رحلة الحج (18)

يوم الأحد 8 من ذي الحجة سنة 1439هـ

النفير يوم التروية:

كنت قد قررت مع بناتي وبعض أصحابي أن نقصد خيمتنا في منى مشيا على الأقدام صباح يوم التروية، بينما يركب سائر أهل الحملة الحافلة إليها في الليلة متعجلين، فلما أصبحنا للفجر أُخبرنا أن الحافلة لم تأت الفندق بعد وبات أصحابنا منتظرين لها الليل كله، وسألني الشيخان مجاهد علي وناصر ضمير أن نصحبهم إلى منى راكبي الحافلة، فاغتسلت ولبست ثياب الإحرام، وخرجنا معهم.

ويوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، سمي به لأن الناس كانوا يرتوون فيه من الماء في مكة ويخرجون به إلى منى، ويُسن فيه للحاج أن يخرج بعد الفجر إلى منى ويكثر من الدعاء والتلبية، ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.

تحركت الحافلة ببطء شديد لاكتظاظ الشوارع بالمشاة والحافلات، ولم نصل إلى مخيمتنا في منى إلا في الساعة الثامنة تقريبا.

في منى:

مِنى واد تحيط به الجبال، تقع في شرق مكة، وتبعد عن المسجد الحرام نحو ستة كيلومترات تقريباً. ويحدها من الشمال الغربي جمرة العقبة، ومن الجنوب الشرقي وادي محسر، ومن الشمال جبل القويس، ومن الجنوب جبل ثبير، وتقدر مساحة منى حوالي 7.82 كم2، والمستغلة فعلاً 4.8 كم2 فقط، أي ما يعادل 61% من المساحة الشرعية، و39% عبارة عن جبال وعرة ترتفع قممها حوالي 500م فوق مستوى سطح الوادي.

توفر المخيمات سكنا لأكثر من مليونين ونصف مليون حاج، وتم الاعتماد في نسيج الخيام على الأنسجة الزجاجية المغطاة بالتفلون لمقاومتها العالية للاشتعال وعدم انبعاث غازات سامة منها، روعي فيها ملاءمة الشكل المعتمد للطابع الإسلامي، واستعمال أفضل التقنيات الحديثة بالتصنيع والتنفيذ، ويوجد في وسط كل مخيم مجموعة من دورات المياه والمواضئ ومرافق أخرى، وتوزع فيها على الحجاج الأطعمة والأشربة والفواكه بصورة دائمة.

دخلنا في حدود منى فشاهدنا مدينة جديدة كلها خيام وقباب، وكأنها تضاهي نجوم السماء في بياضها وجمالها، تفتن الناظر إليها بروعتها وبهائها وتشابه أشكالها وروائها، وهي متفردة من بين سائر مدن العالم بتلك الخيام والقباب، وبأنها لم تقم إلا لذكر الله عز وجل ذكرا كثيرا، وأسعد ببقعة تتصل بربها هذا الاتصال القوي.

وعند وصولنا إلى مخيمتنا وفر لنا فطور وأشربة وشاي، فتناولناها واضطجعنا مستريحين، واستيقظت حوالي الساعة الحادية عشرة، فاغتسلت وجلست أنتظر الصلاة، وصلينا الظهر في الساعة الثانية، وألقى الشيخ مجاهد علي كلمة، وألقيت كلمة، ذكَّر الشيخ مجاهد الحُجَّاج بالأعمال التي يشتغلون بها وأن يتجنبوا الرفث والفسوق والجدال، وما أخوف على الحجيج أن ينجسوا ساعاتهم بالكذب والغيبة وفضول الكلام، أستغفر الله من ذنبي، وأسأله عيشا هنيئا بأعمال صالحة وأخلاق مطهرة، وحسبي الله مغيث الأنام من مستغاث، وهو رجائي في يوم يأس وقنوط، ولله عاقبة الأمور، فطوبى لمعتبر ذكور، وطوبى لكل مراقب لله وأواب شكور.

كلمتي:

شرحت في كلمتي سر الخروج من مكة المكرمة إلى منى والمبيت بها، ثم التوجه منها إلى عرفات، والإفاضة منها بعد غروب الشمس إلى المشعر الحرام وذكر الله فيه، ثم التوجه منه صباح العاشر إلى منى، ورمي الجمرة الكبرى، والذبح والحلق والطواف، وسبب قطع التلبية عند رمي الجمرة، وأثرت الكلمة في نفوس المستمعين تأثيرا، وسألني الشيخ مجاهد أن أؤلف معاني الحج هذه بتفصيل، فينشرها في كتيب مع الجانب الفقهي والعملي الذي سيؤلفه هو، فوافقت على مقترحه، اللهم تمم لي تقييد هذه الأسرار وكتابتها في أحسن وجه ينفع المؤمنين ويقربهم إليك تقريبا.

تفسير سورة الكوثر:

ودرست لهم من تفسير سورة الكوثر للعلامة الفراهي، وملخص ما شرحت لهم اليوم:

بعد ما فهمنا دلالة كلمة "الكوثر" اتضح لنا معنى الآية الأولى، وهو أنها إخبار عما أعطاه الله تعالى من البركة وكثرة الأمة، وأخبر به حين دنا إنجازه في الدنيا، لكي يبشر النبي صلى الله عليه وسلم ثم المسلمين بظهور الإسلام وانتشاره في البلاد، وبفتح مكة، أي أعطاك الله أمة عظيمة من المصلين المنفقين يحجون بيت الله الحرام.

فبين أن هذا البيت جعل مركزا للتوحيد، والصلاة، وإطعام الفقراء لأمة كثيرة يحجونه من جميع البلاد، وقد كان إبراهيم عليه السلام دعا الله أن يبعث نبيا لهذه الأمة الكثيرة، وقد استجاب الله دعوته، وقد وعده الله كثرة في ذريته، لاسيما في ذريته من إسماعيل.

وقد ذكر الله تعالى هذا العطاء في أوائل بعثة نبينا حيث أخبره في سورة الضحى بقوله: "ولسوف يعطيك ربك فترضى"، فهذا الوعد الذي ذكر اقترابه جعله مقضيا بقوله: "إنا أعطيناك الكوثر"، وفسر معنى "فترضى" بكلمة "الكوثر"، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لغاية رأفته وحرصه على الهداية لا يرضى بالقليل، أو بأن يعطيه الكثير في الدنيا فيدخلون في دين الله أفواجا، ثم يسلبه إياهم في الآخرة حتى يقلوا على حوضه، فأزاح كل شبهة بكلمة "ترضى"، وقد كثرت الأحاديث الصحاح بكثرة أمته.

فهذه الآية الأولى بشارة عظيمة من وجوه: من قرب الفتح، وقرب دخول الناس لبكثيرين في أمته، وبقاء جماعة كثيرة منهم على الدين الحق، على رغم من يزعم بردة أكثر هذه الأمة، (وهم الروافض الذين يزعمون كاذبين أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا كلهم إلا ستة).

لامية ابن الوردي:

وبدأت اليوم في منى بعد العصر تدريس الأخ عبد الحكيم وغيره من أصحابي لامية ابن الوردي، وهي لامية مشهورة، تشتمل على نصائح شرعية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، وآداب وحكم وتجارب يومية، وناظمها هو الفقيه النحوي القاضي المؤرخ زين الدين أبو حفص عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعري البكري، نسبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، المشهور بابن الوردي، من شعراء القرن الثامن الهجري، ولد في معرة النعمان بالشام سنة 689 هـ، اشتهر بالزهد والورع وحسن الخلق وطيب المعشر، وكانت له مهابة في قلوب معاصريه، تولى القضاء في منبج وشيزر وحلب، ثم ما لبث أن ترك ذلك كله وعزل نفسه لمنام رآه، وكتب أبياتاً في ذم القضاء وأهله، ثم اشتغل بالتعليم والتأليف حتى شاع ذكره وطار صيته في البلدان، توفي بالطاعون سنة 947هـ.

ومما شرحت لهم اليوم من أبيات اللامية:

اعتـزلْ ذِكـرَ الأَغَاني والغـَزَلْ=وقُلِ الفَصْـلَ وجانبْ مـَنْ هـَزَلْ

ودَعِ الـذِّكـرَى لأيـامِ الصِّبـا=فَـلأَيـامِ الصِّبـا نجَـمٌ أفَـلْ

إنْ أَهنـا عـِيشـةٍ قَضَّيتُهـا=ذَهبـتْ لـذَّاتُهـا وَالإثـمُ حَـلْ

واتـرُكِ الغـادَةَ لاَ تحفــلْ بهـا=تمُـسِ فـي عِـزٍّ رفيـعٍ وتُجَـلْ

وَافتَكـرْ فـي مُنتهَى حُسنِ الْذَّي=أنْـتَ تهَـواهُ تجـدْ أمـراً جَلَـلْ

إعصار:

وقبل المغرب بقليل هبت ريح شديدة هزت الخيام، وأصابت أبوابها بانكسار بعضها وصدمة لبعضها، وبلغنا أن قوة الرياح أزاحت ستار الكعبة المشرفة وكشفت عنها، وبعث المشهد شيئا من الرعب في قلوب بعض الحجيج، فتوجّهنا إلى الله تعالى بالذكر والدعاء، ونزل مطر قليل، فتحسن الجو من الحار إلى بارد معتدل، وتفاءلت به علامة من القبول من عند ربنا عز وجل.

الشيخ ظهير محمود:

وشرفنا بالزيارة في خيمتنا الشيخ ظهير محمود رئيس معهد الصفة في برمنجهام ببريطانيا وقد ورد حاجا في حملة أخرى من المملكة المتحدة، وهو من العلماء المعروفين والدعاة المقبولين بتلك الديار، فيه تواضع وإخلاص، وهو بعيد عن العصبية وضيق النظر، ومن المواضيع المحببة لديه تعليم الناس من سير الصحابة رضي الله عنهم، وتحدثنا قليلا عن إقامتنا بالأرض المقدسة، وشؤون الإسلام والمسلمين في بلاد الغرب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين