا الباقون، واضطرب أمر البيزنطيين، وباتوا ليلتهم على أعظم قلق وأشده.

ووصل السلطان ألب أرسلان في بقية عساكره صباح الخميس، ورغم انتصاره السابق، لم يغب عن السلطان التباين العددي الكبير، فأراد ان يختبر الوضع المعنوي لعدوه ويكشف نواياه، فأرسل رسولاً إلى البيزنطيين حمله سؤالاً وضراعة، وأمره أن يقول للإمبراطور: إن كنت ترغب في الهدنة أتممناها، وإن كنت تزهد فيها وكَّلنا الأمر إلى الله عز وجل.

وكان من الطبيعي إزاء الكثرة التي يتمتع بها الجيش البيزنطي أن يظن الإمبراطور أن هذا العرض يصدر عن ضعف وزهد في المواجهة، فأبى واستكبر، وأجاب: لا هدنة إلا بالريّ! وهي عاصمة الدولة السلجوقية، فغاظ السلطان جوابه، وعزم على المواجهة، فقال له إمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دينٍ وَعَدَ الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون في أقطار الأرض للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.

وكان الخليفة القائم في بغداد قد أمر خطباء الجمعة بالدعاء للسلطان ألب أرسلان على المنابر، ومن هذا الدعاء: اللهم أعلي راية الإسلام وناصره، وادحض الشرك بجبَّ غاربه وقطع أواصره، وإمداد المجاهدين في سبيلك الذين في طاعتك بنفوسهم سمحوا، وعلى متابعتك بمهجهم فازوا وربحوا، بالعون الذي تطيل به باعهم، وتملأ بالأمن والظفر رباعهم، وأجِبْ شاهنشاه الأعظم برهان أمير المؤمنين بالنصر الذي تنشر به أعلامه، وتستبشر بمكانه ... فإنه قد هجر في كريم مرضاتك الدعة، وتاجَرَك من بذل المال والنفس ما انتهج فيه مسالك أوامرك الممثلة المتبعة، فإنك تقول، وقولك الحق: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالك وأنفسكم.

اللهم فكما أجاب نداءك ولباه، واجتنب التثاقل عن السعي في حياطة الشريعة وأباه، ولاقى أعداءك بنفسه، وواصل في الانتصار لدينك يومه بأمسه، اللهم اخصصه بالظفر، وأعنه في مقاصده بحسن مجاري القضاء والقدر، وحطه بحرز يدرأ عنه من الأعداء كل كيد، ويشمله من جميل صنعك بأقوى أيد ...

وتصافَّ العسكران في يوم الجمعة، ووقف السلطان عن قتاله انتظاراً لوقت الصلاة والدعاء على منابر الاسلام، وترقُباً للإجابة في نصرة المسلمين، فلما حان وقت الزوال صلى بهم الإمام وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا فأمنوا، فقال لهم: من أراد الإنصراف فلينصرف، فما ههنا سلطان يأمر وينهي! وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط وقال: إن قُتِلتُ فهذا كفني.

ثم ركب وعبأ جيشه فرقاً على شكل هلال ولكل فرقة منهم لها كمين، ثم استقبل بوجهه الحرب، وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل ألب أرسلان وعفر وجهه بالتراب، وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل الجيشُ معه، وحمل الجيش البيزنطي بأجمعه، وحقق ما ظنه انتصاراً على المسلمين ليعود ويتضعضع من جديد، فقد اتبع المسلمون أسلوب الكر والفر الذي أتقنه المجاهدون السلاجقة، فكانوا يهربون بين أيدي البيزنطيين ليستجروهم إلى الكمائن التي تهاجمهم من خلفهم، وليعود المنهزمون فيكروا عليهم، فأنزل الله نصره، وانهزمت الروم، وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بالقتلى.

و يشيرون المؤرخون المعاصرون المختصون في التاريخ البيزنطي إلى أن المعركة كانت كارثة على الدولة البيزنطية وبداية لأفولها، إلا أنهم يستبعدون ما يورده المؤرخون المسلمون عن عدد القتلى وتقديرهم له بعشرات الآلاف، ويستدلون على ذلك باستعادة الجيش البيزنطي قوامه بسرعة نسبية وأن كثيراً من قواده الذين شاركوا في المعركة ترد أسماؤهم في معارك أخرى جرت بعد المعركة الحاسمة بفترة غير بعيدة.

ولأول مرة في التاريخ يقع إمبراطور بيزنطي أسيراً، فقد أسر الإمبراطور رومانوس مملوكٌ كان للأمير سعد الدولة كوهرائين أهداه من قبل للوزير نظام الملك فرده عليه فجعل يرغبه فيه، فقال نظام الملك: وماذا عسى أن يكون من هذا المملوك؟ يأتينا بملك الروم أسيراً! فلما أسره الغلام أحضره إلى مولاه كوهرائين، فأحضره إلى السلطان، فضربه السلطان ثلاث ضربات بالمقرعة، وقال: ألم أرسل إليك في الهدنة، فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ، وافعل ما تريد، فقال السلطان: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ فقال: كنت أفعل كل قبيح، قال: فما تظن أني أفعل معك؟ فقال: إما أن تقتلني، وإما أن تشهرني في البلاد، والأخرى بعيدة، وهي العفو، وقبول الأموال، واصطناعي باتباعك، وقال: ما عزمت على غير هذا.

فتعهد الإمبراطور بإقامة الهدنة لمدة خمسين سنة لا يتعرض بشيء لبلاد الإسلام، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم من المسلمين، وأن ينفذ لألب أرسلان جيوشه ليستعين بها متى طلبها، وفدى نفسه بألف ألف وخمسمئة ألف دينار، وقطيعة في كل سنة ثلاثمئة ألف وستين ألف دينار،فأطلقه ألب أرسلان وأكرمه وخلع عليه، وأطلق له جماعة من أسرى البطارقة، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، ثم جهز السلطان معه عسكراً يوصله إلى مأمنه، وشيّعه فرسخاً، ولما سار الإمبراطور سأل: أين جهة الخليفة؟ فأشاروا له، فكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة،قال المؤرخون المسلمون: ولم يجر في الإسلام مثل هذا الظفر، ولا أسر للروم ملك قبل هذا في الإسلام.

ولما انصرف أرمانوس إلى القسطنطينية خلعوه من الملك وملكوا عليهم ميخائيل دوقاس ابن الإمبراطور قسطنطين، فلما بلغه الخبر لبس الصوف وأظهر الزهد، وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان، وقال: إن شئتَ أن تفعل ما استقر، وإن شئتَ أمسكتَ، فأجابه ميخائيل بإيثار ما استقر، وطلب وساطته، وسؤال السلطان في ذلك، وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مئتي ألف دينار، فأرسله إلى السلطان مع طبق ذهب عليه جواهر بتسعين ألف دينار، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك، ومضى أرمانوس إلى مصيره البائس فقد سُمِلت عيناه ونفي إلى جزيرة بروتي ضمن جزر بيوك قضا جنوبي إستانبول.

استقر ألب أرسلان في السلطنة حين توفي عمه السلطان طغرلبك سنة 455، وكان ولي عهد عمه، لأن عمه لم يكن له نسل فملك بعده، وهو أول من ذُكِرَ على منابر بغداد بالسلطان، وتوفي مقتولاً بيد أحد أسراه سنة 465، ووصفه المؤرخون بأنه كان في أواخر أمره من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد وفي نصر الدين، وقنع من الرعية بالخراج الأصلي. وكان يتصدق في كل رمضان بأربعة آلاف دينار ببلخ، ومرو، وهراة، ونيسابور، ويتصدق بحضرته بعشرة آلاف دينار.

رحمه الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين