رحلة الحج (16)

يوم الجمعة 6 من ذي الحجة سنة 1439هـ

وفاة الشيخ جاويد إقبال:

نعى إلي اليوم الأخ حذيفة الندوي خالَه أخانا الكريم جاويد إقبال الندوي، إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر له ورحمه وجعل الجنة مثواه وألهم ذويه الصبر والسلوان، وقد كان من معاصري في دار العلوم لندوة العلماء أيام الطلب، متوثقة بيني وبينه أسباب المودة والصداقة، رافعَين حجب التكلف والمصانعة، ومتناصحَين متعاونيَن، ودعاني إلى بيته بمناسبة زواج أخته والدة حذيفة، والذي عقده شيخنا العلامة الإمام أبو الحسن علي الندوي رحمه الله وألقى كلمة توجيهية مؤثرة عن معنى النكاح في الإسلام، وأخونا جاويد إقبال عمل مدرسًا في دار العلوم منذ فترة طويلة، وكان صالحا متحليا بأخلاق طيبة، محببا إلى زملائه وتلاميذه، سليم اللسان واليد، نقي الصدر والطوية، غير باغ لأحد أذى وشرا، ولا قائل فحشا وهجرا.

وجع فاطمة:

لعل طعام الفندق لم يوافق بنتي فاطمة فأصيبت بوجع في بطنها، واشتد الوجع فجزعت وبكت وعلا نحيبها، فأهمني أمرها، ولا سيما ونحن في القرب من أيام الحج، فدعوت الله أن يشفيها، وأخبرت الأخ ناصر ضمير فجاء بأحد الإخوة من الحملة وهو طبيب حاذق، ووصف لها دواء، ، ولكن وجعها لم ينقطع، شفاها الله وعافاها.

صلاة الجمعة:

كنت قد عزمت مع بناتي على أن نبكر إلى الحرم الشريف ونصلي فيه الجمعة ونطوف ونصلي العصر ثم نعود، فسألت فاطمة في الصباح عن علتها، فقالت: الألم دائم غير مخفف، بيد أنها ترغب أن تصحبنا إلى الحرم الشريف، فإنها أكثرنا حرصًا على الصلاة فيه والطواف وأشدنا احتمالا للمشاق وصبرا على المكاره، ولكني وجدت ضعفا في عزيمتي خوفا من أن يشتد وجعها فتتفاقم مشكلتنا أيام الحج، وصليت في مسجد قريب من فندقنا.

دخلت المسجد مبكرا وصليت ركعتين، وقرأت سورة الكهف متدبرا لآياتها ومتعقلا لمعانيها، ومستحضرا لرحمة الله بنا ونعمه الموصولة علينا في غير انقطاع، وشعرت بنفحات إيمانية عجيبة، دونها متع الدنيا ولذائذها، وأزيح لي الستار عن علم الله وقدرته مكشوفا لي أن الأمر كله بيد الله، وأن أقوال الأنام وأفعاله لا تخلق ذرة ولا تحدث مادة، ولا تقدم شيئا ولا تؤخره، فكل ما نشاهد في الكون كله من حركة ونشاط ومن حياة وقوة مفطور بقوله "كن"، فما أضعف العالمين وما أعجزهم، وما أتفه الأسباب وما أوهاها، وحق للخلق الذل والاستكانة.

وألقى الخطيب كلمته عن الحج ومعانيه، وقصة إبراهيم عليه السلام وصلته بمكة المكرمة، ومعنى الإسلام لله تعالى وإطاعته، وعلَّم الناس شعائر الحج.

تفسير سورة الكوثر:

رجح الفراهي أن الكوثر في هذا السورة ليس اسما لحوض الموقف أو نهر الجنة، بل الكوثر معناه الخير الكثير، والحوض والنهر من ذلك الخير الكثير، ومما استدل به على مذهبه الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي بشر وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن جبير: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه، فالكوثر معناه عام، وفي هذه السورة أطلق على الكعبة.

اللوامع الدالة على أن الكوثر هو الكعبة وما حولها: وذكر الفراهي عشر لوامع دالة على أن الكوثر هنا الكعبة، وقد قال تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين"، وجعل الله لهذا البيت من البركة ما عم فيضه جميع العرب بل جميع العالم، كما وعد إبراهيم عليه السلام، ولا شك أن كل هذه البركات من هذا البيت، ومن الصلاة والنحر.

كلمتي أمام أصحابي:

حدثتهم اليوم عن معنى الإيمان والإسلام، وأن الإيمان فطري عقلي، وأن الإسلام بالقلب، وطاعات الجوارح تصديق لهذا الإيمان والإسلام، وأن الإسلام إذا خلا من الإيمان كان عادة ورسما، فالإيمان هو الذي يعطي الأعمال وزنا وقيمة ويرفعها إلى مكانة الدين والعبادة.

زيارة معالم منى:

لا تزال فاطمة شديدا بها الوجع في بطنها مرهقا لها من من غير هدوء ولا فرج، فتركت عائشة عند فاطمة تقوم عليها راعية مساعدة، وخرجت أنا وسمية مع بعض أصحابنا لزيارة معالم منى حتى نطلع على مواقعها قبل أن نوافيها بائتين بها بياتا، فيسهل علينا رمي الجمرات والمضي من الطرقات ضابطين لها.

مشينا من فندقنا الواقع في شمال العزيزية قرب الجمرات ونحن أكثر من خمسين شخصا، ودخلنا خلال دقائق في حدود منى، ليس بها إلا شرط تتدرب استعدادا لأيام منى، وإلا زمر من الناس يتبعون آثارها اتباعنا لها، ومررنا بمسجد العقبة التي لقي فيها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بعامين رجالا ونساء من أوس والخزرج فشرح لهم الإسلام، وبايعوه، ثم حضره في العام المقبل عدد أكبر وبايعوه، ويطلق عليه أيضًا مسجد البيعة، بناه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور سنة 144هـ في موضع البيعة، ويتكون المسجد من ساحة مكشوفة تقدمها مظلة، ويقع أسفل وادي منى، على بعد 300 متر من جمرة العقبة على يمين الجسر.

ومررنا بالجمرات: الكبرى، والوسطى، والصغرى متفهمين مواقعها والطرق المؤدية إليها، وقد تغيرت هيئتها عما كانت عليه قبل سنين في حجتي السابقة، إذ كانت مكشوفة من كل جانب، فيتزاحم عليها الرماة من دون نظام، ولا يدرى عدد القتلى بها والجرحى، وكنت أتوسم من وجوه الناس خوفهم من الرمي وقصد الجمرات، والآن تطورت منازلها وصارت لها أدوار مختلفة ذات سلالم كهربائية، تنظم الشرطة مداخلها ومخارجها، الأمر الذي قلل من الحوادث بمنى تقليلا.

ثم دخلنا مسجد الخيف، وصلينا فيه المغرب، وهو مسجد كبير جدا، وسمي الخيف نسبة إلى ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء، يقع في خيف بني كنانة في سفح جبل منى الجنوبي بالقرب من الجمرة الصغرى، وقد تمت توسعته وإعادة عمارته في سنة 1407هـ تم فيه بناء أربع منائر، وزود بأربعمئة وعشرة وحدات تكييف، وألف ومئة مروحة، وأنشئ خلف المسجد أكثر من ألف دورة مياه وثلاثة آلاف صنبور للوضوء.

رجعنا منه ماشين ووصلنا إلى الفندق حوالي الساعة الثامنة.

الدكتور ياسر نديم الواجدي:

صليت العشاء في مسجد الشهداء حيث التقيت بالعالم الداعية الشاب الدكتور ياسر نديم الواجدي المقيم في شيكاغو، وهو مدير دار العلوم عبر الانترنت، ومدرس الحديث النبوي الشريف والإفتاء في معهد التعليم الإسلامي بشيكاغو، تخرج من دار العلوم بديوبند سنة 2001، ثم تخصص بها في اللغة العربية والإفتاء، وحاز على شهادة الدكتوراة في موضوع العلوم النبوية من الجامعة الإسلامية الدولية بماليزيا سنة 2012، وهو مؤلف الكتاب الذائع الصيت "الإسلام والعولمة"، و"القاموس العصري"، و"تاريخ تجديد الدين".

وتصلني به وشائج مختلفة، فهو صهر أخينا الكريم الشيخ كمال أحمد الندوي الإله آبادي، وزوج بنت حفيدة العالم الرباني الشاه وصي الله الفتحفوري أكبر خلفاء حكيم الأمة أشرف علي التانوي رحمهما الله تعالى، وله قرابة في بيت شيخنا الجليل محمد سالم القاسمي رحمه الله تعالى، واشتهر الدكتور ياسر نديم بمناظراته مع العلماء الهندوس والتي أعادت إلى كثير من المسلمين ثقتهم بدينهم، ويعنى بتقديم علوم الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله تعالى ومعارفه في لغة سهلة وأسلوب عصري جاذب، وله مقالات فكرية ودعوية.

كنا حريصين على التلاقي منذ فترة فلم يتيسر إلا مؤخرا في حجتنا هذه، وقضينا نحو ساعة تعارفنا فيها وازداد كل واحد منا اطلاعا على اهتمامات صاحبه، وهو شاب ذكي نشيط ذو أخلاق فاضلة معني بقضايا الإسلام والمسلمين، أدعو الله تعالى أن يبارك في علمه وعمله وأن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين.

الأخ عمر رنجون والا:

زارني في الساعة التاسعة والنصف الشاب الصالح العالم الأخ عمر رنجون والا، وهو من تلاميذي المخلصين من كاليفورنيا في الولايات المتحدة، وقد جلس هذا العام لامتحان العالمية في معهد السلام، وبيته كله مهتم بالدين والصلاح، وزرت كاليفورنيا مرتين، فأقمت في بيته وكأني في داري وبين أهلي ومالي، ورعاني هو وأهل بيته أوفى رعاية.

ورد حاجا مع أمه برا بها في حملة من حملات حجاج أمريكا يقودها الشيخ نعمان بيك والشيخ فرحان الزبيري من دار العلم بكاليفورنيا.

ملتقى الدعاة:

ودعاني الليلة الشيخ باسم بن عبد الغني منشاوي، مدير المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات، لحضور ملتقى للدعاة من أنحاء العالم في قاعة للندوات العلمية قرب بيته في أجياد، حضرته مع الشيخ مجاهد علي والأخ عمر رنجون والا، ووصلنا إلى قاعة المؤتمر في الساعة العاشرة والنصف، فإذا فيه عدد كبير من العلماء والدعاة نحو مائة شخص أو أكثر، ومنهم فضيلة الشيخ فيصل الغزاوي إمام المسجد الحرام وخطيبه، ألقى فيه الدعاة كلمات لهم عن أنشطتهم الدعوية ومساعيهم االتعليمية والإصلاحية، وألقيت كلمة عن الردة الفكرية التي يتعرض لها الشباب المثقفون في الغرب، وهي ظاهرة قلما يتحدث الناس عنها، فاستلفت الأنظار إلى أن فتن اليوم ليست تلك المسائل العقدية والكلامية التي يناقشها الأشاعرة والماتريدية والحنابلة، وتلك الجدليات التي يتلاهى بها بل يتفكه بها المنظرون والمجادلون، بل هنا أسئلة علمية وفكرية وفلسفية مستحدثة تشغل عقول المثقفين، وتتعلق كثير منها بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ الإسلام ومكانة المرأة في الإسلام، ثم تحدثت عن كتابي (الوفاء في أسماء النساء)، ونالت الكلمة إعجاب المستعمين.

وفي ختام الحفل شارك الحضور في مائدة عشاء فخمة يتحدثون فيها حول مواضيع شتى ويتعرف بعضهم على بعض.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين