رحلة الحج (19)

يوم الاثنين 9 من ذي الحجة سنة 1439هـ

بروز إلى عرفات:

وودعنا منى إلى عرفات حوالي الساعة العاشرة، وكلنا قلوب مشتاقة إليها نزوعا وحنينا، وكلنا أرواح متآلفة معها صابية إليها في رغبة جامحة ومحبة صادقة، فهي باب مغفرة الله تعالى ورحمته، ومدخل فضله ونعمته، وكلنا مستعدون أن نستغفر بها من ذنوبنا ونستعطي ربنا ونسأله أذلة له خاضعين مستسلمين، ونتعهد ببداية حياتنا من جديد، حياة كلها في طاعة الله تعالى وإسلام له وقنوت، وعرفات وغيرها من شعائر الله تعالى مثبتة للإسلام في النفوس إذا مال عمود قبته وإذا ضعفت شوكة المسلمين، وكالئة للعباد من ملاهيهم وغفلاتهم ومقيمة لنهج حياتهم على العبادة والتوحيد، وقائدة لهم إلى الحلم والإنابة والسداد، ومبارك يوم عرفة ميمون! فإنه مخبر ميلاد عهد لكل من لجأ إلى مولاه وبه اعتصم، وضامن لفوز من اتبع سبيل الحنفاء إلى الله والمنيبين إليه، ضمانا لا يجد معه اليأس والقنوت إلى الورى سبيلا.

في عرفات:

وصلنا إلى عرفات قبل الساعة الحادية عشرة، فعجبنا من كثرة الأشجار بها والورود والأزهار في واحات وجبال، تحافظ فيها على درجات حرارة معتدلة ولطيفة، وتمتع الناس بمناظر جميلة خلابة بهية، وكأننا بواد ذي زرع، والفخامة تستقبلنا، ولما دخلنا من بوابة المخيم رأينا السجاجيد قد فرشت، محفوفة بحدائق ذات بهجة فيها مجالس وكراسي، ومقاه ومشارب، ووجوه من الترفيه، وكأننا في منتجع سياحي لقضاء عطلة وإجازة، حيث يلتذ الحجاج بالاستجمام والاسترخاء، طارحين عن أنفسهم التعب والإعياء والنصب والعناء.

وأريد أن أذكر بأن هناك أمرين لا بد من الفرق بينهما:

الأول: أن نوفر ما أمكن من التيسير للحجاج من إظلال لهم وإطعام وسقي وإرشادهم إلى مناسكهم، ورفع الكلفة والمشقة عنهم، فهذا فيه أجر كبير.

والثاني: أن نحول البقاع المقدسة إلى ما يشبه مكانا للتنزه ومنتجعا للعاطلين الغافلين، فهذا يعارض الغرض الذي من أجله اختار الله هذه الأرض للعبادة والحج، وينافي المقصد العظيم الذي خططه إبراهيم عليه السلام وقرره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

مررنا بهذه المناظر الرائعة الساحرة ودخلنا في مخيمتنا فأفطرنا بها، وقضيت وقتي تدريسًا، ووعظًا، وعبادة، وذكرًا واستغفارًا ودعاءً.

كلمتي لأصحابي:

وألقيت كلمة لأصحابي ومن معهم أذكرهم بقيمة هذا اليوم وسعة مغفرة الله ورحمته، وملخص ما ذكرتهم ونفسي أن نركز على ثلاثة أمور:

الأول: أن نتوجه إلى الله تعالى ونتولاه منيبين إليه مخبتين، ولا نتوجه إلى غيره، فهو ربنا ومولانا، ولا رب لنا سواه ولا مولى غيره، والحمد لله الواحد الصمد، فهو الرجاء لنا والسند، وعليه أرزاقنا وبه فوزنا وفلاحنا، وليس معه بنا حاجة إلى أحد.

والثاني: أن نستغفر ربنا من ذنوبنا كلها ونتوب إليه توبة نصوحا، فإنه يغفر في هذا اليوم ما لا يغفر في غيره، وإذا اعتصم المخلوق من فتن الهوى بخالقه نجَّاه منها.

والثالث: أن ندعوه أن يقبلنا لعبادته وطاعته، ولا يحررنا من عبوديته، فقد رضينا به ربا وإلها، وما أحسن ما دعا به إبراهيم الخليل عليه السلام: "رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي".

تفسير سورة الكوثر:

ودرست لهم في مجلسين من تفسير سورة الكوثر للعلامة الفراهي، وملخص ما شرحت لهم اليوم:

تأويل قوله تعالى: "فصل لربك وانحر" وبيان ربطه بما قبله: هذه الآية تدل على أربعة أمور:

الأول: أن الصلاة والنحر لهما ربط بهذا العطاء لما صدر الأمر بالفاء.

والثاني: أن في الآية أمرا وإيجابا لهما عموما على سبيل الانفراد، وخصوصا بجمعهما، وذلك في الحج.

والثالث: أن بين الصلاة والنحر ربطا خاصا.

والرابع: اختصاصنا بهذه العطية، والأمر بالصلاة والنحر معا.

ويهدي ذلك إلى أننا على سنة إبراهيم عليه السلام دون المشركين ومبتدعي اليهود والنصارى، لأن المشركين لم تكن صلاتهم ونحرهم لربهم خالصا، ومبتدعة اليهود لم يكن لهم غير القرابين، وأن قرابينهم لا تسمى نحرا، فإن النحر مخصوص بالإبل، وهو حرام عليهم، ومبتدعة النصارى ليس لهم قربان أصلا، والصلاة غير واجبة عليهم بزعمهم.

فهذه جملة الكلام، ولا بد لها من بعض التفصيل، ونأتي به في عدة فصول، أما الأمر الأول والثاني فتجدهما في هذه الفصل، وسيأتيك الباقيان فيما بعد.

لما تدبرنا فيما دل عليه نظم الكلام ظهر لنا بعض وجوه ارتباط الصلاة والنحر بهذا العطاء، فنذكرها:

الأول: أن هذا الأمر يتضمن بيان مقصد هذا العطاء، فإن هذا العطاء كان لمقصد عظيم، كما قال تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر"، وكما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بولد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم"، أي يأتون إليهم يحجون بيتك. فعلمنا أن هجرة إبراهيم عليه السلام وسكناه في واد وأرض عاقر لم تكن إلا لإقامة مركز لعبادة الله الواحد يتوجهون نحوه، ويأتون إليه من بعد، ويطوفون ويسعون، ويقدمون إليه الهدايا كالعبيد يسعون على باب مولاهم الذي دعاهم فأسرعوا إليه ملبين، ثم يستمعون إلى ما أمر الرب ونهى عنه على لسان إمامهم، ثم يطعمون الناس بما ساقوا من الهدايا.

والثاني: أنه تعالى عقب ذكر العطية ما به بقاؤها، فأمر بالصلاة والنحر أمرا عاما، فإن هذه العطية كانت للنبي وأمته عامة، فلما ربط عبادة بعطية علمنا أن الامتثال به يضمن بقاء نعمته.

والثالث: أنه يتضمن تسلية النبي والمسلمين، كأنه قيل لهم: إنهم أخرجوك ومنعوك من الصلاة والنحر، فالآن بعد ما أعطيناك الكوثر لا مانع لك، فافعلهما بفراغ قلبك، وبقدر شوقك بإكثار النحر، وبجماعة عظيمة حتى يتحقق معنى الكوثر.

والرابع: أنه بيان عهدنا بالله تعالى، جعل الأمر بالصلاة والنحر مرتبا على عطيته، فإذا قبلنا العطية أوجبنا على أنفسنا ما أمرنا به.

والخامس: أنه بيان عهد التوحيد، وقد صرح القرآن بذلك العهد، وصرح بأدلته كثيرا، وجماعها كونه ربا منعما، وقد أخذنا عطاياه من الخلق وحسن التقويم والرزق الطيب، وههنا ذكر نعمة خاصة، فإن الله تعالى هو الذي أعطانا هذا البيت فلا بد أن تكون الصلاة والنحر له.

لامية ابن الوردي:

ومما شرحت لهم اليوم من أبيات اللامية في مجلسين مختلفين:

وَاهجُـرِ الخْمَـرةَ إنْ كُنتَ فـتىً=كَيفَ يَسعى فـي جُنـونٍ مَنْ عَقَـلْ

واتَّـقِ اللهَ فَتقـوْى اللهِ مَـا=جاورتْ قَلبَ امـريءٍ إلا وَصَـلْ

لَيـسَ مـنْ يَقطعُ طُـرقاً بَطـلاً=إنمـا مـنْ يتَّقِـي اللهَ البَطَـلْ

صـدِّقِ الشَّـرعَ وَلاَ تـركنْ إِلى=رَجلٍ يَـرَّصِـدُ فـي الْلَّيل زُحـلْ

حَـارتِ الأَفْكارُ فـي حِكمةِ مَنْ=قَـدْ هَـدانـا سبْلنـا عـزَّ وجَـلْ

كُتِـبَ المـوتُ على الخَلقِ فكمْ=فَـلَّ مِـن جَيـشٍ وأَفنَى مِـنْ دُوَلْ

أيـنَ نمـُرودُ وَكَنعـان ُ ومَـنْ=مـَلَكَ الأرْضَ وَوَلـىَّ وعَـزَلْ

أَينَ عـادٌ أَيـنَ فِـرعَـونُ وَمَنْ=رَفـعَ الأَهَـرامَ مِـنْ يسمعْ يَخَـلْ

أَيـنَ مَـنْ سَـادوا وشَادوا وبَنَو=هَلَكَ الكُـلُّ و َلـم تُغـنِ القُلَـلْ

أَيـنَ أرْبـابُ الحِجَى أَهْـلُ النُّهى=أَيـنَ أهْـلُ العلـمِ والقـومُ الأوَلْ

سيُعيــدُ اللهُ كُـلاً مِنهـمُ=وَسيَجـزِي فَاعِـلاً مـا قـد فَعَـلْ

أيْ بُنـيَّ اسمـعْ وَصَايَا جَمعَـتْ=حِكمـاً خُصَّـتْ بهـِا خَـيرُ المِللْ

أُطلـبِ العِلـمَ وَلاَ تَكسَـلْ فَمَا=أَبعـَدَ الخْـيرَ عَلى أهـلِ الكَسَـلْ

وَاحتَفِـلْ للفقهِ فـي الـدِّينِ وَلا=تَشَّتغِـلْ عَنـهُ بمِـالٍ وخَـوَلْ

وَاهْجُـرِ النَّـومَ وَحصِّلهُ فمـنْ =يَعـرفِ المْطلُـوْبَ يَحقِـرْ ما بَـذَلْ

الدعاء في عرفات:

والحمد لله على أنه وفقني في عرفات بالتوجه إليه بالعبادة والدعاء، وسألته ما قدر لي مما يهمني في حياتي وبعد مماتي، واستغفرته من ذنبي وسرفي، وإني وإن كنت مستورا لخطاء، وكذلك أشهدت ربي أني قد عفوت عن كل من سبّني وآذاني، ورجوته أن يغفر لهم ولي، وإنه هو الغفور الرحيم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، واغتفر عثار أخيه، وتجاوز عن مكروه أخيه، وهل ثم مطمح لي أكبر من أن يجعلني الله متبعا لآثار عباده المصطفين الأخيار، وأن يجعلني حليما، وللحليم عن العورات إغضاء، والحليم لا يأمن نفسه أن تقتحم به دواعيها المعاصي والآثام فتحول الظلماء بينه وبين النور والهدى، ورحم الله امرءا أنصف من نفسه فقال خيرا أو سكت، وإذا نطق لم يكن هذرا، بل قصد، وخير الناس من قصد.

وكررت تلك الأدعية، متوسما كل مرة أنها قد أجيبت، وهل يقنط من رحمة ربه إلا القوم الضالون الظالمون، وجاء عبد الله بن المبارك إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه، فقال له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ فقال: الذي يظن أن الله لا يغفر له، إنه يوم من كثرة ما يعفو الله فيه عن العباد يظن إبليس أن سيغفر له.

في مزدلفة:

وصلنا إلى مزدلفة الساعة الحادية عشرة، وقد أخذ الناس مضاجعهم، وواجهنا صعوبات في البحث عن مكان نصلي فيه ونضطجع، فتفرقنا، وصلينا منفردين، واستلقى كلٌّ منا وتمدد حيث تيسر له المبيت شاكرين الله تعالى على نعمه وذاكرين له وداعين، واستيقظنا للفجر مبكرين، وتوضأنا وصلينا الفجر واشتغلنا بالذكر والدعاء، وما أسعدنا نحن العباد فمولانا الرب الرحيم، ولا شافع لنا إليه سواه، نشتكي ما بنا إليه ونخشاه، ونرجوه مثل ما نخشاه، اللهم اغفر لي وارحمني واجعلني في عبادك المؤمنين، وتوفني مسلما وألحقني بالصالحين.

اللهم اجعلني من العلماء الصالحين، والقائلين العاملين، فالمرء ليس كاملا في قوله حتى يزين قوله بفعال، ولربما ارتفع الوضيع بفعله، ولربما سفل الرفيع العالي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين