الإسلام بلا مبشر

الشيخ: جميل العقاد


خرجت من القاهرة ابتغاء الراحة من عناء الدروس، وكان ذهابي إلى عرب العيايدة المخيمين بحاجر غمازه الصغرى التابعة لمركز الصف بمديرية الجيزة. بدعوة من شيخهم المحترم سعد أبو سليمان سلامه، وبعد أن استقر بي المقام عند ذلك الشيخ الوقور طلب إلي أن أعظ العرب الذين يجتمعون في دار ضيافته بعد انصرافهم من مزارعهم، فلبيت طلبه وافتتحت المقال شارحاً حكمة الصلاة والوضوء وما ينجم عنهما من قوة في الجسم وبسطة ونشاط في الدماغ وخير عاجل وثواب آجل.
إلى غير ذلك مما كانت به عماد الدين. ثم استطردت واصفاً ما وصلنا إليه من تأخر وتدهور وانحطاط في الأخلاق. فحصرت ذلك بأخذنا عن الغرب سفاسف الأمور المنحطة. وأخذ الغرب عن ديننا كل حكمة بالغة وحزم وجد. فمن ذلك قول الفيلسوف توماس كارليل في كتابه: "الأبطال" مادحاً دين الإسلام: لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة فابتلعها وحق له أن يبتلعها لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة. وما كاد الإسلام يظهر حتى احترقت فيه جدليات النصرانية، ووثنيات العرب وكل ما لم يكن بحق فإنه حطب ميت أكلته نار الإسلام فذ هب والنار لم تذهب.
وقد وافقه في هذه النظرية المفكرون من فلاسفة العالم، وجدوا الإسلام يأمرنا بالصلاة والزكاة والحج وبقية أركان الإسلام فوجدوها مطابقة لمقتضى الفطرة والعقل كل المطابقة تتمشى مع كل عصر لكل ذي لب سليم. صالحة للعمل بها في كل قطر. فعقدوا النية على اجتناء ثماره اليانعة ومن هنا نشأت عنايتهم بكثير من الأمور التي هي من محاسن حضارتهم وهي مقتبسة من مبادئ وقواعد قررها الإسلام ودعا إليها، فعملوا بها بتغيير في أسمائها واعتناء بمسمياتها، وهكذا انتهى الدور والتسليم.
وما كدت أنتهي من البحث حتى قام إلي شاب مسيحي اسمه (جندي) من بلدة العطف وابتدرني قائلاً إنه يريد الدخول في الدين الإسلامي طائعاً مختاراً فأقبلت بوجهي عليه ولقنته كلمة الشهادة وقواعد التوحيد ونظم الدين، بعد أن قلت له: إن دخولك في دين الإسلام لا يزيد عدد المسلمين كما أن خروجك من الديانة المسيحية لا ينقص عددهم، فأريد منك الثبات، فأجابني أنه لو قطع أرباً ما تحول عن عزمه، وأنه مغتبط بالهداية المحمدية أعظم اغتباط، وقد سميته (محمد جندي) وحسن إسلامه وقوي يقينه.
وكان ذلك في الخامس والعشرين من شعبان سنة 1346 وأخذ يقيم الصلاة في أوقاتها حتى جاء رمضان فصام إيماناً واحتساباً.
ولما اتصل خبره بأهله وذويه أقاموا له مأتماً زعماً منهم أنه أصبح في عداد الموتى. ثم هيأ لهم شيطانهم أن يحضروه بحيلة ويقتلوه، وما كاد يستقر المقام به عندهم حتى أخذ الضرب ينهال عليه من غير شفقة ولا رحمة حتى غشي عليه، عند ذلك أمرهم القس بالكف عنه. فلما أفاق من سكرته قدموا له طعاماً قد دبر بليل ووضع فيه السم الزعاف وكلفوه بأكله، فما كان من أخيه إلا أن أشار إليه من طرف خفي أن الطعام مسموم، عند ذلك أيقن بالهلاك فأخذ يستغيث بمن جاءهم من المسلمين فأسرعوا إليه وانتشلوه من بين ماضغي الموت، وهو على حالة تسوء رائيها.
وما كاد يشعر بالنجاة حتى طلب من إخوانه المسلمين حمله إلينا، فلما رأيته خاطبت نفسي قائلاً: أين حرية الأديان، وما معنى هذه الكلمة ؟ وأين مفعولها ؟ بل أين مدلولها في الخارج؟ وإذا كان هذا يجري في بلاد  أكثريتها الساحقة إسلامية فما بالك بغيرها؟
ولما عاد محمد جندي إلينا ذهبت به إلى مركز الصف فقدم طلباً رسمياً للدخول بالإسلام وأخذت أوراقه تسير سيراً بطيئاً وقد يعرض من يعطلها عن سيرها الطبيعي كما جرى ذلك في السنة الماضية حيث أرشدت عائلة ألمانية إلى الإسلام، وأخذت أدربها على أحكامه إلى الحج، فدعت الحال حينئذ إلى إخراج شهادة شرعية تثبت إسلامهم ليتسنى الذهاب إلى الحج، ويعلم الله كم لاقيت في سبيل ذلك من العقبات؟ وكم أضعت من دروس حتى أن العائلة الألمانية ملت وقاربت أن تترك الذهاب إلى الحج.
فانظر يا رعاك الله البون الشاسع بين هذه العقبات في سبيل الهداية الإسلامية، وبين سماح الحكومة للمبشرين بركوب القطار مجاناً إلى أي جهة شاءوا وشاء لهم كيدهم للإسلام. فإلى الله المشتكى.


محمد جميل العقاد الحلبي
برواق الشام بالأزهر
مجلة الفتح ، العدد 97 سنة 1346هـ ـ 1928م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين