رحلة الحج (20)

يوم الثلاثاء 10 من ذي الحجة سنة 1439هـ

من المزدلفة إلى منى:

أقبلنا في منى بعد الفجر على الذكر والدعاء إلى أن طلعت الشمس، ورأيت إن انتظرت الحافلة تأخرنا وأوجعتنا حرارة الشمس وآذانا سعارها، فآثرت الخروج مشيا ووافقتني بناتي وتبعني بعض أصحابي، فاستأذنا الشيخين ناصر ومجاهد علي، وهما يخافان علينا أن نضل الطريق فنقع في نصب وعناء، وسمحا لنا بعد تردّد وتلجلج، واتجهنا إلى منى ماشين في بحر من الحجيج رجالا ونساء على طرق واسعة وقد ازدحمت عليها الحافلات والسيارات، همهم همنا، وقصدهم قصدنا، متخالفة أجسامنا متآلفة أرواحنا، وقلت لبناتي وأصحابي: إن لم نمش مع الناس لم نستشعر الحج، وخير الإخوان إخوان صفاء متعاونين على البر والتقوى ومتشاركين في الجهة والقبلة، وما أسعدنا ونحن نمشي في كوكبة من عباد الله طاهرة نقية، وما أبلغنا حظا أن تظلنا الملائكة بأجنحتها الوارفة مصلين علينا ومستغفرين لنا ربهم استغفارا.

ووصلنا إلى منى قبل الساعة الثامنة، فاغتسلنا، وأفطرت، ودرَّست لأصحابي، ثم استرحت قليلا، وأصحاب الطموح والهمم العالية لا يخلدون إلى الاستجمام والاسترخاء، والدعة والاستراحة، بل هم دائما في حل وترحال، وركوب وسفر، يستثقلون حط الرحال، ويستحسنون شدها وهم به مغرمون.

تفسير سورة الكوثر:

لم أدرسهم اليوم تفسير سورة الكوثر، وإنما أذكر هنا ما فاتني ذكره مما درستهم في عرفات، وملخصه:

وجوه المناسبة بين الصلاة والنحر: اعلم أن للصلاة والنحر وجوها كثيرة دلنا القرآن عليها كلها، والآن نشرع بعون الله تعالى في ذكر وجوه المناسبة بين الصلاة والنحر.

فالوجه الأول: أن المناسبة بينهما تشبه المناسبة التي بين الإيمان والإسلام، واعلم أن الدين مبني على صحة العلم والعمل، فالعلم أن نعرف ربنا ونسبتنا إليه، ولا نذهل عن هذا العلم، ويلزمه حالة قلبية من المحبة والشكر، وتفيض إلى الأعمال، فالعمل متصل بالعلم اتصال الأثر بالمؤثر، والظاهر بالباطن، فالعلم من باب الإيمان والعمل من باب الإسلام، ثم اعلم أن العمل كما يقابل العلم، فكذلك يقابل العمل، فالقول وسط بينهما، وهو أول ظهور الإرادة وتحقيق العمل.

لا يخفى أن الصلاة قول وإقرار، وجميع أوضاعها من القيام والركوع والسجود أقوال بلسان الأوضاع، فهي أول خطوة بعد الإيمان، وبها يفتح باب الأعمال، ولذلك قدمت على جميع الشرائع.

وأما النحر فهو جماع معنى الإسلام، فإن الإسلام هو الطاعة، وإذعان النفس لربها وتسليم كليتها لمولاها، وهو أيضًا فطرة العباد كالصلاة، فإن المخلوق لم يخلق إلا بإذعانه لأمر ربه، أمره بـ"كن" فكان، واستجاب لدعوته في بدء خلقته، فإن عصى بعد ذلك ناقض فطرته، وعبر الله تعالى عن ذبح إبراهيم إسماعيل عليهما السلام بإسلامهما "فلما أسلما وتله للجبين".

والوجه الثاني: أن النسبة بين الصلاة والنحر كالنسبة بين الحياة والموت، وبيان ذلك أن الصلاة سرها ذكر الرب، ولهذا السر ملأ ساعاتنا بالصلاة، ولم يرخص عنها في حالة، فظهر أن الصلاة كالتنفس لا بد منها، فبذكر الرب تبقى الحياة المعبر عنها بالنور والسكينة والإيمان، وأما النحر فحقيقته تسليم النفس لربها كما دلت عليه قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وجعل التضحية تذكارا لتلك القصة والبلاء المبين ابتلى به الرب خليله، فكما أن الصلاة حياتنا بالرب فكذلك النحر موتنا له، "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين". 

لامية ابن الوردي:

ومما شرحت لهم هنا من أبيات اللامية:

لاَ تَقـلْ قَـدْ ذَهَبـتْ أربـابُهُ=كُلُّ مِـنْ سارَ عَلى الـدَّربِ وَصْـلْ

فـي ازدِيـادِ العِلمِ إِرغْامُ العِدى=وَجمَـالُ الْعِلـمِ إِصـلاَحُ الْعَمـلْ

جَمِّـلِ المَنطِـقَ بالنَّحـو فَمـنْ=يحُـرَمِ الإِعـرْابَ بالنُّطـقِ اخَتَبـلْ

انظُـمِ الشِّعـرَ وَلاَزِمْ مَـذْهَبِـي=فـي اطَّـراحِ الرَّفد لاَ تبغِ النَّحَـلْ

فَهـوَ عُنـوانٌ عَلَى الْفَضـلِ وَمَا=أحَسـنَ الشِّعـرَ إِذْا لـمَ يُبتـذلْ

مَاتَ أهـلُ الْفَضـلِ لم يَبقَ سِوى=مُقرفٍ أَوْ مَـنْ عَلَى الأَصْـلِ اتَّكـلْ

أَنَـا لاَ أَخَتَـارُ تَقبِيـلَ يـدٍ=قَطْعُهـا أَجمْـلُ مِـنْ تـِلكَ القُبَـلْ

إِنْ جَزتْني عَنْ مَديحِي صِرتُ فـي=رقِّهـا أَوْ لاَ فَيكفِيـني الخَجَـلْ

رمي الجمرة الكبرى:

واتجهنا في الساعة العاشرة إلى الجمرات في جمّ غفير ملبين ومكبرين جاهرين ومسرين، في سير حثيث، وإن منى مناخ لركب يسرع الحث بشد الرحال، وإن أياما قصارا بمنى تحمي المؤمنين من معاناة أيام طوال، ولقد استحلينا مشيتنا استحلاء بما لمسنا في الناس من روح التعاون وعاطفة التعاضد، يظللون إخوانهم ويشركونهم في طعامهم وشرابهم، والشرط يحيوننا بوجوه باسمة، معربين عن فرحهم وسرورهم، وراشِّين علينا بماء بارد يخفف عنا بعض ما نعاني من حر الشمس وشدتها.

وصلنا إلى الجمرات، وقربَّتُ بناتي إلى الجمرة الكبرى، وما يفصلنا عنها إلا جدارها، فرميناها بحصياتنا في هدوء وأناة غير مستعجلين، ذاكرين الله تعالى ومسبحين باسمه، ونويت بالرمي الاحتفال بذكرى رمي الله تعالى أصحاب الفيل وإهلاكهم وجعلهم كعصف مأكول، وتذكير نفسي بعهد الله إيانا أن ندافع عن بيته ونعمره بالعبادة وإطعام المساكين فيرعانا ويديم نعمه علينا اتباعا لقوله تعالى: "فاذكروني أذكركم".

الذبح والحلق:

الترتيب أن يرمي الحاج ثم يذبح ثم يحلق، وبما أن الذبح يمارس هذه الأيام بواسطة وكالات، ولا تعرف مواعيدها بالضبط، فقد اتبعت منذ حين فتوى من لا يوجب الترتيب، فحلقت واغتسلت واسترحنا قليلا، والذبح تذكير بالإنفاق والإحسان إلى ذوي القربى والمساكين، وعيال الله أكرمهم عليه أبثهم المكارم في عياله، والحج جامع لمعنى الصلاة والإنابة إلى الله والإحسان إلى خلقه.

وأفضل ما روي في ترتيب أفعال الحج ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل، فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر، فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.

طواف الإفاضة:

ومشينا في الساعة العاشرة ليلا إلى المسجد الحرام، وبدأنا الطواف بعد الساعة الحادية عشرة، وطفنا في الدور الأرضي، وشرحت لبناتي أن طواف الإفاضة بمثابة زيارة لبيت الله إذ قضينا مناسك الحج وفق سنة إبراهيم ومحمد عليهما السلام فقرَّبَنا إليه لنحييه ونناجيه، والطواف بالبيت صلاة، فكما أن الصلاة إقبال على الله تعالى واقتراب منه، كذلك الطواف إقبال عليه تعالى واقتراب منه.

ولا يعجبني شيء ما يعجبني الطواف، وأشعر بلذة غريبة وأنا طائف، أذكر ربي وأصلي على نبينا صلى الله عليه وسلم وأستغفر وأدعو بدعوات، وأحس باتصال عجيب بالله تعالى، فنفسي له ومالي، ولي كرمه وجوده وسخاؤه وفضله ومنه، سقيت الغيث يا بيت الإله، فنعم البلد البلد الحرام، لقد نشر الله عليك نورا، وحفك بالملائكة الكرام، وأفاض عليك بما أفاض.

السعي:

ثم اتجهنا إلى المسعى وسعينا متزاحمين حامدين ربنا ومستغفرين، وانتهينا من السعي بعد الساعة الواحدة، وسألتني بناتي عن سبب سعي الرجال بين الميلين الأخضرين دون النساء، مع أنه سنة سنتها امرأة، فقلت: نابت امرأة عن سائر النساء، وأراد الله تعالى أن يذكر الرجال أن لا يستحيوا من اتباع الخير مهما كان مصدره.

الصبر في سبيل الله:

وقد تعبنا اليوم تعبا كبيرا وخضنا عناء بالغا ونصبا، فقد مشينا في هذا اليوم الواحد ثلاثين كلومترا تقريبا، ورجعنا مرهقين فرحين، وما أحسن الجمع بين الإرهاق والفرح، صبرت وما لي والله جلادة على الصبر، ولكن قد صبرت على رغمي، ألا في سبيل الله جسمي وقوتي، ودعتي وراحتي، وما أسعد المشقة والنصب في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، يا ذا الذي يشتهي ما لا ثواب له من متاع الدنيا الزائل، دعه وتول عنه، وسارع إلى مغفرة من ربك ورضوان، والسابقون إلى ربهم لا يشكون من المشقة والتعب، فإذا أردت الثواب من ربك فكن حمال أثقال مستطيبا لها استطابة.

وأكرم بمن كان على الله نازلا، وأكرم بحرم مكة والبقاع المقدسة دارا ومنزلا، اللهم اجعلني من أوليائك المتقين، فالمرء إذا كملت له شعب التقوى فقد كملت مكارمه ومحاسنه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين