رحلة الحج (17)

يوم السبت 7 من ذي الحجة سنة 1439هـ

المكتبة الأسدية:

زرت الساعة الحادية عشرة صباحا المكتبة الأسدية ومعي الإخوة عبد الحكيم، وسهيل، وعمران، وأشجع، واشترينا بعض ما ابتغينا من الكتب، ومما اشتريته (البيان والتبيين) للجاحظ، و(العمدة) لابن رشيق، و(طوق الحمامة) لابن حزم، و(الأيام)، و(حديث الأربعاء) لطه حسين، و(حياتي) لأحمد أمين، وهي من أحب الكتب إلي وآثرها لدي، ولا يسعني في هذه المذكرات أن أعرفها جميعا، غير أن نفسي تقسرني على أن أتحدث عن كتابين: "حياتي" لأحمد أمين، و"الأيام" لطه حسين، وما أراني إلا مطيعا لها:

(حياتي) لأحمد أمين:

أول ما عرفت مصر الحديثة هو عن طريق كتاب (حياتي) للدكتور أحمد أمين (1304هـ -1373هـ)، المتميز بين أقرانه بالهدوء الطبيعي والحس العلمي والتفكير الموضوعي الدقيق، والمتفرد بأسلوب علمي سهل بليغ بعيد عن التكلف والصناعة والحشو والتعقيد. لما التحقت بدار العلوم لندوة العلماء في السنة الثانية العالية سنة ثمان وتسعين وثلاث مائة وألف وجدت أن (حياتي) مقررة مطالعته على الطلاب في مرحلتنا، فاستعرت الكتاب من المكتبة، وقرأته من أوله إلى آخره أكثر من مرة لأزيد من ثروتي اللغوية، قرأته فأغرمت به، عرض فيه صاحبه لمسيرته العلمية والفكرية مبتدئاً بالبيئة التي ولد فيها ونشأ، قاصًّا مراحله التعليمية من بيته إلى الكتاب إلى الأزهر الشريف وما بعده، حاكيًا للمناصب الوظيفية والرسمية التي تقلّدها، ومتحدّثًا عن زواجه وأسرته وأفراحه وأحزانه، ثم مرحلة الإحالة على المعاش والمرض، مقدمًا للدراسات الفكرية والعلمية التي حققها ونشرها، عابراً أثناء ذلك أجواء التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع المصري، مُتحفًا خلاله بملاحظاته العميقة الدقيقة، وما انتهى إليه من فلسفة في الحياة والأحياء، فهو كتاب يعطي تصورًا كبيرًا عن التحول الفكري والاجتماعي الذي حدث في مصر في ذلك الوقت.

وهو أول كتاب قرأته لكاتب مصري حديث، تعلمت منه الكلمات والعبارات، واللغة والأدب، ومظاهر حياة مصر الاجتماعية في عهد صاحبه، حافلا بالتجارب والخبرات الفردية والأسرية والاجتماعية، ومليئًا بالأنشطة العلمية والأدبية والسياسية، واستعمل لكل هذه الجوانب كلماتها المناسبة لها وعباراتها الملائمة، وكل ذلك في لغة سهلة فصيحة، لا غموض فيها ولا تعقيد، وأسلوب طبيعي ممتع أخّاذ، ونهج سهل ولسان عذْب، مما جعل الكتاب مصدرا أدبيا وكنزا ممتعا لكل طالب وقارئ.

وما أبرع استهلاله لمقدمة الكتاب:

"لم أتهيب شيئًا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب، فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض، أو غيري الموصوف وأنا الواصف، أما في هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض، والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة للتجريد، ثم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه".

(الأيام) لطه حسين:

ثم قرأت وأنا طالب في دار العلوم لندوة العلماء (الأيام) لطه حسين عميد الأدب العربي، وأخذت منه صورة أخرى لحياة مصر الثقافية والاجتماعية تشبه الأولى في أشياء وتخالفها في أمور، فكلا الرجلين ثائر على التقليد، الأول يفضل الهدوء والتأني، والثاني يفضل الصدام والتسرع في الأحكام.

يقصّ طه حسين في هذا الكتاب حياته، وقد قسمه إلى ثلاثة أجزاء، تحدث في الجزء الأول عن طفولته المبكرة، طفولته في بيته وقريته، وشقاوته مع أبيه وشيخه، ثم انتقاله إلى القاهرة والتحاقه بالأزهر الشريف، حيث كان يتجلى كل أمل أبيه أن يراه عالمًا يدرس فيه طلابه، ورد طه حسين إلى الأزهر وفي مخيلته صورة جميلة عن الأزهر وشيوخه وطلابه، يمشي بين صحونه وأعمدته متبخترًا ومتعثرا في أذياله، ثم اضمحلت تلك الصورة وضعف ذلك الإعجاب بالأزهر لما اقتحم القاهرة واحتكّ برجالها، وقضى مرحلة من حياته في الأزهر، وعاش فيه ما عاش ورأى فيه ما رأى. وفي الثاني أكمل حديثه عن دراسته بالأزهر ومن ثم التحاقه بالجامعة، وفي الجزء الأخير أتم حديثه عن الجامعة وابتعاثه إلى فرنسا وحياة الطلب فيها، وزواجه وولوجه عالم الكتابة، وكل ذلك في أسلوب أدبي بارع جميل ودقة متناهية في الوصف ولغة راقية ساحرة. ولكن مما يكدر على القارئ هذه المتعة الأدبية وذلك الجمال الفني أن يرى طه حسين ثائرا على التقاليد والعادات، متبرمًا بمناهج العلم وموضوعاته في الأزهر، ومعجبًا بتطور أوربا الثقافي والحضاري أيما إعجاب، ولعل ذلك يتلخص فيما افتتح به الجزء الثالث:

"كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدها أربعين عامًا، لأنها قد طالت عليه من جميع أقطاره، كأنها الليل المظلم، قد تراكمت فيه السحب القاتمة الثقال، فلم تدع للنور إليه منفذًا، ولم يكن الفتى يضيق بالفقر، ولا بقصر يده عما كان يريد، فقد كان ذلك شيئًا مألوفًا بالقياس إلى طلاب العلم في الأزهر الشريف"

"وكان الفتى يرى من حوله عشرات ومئات يشقون كما يشقى، ويلقون مثل ما يلقى، وتقصر أيديهم عن أقصر ما كانوا يحبون، فقد اطمأنوا إلى ذلك، وألفته نفوسهم، واستيقنوا أن الثراء والسعة وخفض العيش أشياء تعوق عن طلب العلم، وأن الفقر شرط للجد والكد والاجتهاد والتحصيل، وأن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدي بالمال".

"وإنما كان يضيق أشد الضيق بهذا السأم الذي ملأ حياته كلها، وأخذ عليه نفسه من جميع جوانبها".

"حياة مطردة متشابهة لا يجد فيها جديد منذ يبدأ العام الدراسي إلى أن ينقضي، درس التوحيد بعد أن تصلى الفجر، ودرس الفقه بعد أن تشرق الشمس، ودرس في النحو بعد أن يرتفع الضحى، وبعد أن يصيب الفتى شيئًا من طعام غليظ، ودرس في النحو أيضًا بعد أن تصلى الظهر، ثم فراغ فارغ كثيف بعد ذلك يصيب فيه الفتى شيئًا من طعام غليظ مرة أخرى، حتى إذا صليت المغرب راح إلى درس المنطق يسمعه من هذا الشيخ أو ذاك، وهو في كل هذه الدروس يسمع كلامًا معادًا وأحاديث لا تمس قلبه ولا ذوقه، ولا تغذو عقله، ولا تضيف إلى علمه علمًا جديدًا، فقد تربت في نفسه تلك الملكة كما كان الأزهريون يقولون، وأصبح قادرًا على أن يفهم ما يكرره الشيوخ من غير طائل."

كلمتي لأصحابي:

شرحت لهم معنى الملة، وأنها تعني ترجمة الدين إلى حركة وصبغه بصبغتها، فإن الدين سرعان ما يتغير إلى عادات ورسوم، وحينئذ يفقد معنويته وروحه، فإذا ترجم إلى حركة يبقى نشاطه وقوته، وبينت لهم أن هذه الملة قائمة على أربع دعائم:

الأولى: التوفيق بين العقل والفطرة ويسمى رشدا، وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل"، ومن لم يطوِّر التوفيق بين الفطرة والعقل سمي سفيها، قال تعالى: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه".

الثانية: الحنيفية، وهي النظر في ملكوت السموات والأرض ومعرفة أنها من الآفلين، وإعلان التبرئ من حبها وموالاتها، قال إبراهيم عليه السلام لما أفل الكوكب: "لا أحب الآفلين"، والتوجه إلى فاطر السموات والأرض في إخبات وإنابة، قال إبراهيم عليه السلام: "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا".

الثالثة: الإسلام لرب العالمين، "إذ قال له ربه أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين"، وقال: "فلما أسلما وتله للجبين".

والرابعة: عدم الإشراك، أي أن يسلم لله ولا يسلم لغيره.

وللملة شعائر كما أن لكل حركة شعائرها، منها الكعبة، والصفا والمروة، والحج يجمع هذه الشعائر.

تفسير سورة الكوثر:

وملخص ما شرحت لهم من تفسير الإمام الفراهي لسورة الكوثر:

النهر الكوثر صورة لروحانية الكعبة: من تأمل في صفة النهر الكوثر الذي كشف للنبي حين عرج به يجده مثالا روحانيا للكعبة وما حولها، وذلك لما روي من طرق كثيرة من أن الكوثر نهر، على حافته قباب الدر المجوف، وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد، وفيه آنية مثل نجوم السماء، وماؤها أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج، وتربته أطيب من المسك، ترده طيور أعناقها كأعناق الجزر، قال رجل: إنها لناعمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آكلها أنعم منها، وخرير مائه مثل ما يسمع أحدكم إذا أدخل إصبعيه أذنيه، وحصل لنا هذا الوصف بجمع الروايات.

فقف ههنا وتأمل الكعبة وما حولها حين يرد عليها الموحدون من أقطار الأرض يطفئون غليل شوقهم إلى ربهم، أليست حصباء بطحائها عند حسهم الروحاني أكرم وأبهى من الياقوت والزبرجد، وترابها أطيب من المسك، وقباب الحجاج حولها أحسن من الدر؟ ثم تأمل مع ورود الحجاج ورود البدن كالطيور على الماء، وذلك أسعد حال لهن، فإنهن يقربن إلى الله نيابة عن الإنسان، فإنهن يقربن إلى الله نيابة عن الإنسان، فكأنهن من الإنسان، فما أعظم فوزهن! ثم تأمل آكليهن ضيوف الله الناعمين المبتهجين، وتأمل كيف أشار بتشبيه الطيور الواردات بالبدن، وذكر آكليها إلى أن البدن هي الطيور، وكيف جعل الإشارة لطيفة! فشبه أعناق الطيور بأعناق البدن، ليدل الجزء على الكل.

الشيخ عُزير شمس:

وزرت اليوم الأستاذ عُزير شمس، ومعرفتي به تعود إلى نحو عقدين من الزمان، وصحبني في هذه الزيارة الإخوة عبد الحكيم وعبد العظيم وعمران نويد، واستمتعنا بصحبته، واستفسرناه عن أحدث بحوثه وتحقيقاته، فنبهنا إلى تحقيقه مشاركة مع غيره لكتاب (زاد المعاد)، وقد مضى التعريف به.

وهو الشيخ محمد عزيز بن شمس الحق بن رضا الله، ولد سنة 1957م في ولاية بنغال الغربية في الهند، تخرج من الجامعة السلفية في مدينة بنارس سنة 1976م، ومن الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية كلية اللغة العربية سنة 1401ه، وحصل على شهادة الماجستير من جامعة أم القرى سنة 1406هـ، وعنوان رسالته في الدكتوراة ( الشعر العربي في الهند – دراسة نقدية )، ومن شيوخه أبوه الشيخ شمس الحق السلفي ت (1406هـ) درس عليه الموطأ والبخاري وكتبا أخرى كثيرة، والشيخ محمد رئيس الندوي، وعبدالسلام الرحماني، وصفي الرحمن المباركفوري، وشيخنا عبدالنورالندوي، وآخرون، وله من المؤلفات : حياة المحدث شمس الحق وآثاره، وأعلام أهل الحديث في الهند (بالأردية) غير مطبوع، ورسالة في حكم السبحة (بالأردية)، ومؤلفات الإمام ابن قيم الجوزية، وله من التحقيقات: رفع الالتباس عن بعض الناس للعظيم آبادي، وغاية المقصود شرح سنن أبي داود ، للعظيم آبادي، ومجموعة فتاوى الشيخ شمس الحق العظيم آبادي، وردّ الإشراك، لإسماعيل بن عبد الغني الدهلوي، وتاريخ وفاة الشيوخ الذين أدركهم البغوي ، لأبي القاسم البغوي، وجزء في استدراك أم المؤمنين عائشة على الصحابة، لأبي منصور البغدادي، وروائع التراث ( عشر رسائل نادرة في فنون مختلفة)، وتقييد المهمل وتمييز المشكل ، لأبي علي الجياني (بالاشتراك)، وقاعدة في الاستحسان ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، وجامع المسائل (5 مجلدات) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأشياء أخرى كثيرة.

والشيخ عزير محقق شهير، بلوت ضرائبه من المحققين، فقلما رأيت له ضريبا، نال من الفضل حظا ومن المجد نصيبا، وهو أستاذ أرهاط متعاقبة من المحققين، وشيخ جماعات متتابعة من الباحثين، يزينه صالح الأخلاق، والتواضع والكرم، نفع الله به.

زيارة الندويين:

ثم خرجنا مع الشيخ عزير لزيارة الندويين القادمين للحج كضيوف لخادم الحرمين الشريفين مقيمين في فندق الدار البيضاء، فلما وافيناه لقينا به الشيخ أبو سحبان روح القدس الندوي، ومحمد فرحان فرمان النيبالي الندوي ومن معهم، وتحدثنا عن رحلتهم وكيف قضوا أيامهم، فأعربوا عن فرحهم وانبساطهم، وتجددت لي في صحبتهم ذكريات دارنا الحبيبة وشيوخها الأعلام:

الدكتور أبو سحبان روح القدس الندوي، ولد بمدينة مونكير، بولاية بهار، الهند سنة 1954م، وحصل على شهادة العالمية من دار العلوم لندوة العلماء سنة 1972م، وشهادة الليسانس في الدعوة وأصول الدين من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1979م، والدكتوراة من جامعة لكنؤ سنة 2014م، وهو أستاذ الحديث وعلومه بدار العلوم لندوة العلماء، وله من المؤلفات: (روائع الأعلاق شرح تهذيب الأخلاق)، و(تخريج الحديث مفهومه وطريقته وأشهر المؤلفات فيه)، و(فصل الخطاب في تفسير ثلاث سور من الكتاب (الأعراف ويونس وهود)، و(أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية)، ومجموعة بحوث ومقالات.

والشيخ معنيّ بالبحث والتحقيق، ذو عزم ماض ورأي سديد، وثابت على طريقته مستقيم، وحدثني عن بعض تحقيقاته لاسيما كتابه الأخير (بحوث ومقالات)، وهو مجموع بحوث له ومقالات كتبت في مناسبات شتى ونشرت في بعض المجلات.

والدكتور محمد فرمان بن ماجد علي النيبالي الندوي، ولد سنة 1982م، وحاز على شهادة العالمية من دار العلوم لندوة العلماء سنة 2000م، وشهادة الفضيلة منها سنة 2002م، وشهادة الدكتوراة في الأدب العربي من جامعة لكنؤ سنة 2017م، وهو أستاذ العلوم الإسلامية والأدب العربي في دار العلوم لندوة العلماء، ومساعد تحرير مجلة البعث الإسلامي الصادرة منها، وله بحوث ومقالات ومؤلفات وتعريب لكتب.

وهو من خيرة شباب أساتذة دار العلوم علما وأدبا، وتدريسا وكتابة، بارك الله فيه ونفع به العباد والبلاد، ورفعه إلى نيل المعالي والسداد.

التسوق مع بناتي:

رجعت إلى الفندق الساعة الثامنة والنصف، وسألت فاطمة عن حالها، فذكرت أنها تحسنت، والحمد لله، فخرجت مع بناتي بعد العشاء وتجولنا في المحال القريبة من الفندق، وقضينا حوائجنا، وقررنا أن نذهب إلى منى بعد الفجر مشيًا على الأقدام إن شاء الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين