رحلة الحج (15)

يوم الخميس 5 من ذي الحجة سنة 1439هـ

 

استيقظنا في الصباح وصلينا الفجر في مصلى الفندق نائين عن المسجد الحرام، ومتسبثين بأدنى معول أن الثواب الذي نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في المسجد الحرام يشمل الصلاة في أي مكان داخل حدود مكة التي بارك الله فيها وفضلها على سائر مدن الأرض وقراها.

نقاش علمي على مائدة الفطور:

وجلست مع الشيخين مجاهد علي وناصر ضمير والأخ عبد الحكيم على مائدة الفطور، وتحدثنا عما كتبت بالأمس عن ناقدي صحيح البخاري وأنهم على نوعين، فالنوع الثاني يعتقد أنه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى ثم يعمد إلى أحاديث منه فإما يراها دون مستوى الكتاب أو يؤولها تأويلا قريبا أو بعيدا، ومحتملا أو غير محتمل، وما عدد هذا النوع من العلماء بالنزر اليسير قديما وحديثا، فلا يجوز أن يعاملوا معاملة المنكرين للحديث أو الطاعنين في الصحيح، بل ينبغي أن يبين لهم وجه خطأهم بيانا علميا في رفق وأدب.

وناقشنا أمر الغلاة المتشددين من الحنفية والمالكية والسلفيين، الذين يسيؤون الظن بغيرهم من المسلمين، ويرون الخروج من شيء من آرائهم ومذاهبهم بل وأولوياتهم وترجيحاتهم مروقا من الدين وكفرا وفسقا وابتداعا، وحكيت لهم ما قرأتُ البارحة من كلام رائع لأخينا العالم الصالح أحمد عاشور عن أمثال هؤلاء "أنهم لا يرون لإنسان حقا إلا أن يكون نسخة منهم وأن من خالفهم في أي شيء انسلخ من الحقوق وتجرد من الحرمة، فهولاء لا يؤتمنون على دين ولا عرض ولا نفس ولا شيء قط، أعوذ بالله تعالى وأسمائه وكلماته منهم ومن حالهم".

درس في تفسير سورة الكوثر:

وبدأت اليوم تدريس تفسير سورة الكوثر للإمام الفراهي، وملخص ما درستهم:

عمود السورة وربطها بما قبلها وبما بعدها: قد مر في تفسير السورة السابقة أنها نزلت في ذكر الذين كبرت خيانتهم في ولاية الكعبة، لما أنهم أفسدوا الحج ومناسكها وأبطلوا حقيقة الصلاة والنحر بإبطال التوحيد ومواساة المساكين، فباؤوا بالويل واللعنة، وحق لهم أن يسلبهم الله هذا الخير ويعطيه من استحقه حسب سنته، كما قال: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" (سورة محمد 38)، وكأن الله تعالى ينزع ولاية الكعبة من الخائنين، فبهذه السورة بشر الله تعالى نبيه بأنه اصطفاه وأمته لولاية بيته المحرم، ومسكن خليله وذريته التي يبارك بها الأمم، ولا شك أن هذا العطاء هو الفوز الأكبر والخير الكوثر، ولما كانت السورة التالية في إعلان الهجرة من جوار بيته حسن في نظم الكلام تقديم سورة التبشير والتسلية.

تفسير كلمة كوثر وتأويلها: ذكر ابن جرير في تأويل الكوثر ثلاثة أقوال: الأول أنه نهر في الجنة، والثاني أنه الخير الكثير، والثالث أنه حوض في الجنة، ثم روى عن عكرمة الذي قال إنه الخير الكثير أيضًا أنه النبوة، وفي رواية أنه القرآن، وأنه الحكمة، وأنه الإسلام.

كلمة لي أمام أصحابي:

ألقيت أمامهم اليوم كلمة في بيان معنى ملة إبراهيم، وأن أساسها الرشد والفكر والنظر، ومهَّدتُها بالكشف عن معنى الدين أنه طريق إطاعة الله تعالى، وعن معنى الشريعة أنها تفاصيل الدين التي شرعها الله لعباده، وأن الشريعة تعم الدين كله ولا تختص بالحدود والقوانين.

وصية الشيخ مجد مكي:

وأوصاني شيخنا الكريم مجد بن أحمد مكي أن أقابل العالم المحدث الشريف نبيل الغمري، والصلة بينهما قديمة إذ سافر معه إلى المدينة المنورة صحبة شيخهما عبد الله بن الصديق الغماري، ووصفه الشيخ مجد بأنه جامع للقراءات، وشارح سنن الدارمي في عشر مجلدات، وله ثبت وأسانيد عالية، فكلمتُ في ذلك أخانا معنًا الدباغ ونسق لي اللقاء معه بعد العصر.

وأغتنم هذه المناسبة لترجمة شيخنا مجد بن أحمد مكي فقد حرص على لقائي العلماء في زيارتي هذه كما ساعدني قديما في مكة المكرمة وجدة على مقابلة الشيوخ والسماع عليهم والاستجازة منهم.

وهو الشيخ المسند المفسر المحدث الفقيه مجد بن أحمد مكي، ولد في شهر رمضان سنة 1376هـ، ويروي عن شيخنا عبد الفتاح أبو عدة رحمه الله، والشيخ حسنين محمد مخلوف، والسيد عبدالله بن الصديق الغماري، والسيد عبد العزيز بن الصديق الغماري، والسيد أحمد مشهور الحداد الباعلوي، وشيخنا السيد عبد القادر السقاف، والسيد أبي بكر عطاس الحبشي، والشيخ عبد الله بن سعيد اللحجي، والشيخ محمد ياسين الفاداني، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ إسماعيل الأنصاري، والشيخ زكي إبراهيم وغيرهم، وألف التفسير المعين، وجمع فتاوى الشيخ مصطفى الزرقاء، واعتنى بنشر مقالات مؤرخ حلب العلامة الشيخ راغب الطباخ وغيره من العلماء، وله أعمال تحقيقية وتأليفية قيمة أخرى.

كتب إلي بإجازته في غرة رمضان سنة تسع عشرة وأربع مائة وألف، ولقيته في مكة المكرمة يوم السبت السابع من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف بعد صلاة العصر، واصطحبني إلى الشيخ عبد الفتاح راوة، وسمعت منه الحديث المسلسل بالأولية يرويه عن عبد الله بن محمد الصديق الغماري، وأخيه عبد العزيز، والشيخ محمد ياسين الفاداني، والشيخ محمد الشاذلي النيفر، والشيخ مصطفى الزرقاء (وهو يرويه عن المحدث الأكبر بدر الدين الحسني وعبد الحي الكتاني)، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد القادر بن كرامة الله البخاري، وسمع مني كذلك حديث الأولية، وقد ساعدني في رحلتي تلك كثيرا في مقابلة الشيوخ، فجزاه الله تعالى خيرًا.

وزرته في التاسع والعشرين من شعبان سنة ثمان وعشرين وأربع مائة وألف في منزله بجدة مع بنتي حسنى وسمية حيث سمعنا عليه المسلسل بالأولية و(جياد المسلسلات) للسيوطي بتحقيقه كاملا، وشيئًا من تفسيره (المعين). وفي منزله سمعت بنتاي المسلسل بالأولية من الأخ سلمان أبو غدة، وأجاز في استدعاء أحمد عاشور لجميع من ذكر فيه وآبائهم وإخوتهم وأزواجهم وذرياتهم في الثامن عشر (فاتني الشهر) سنة أربع وعشرين وأربعمائة وألف، ولقيته مرارا في مكة وجدة والدوحة وتركيا، وقد شجعني بنشر مقالاتي في موقع رابطة العلماء السوريين، جزاه الله خيرا.

عهدته عالما محققا متثبتا، ناصحا شفوقا، طارحا التكلف، قليل الخلاف مع الإخوان، مبرزا لنعوتهم ومحاسنهم، ساترا لعيوبهم ومقابحهم، متوددا إليهم، سخيا كريما، مهتما بقضايا المسلمين، ومتألما لأوضاعهم، وساعيا لإصلاح شؤونهم وباذلا جهده في تحسين أمورهم، تلقاه في مؤتمر أو منتدى فتجده يعرِّفك بالعلماء والشيوخ، ويربطك بالعاملين في مجالك، وكأنه همزة وصل بينك وبين الناس، ولم أر في ملتقى أكثر منه نشاطا وحركة، وإني حينما أكتب هذه السطور لا أتخيله إلا امرءا حافلا بالحيوية والقوة ومتنقلا من ناحية إلى أخرى، كأن بينه وبين السكون عداء، وكأنه يأبى القعود والاستجمام إباء، رفعه الله مقاما وزاده شرفا وعلوا.

زيارة السيد نبيل الغمري:

وزرت اليوم مع بناتي وأصحابي فضيلة الشيخ نبيل بن هاشم الغمري، وسمعنا المسلسل بالأولية من لفظه، وسمعنا عليه الأوائل السنبلية من البداية إلى حديث مسند الإمام الشافعي أكثرها بقراءة الشيخ مجاهد علي، وشرح لنا بعض الأخبار إسنادا ومتنا، وأجاز لنا جميعا إجازة عامة، وأجاز أيضًا لأولادي، وتلاميذي، ولجميع من في استدعائي البريطاني، وأهدى إلي بعض مؤلفاته، وهو شيخ وقور معني بالإقراء والتحديث، وله كلام جيد في الحديث وعلومه، وقد قام بتحقيق الخصائص الكبرى للسيوطي مع إيراد أسانيد أحاديثها وآثارها والحكم عليها، ولقد أنصف إذ قال إن السيوطي حاطب ليل، وما ذلك إلا لنهمه بالجمع والاستكثار دون البحث والتنقيب.

وهو السيد العلامة المحدث المسند أبو عاصم نبيل بن هاشم بن عبد الله بن أحمد الغمري، ولد في مكة المكرمة سنة 1380هـ، وتخرج من ثانوية مكة المكرمة عام 1398هـ، وتردد قبل تخرجه من الثانوية على الفقيه القاضي أبي البركات، وأبي علي الشيخ حسن مشاط فكان أول سماعه منه سنة 1396هــ، قرأ عليه سفينة النجاة في فقه الشافعية، وبلوغ المرام في أحاديث الأحكام، ورياض الصاحين، والأذكار، وأجازه إجازة عامة، واتصل بعد وفاته بشيخنا السيد العلامة محمد بن علوي المالكي فلازمه وسمع منه كتباً كثيرة لا تحصى، وقرأ على المشايخ كالحبيب عبد القادر بن أحمد السقاف خصه بقراءة زبد ابن رسلان عليه، وسمع منه كتباً كثيرة بحضوره وقراءة غيره على الحبيب، وأجازه بكتب السادة العلوية في الطريق والتصوف، وكتب له إجازة على مؤلفات وأسانيد الحبيب عيدروس بن عمر الحبشي، ولازم العلامة الفقيه الشيخ أحمد بن جابر جبران لأكثر من عشر سنين، وقرأ عليه كتباً كثيرة، منها قطر الندى، وفتح الإله، ومناسك ابن عبد البر الونائي، والإيضاح للنووي، وغير ذلك، وأجازه عامة عن مشايخه، وقرأ على السيد أحمد الرقيمي شرح البجيرمي على الخطيب في الفقه الشافعي وصحبه مدة، ولازمه ثلاث سنوات حتى إن السيد الرقيمي حفظ عليه عشرة أجزاء من القرآن الكريم، وقرأ الآجرومية على العلامة المعمر الشيخ عبد الله دردوم النحو، وأجازه عامة، ولازم شيخ الإقراء بفاس الحافظ مقرئ الديار المغربية، الإمام العارف بالله المعمر المكي ابن عبد السلام بن كيران، لازمه ملازمة حقيقية ثلاث عشرة سنة وكان ممن اختص به، قرأ عليه القرآن بالقراءات السبع بالروايتين، أفرد كل قراءة بعدة ختمات، وأذن له بكتابة أسانيده، وحظي منه بإجازة مطولة.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين