رحلة الحج (14)

يوم الأربعاء 4 من ذي الحجة سنة 1439هـ

وفاة الشيخ أبي بكر الجزائري:

نعى إلي الشيخ مجاهد علي قبل الفجر العالمَ الكبير الشيخ أبا بكر الجزائري، توفي عن سبع وتسعين سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله مغفرة واسعة، وجعل الجنة مثواه، وهو الشيخ المعمَّر أبو بكر جابر بن موسى بن عبد القادر البسكري الجزائري، ولد في بسكرة جنوب بلاد الجزائر، وحفظ القرآن الكريم وبعض المتون في اللغة والفقه المالكي، ودرس على مشايخ بلده جملة من العلوم النقليَّة والعقليَّة التي أهَّلته للتدريس في إحدى المدارس الأهليَّة، ثم ارتحل مع أسرته إلى المدينة المنورة، وحصل على إجازة من رئاسة القضاء بمكة المكرمة للتدريس في المسجد النبوي الشريف، فأصبحت له حلقة يدرس فيها تفسير القرآن الكريم، والحديث الشريف، وغير ذلك، وعمل مدرساً في بعض مدارس وزارة المعارف، وفي دار الحديث في المدينة المنورة، وعندما فتحت الجامعة الإسلامية أبوابها عام1380 هـ كان من أوائل أساتذتها والمدرِّسين فيها، وبقي فيها حتى أحيل إلى التقاعد عام1406 هـ، من مؤلفاته: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، والمرأة المسلمة، والدولة الإسلامية، والضروريات الفقهية رسالة في الفقه المالكي، ورسائل الجزائري وهي (23) رسالة تبحث في الإسلام والدعوة، ومنهاج المسلم كتاب عقائد وآداب وأخلاق وعبادات ومعاملات، ونداءات الرحمن لأهل الإيمان.

تفسير سورة الفيل:

وملخص ما شرحت لهم اليوم من تفسير سورة الفيل للعلامة الفراهي:

بيان معنى الرمي بالحجارة وتمهيد للنظر في أصل رمي الجمار بمنى: اعلم أن الرمي بالحجارة والتراب في وجوه الأعداء هو إظهار اللعنة والدعاء عليهم، ولذلك حين رمى النبي صلى الله عليه وسلم الأعداء بالحصباء قال: "شاهت الوجوه"، كما يقال: "قبح الله وجهك" في وقع اللعن، وكانوا يظهرون اللعنة برمي الحجارة من قديم الزمان، ولذلك جعل الله الرجم أسوأ القتل، فهكذا ههنا عذَّب هؤلاء الظالمين برمي الحجارة ليدل على كونهم ملعونين، وإنما كبر هذا الإثم منهم لأنهم بادعائهم النصرانية كانت حرمة هذا البيت واجبة عليهم لكونه بناء إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة البقرة 114)، ولذلك رمى الله الكفار ببدر لمنعهم المسلمين عن الصلاة عند البيت، ومن ههنا جاء "الرجيم" وصفا للشيطان، ولما كان الشيطان رأس الملعونين تبادر إلى الأذهان أن رمي الجمار عند الوقوف بمنى هو على الشيطان، فنشأت قصة مكره بإبراهيم عليه السلام.

أصل سنة رمي الجمار: قد دلت الأمارات الكثيرة على أن رمي الجمار بمنى كان تذكرة لرمي أصحاب الفيل، منها أنا لا نجد في كلام العرب قبل الإسلام ذكر رمي الجمرات، فالأقرب إنه أمر جديد، ولم يكن إلا بعد واقعة الفيل، ومنها: أنه من الثابت المتفق عليه أن النحر تذكار لسنة قربان إبراهيم عليه السلام بابنه، فلو كان أصل الرمي، كما زعموا، رمي الشيطان لكان النحر في اليوم الثالث أو الرابع بعد الفراغ عن رمي الجمرات، أما أصحاب الفيل فلما رموا أول يوم أصيبوا وحبسوا عن التقدم رجع الحجاج إلى رحالهم ومواقفهم بمنى، وشكروا الله ونحروا وكبَّروا، ثم لما لم ييأس أبرهة كل اليأس وتشجع وأراد الخروج إلى مكة في اليوم الثاني رمى الحجاج جيشه مرة أخرى، وهكذا في اليوم الثالث، حتى فلوا وولوا بين هالك صريع وسالك سريع.

تذكرة تهدي إلى كون الحج كله من الجهاد: ذبح البهيمة علامة ذبح النفس، والأضحية فدية، وحقيقة الجهاد هي ذبح النفس وإنقاذها من النار، ثم إن رحلة الحجاج وحلولهم ليلا، ووقوفهم نهارا، وصلاتهم صلاة المستعجل كل ذلك أشبه بتمرين عسكري، ومن حج يتيقن أن هذا لا يصلح إلا تحت قائد عسكري.

الحديث وحي وصحيح البخاري أفضل جهد بشري لحفظه:

كتب إليَّ أحد طلبة العلم غلو بعض الناس في صحيح البخاري، فمنهم من طعن فيه طعن الجاهلين غير مدرك لمكانته العلمية ومنهجه الأكاديمي الذي لا يبلغ جهد بشري مستواه في الصحة والقوة، وقد رددت على هؤلاء الأقزام في غير مقال، وستتلو مقالات أخرى إن شاء الله، ومنهم من جعله في درجة القرآن الكريم صحةً وحفظًا، فقدَّسه تقديسا، وهو انحراف قد يؤدي إلى ضرر مماثل لضرر الفكرة الأولى.

فاعلموا أن الحديث وحي، وأن تصحيح الحديث ليس وحيًا، وإنما هو اجتهاد بشري، والحفَّاظ على درجات في هذا الاجتهاد، والشيخان في صحيحيهما على درجة عليا لا تضاهيها درجة، والذين ينتقدون الصحيحين قسمان من الناس:

الأول: الذين ينتقدون الكتابين ويطعنان فيهما جملة وتفصيلا، فهؤلاء جهلة، يجب الرد عليهم كما يرد على الجهَّال.

الثاني: الذين يعتقدون صحة الكتابين وأنهما على أعلى درجة من الصحة والإتقان، ثم ينتقدون أحاديث منهما ظنا منهم أنها ليست على مستواهما في الصحة، أو يؤولونها ويصرفونها عن معناها الظاهر، فهؤلاء ليسوا بمنكري الحديث ولا بمنكري فضل الكتابين، وغاية ما يقال فيهم: إنهم أخطأوا في نقدهم أو في تأويلهم، فينبغي أن يعاملوا برفق وأدب ويبين لهم وجه خطأهم، وكم من العلماء انتقدوا أحاديث أو أولوا معناها قديما وحديثا.

وأما أن يصنف القسم الثاني في درجة منكري الحديث أو أن يخرجوا عن أهل السنة والجماعة، فهو الغلو المذموم، وإذن قلما يسلم عالم من هذا الطعن، أعاذنا الله من الجهل والهوى والعصبية والعمى.

انتقال إلى العزيزية:

انتقلنا اليوم من فندق سويس اوتيل إلى فندق في العزيزية الشمالية قرب جامع سيد الشهداء، والعزيزية أحد الأحياء المشهورة في مكة المكرمة، تبعد عن الحرم المكي مسافة 15 دقيقة تقريبا، ويسهل الوصول منها إلى منى، وكانت بها جامعة أم القرى قديما زرتها أكثر من مرة.

مدرسة السيد محمد بن علوي المالكي:

زرت مع عدد من أصحابي بعد المغرب مدرسة شيخنا السيد محمد بن علوي المالكي رحمه الله تعالى، واستقبلنا على الباب الأخ الكريم معن الدباغ، وهو صهر السيد محمد بن علوي، ومن تلاميذي في معهد السلام بلندن، ويعمل الدكتوراه في جامعة كامبريدج، شابٌّ عالم مُجيد للغة العربية قراءة وفهما ومتمكن من العلوم، ومهذب كريم السجايا.

ودخلنا المدرسة فإذا فيها حفل حضره علماء وشيوخ وأعيان من مكة المكرمة وخارجها، وسمعنا درس الدكتور الشيخ أحمد بن محمد بن علوي المالكي عن فضل الحج ومعانيه الروحية، وسألني أن ألقي كلمة وأن أسمعهم المسلسل بالأولية، فامتثلت أمره، ورويت الحديث من طريق شيخنا السيد محمد بن علوي المالكي رحمه الله تعالى، وحكيت صلتي بالشيخ وأخذي عنه، واستمرَّ المجلس إلى الساعة التاسعة، ثم صلينا العشاء، وتعشينا في مأدبة فاخرة حافلة حضرها المئات من الناس، وأنشد منشدون قبلها وبعدها قصائد في المديح النبوي، وأكرمني السيد أحمد إكراما كبيرا، فجزاه الله خيرا وبارك في علمه وعمله ونفع الله به المسلمين.

ترجمة السيد محمد بن علوي المالكي:

وهو الشيخ الكبير المحدث العلاّمة السيد محمد بن المحدث الجليل السيد علوي المالكي الحسني، ولد بمكة المكرمة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف، ونشأ بها نشأة إسلامية علمية في كنف والده العلامة السيد علوي بن عباس المالكي، وترعرع في رحاب حلقات العلم بالمسجد الحرام، فحضر كبار العلماء بالحرمين الشريفين، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، كما كان له عدة رحلات علمية إلى الهند وباكستان وليبيا والمغرب وغيره، فأخذ عن جملة كبيرة من العلماء واستفاد منهم.

يروي عن جماعة كبيرة من العلماء والمشايخ ذكرتهم في معجم الشيوخ، وله إسناد عال جدا في الحديث المسلسل بالأولية، فقد سمعه من المعمَّر الشريف عبد الكبير محمد الماحي بن إبراهيم الصقلي الحسيني بالمسجد النبوي الشريف، قال: حدثنا السيد علي بن ظاهر الوتري المدني، قال: حدثنا أحمد منة الله الأزهري سنة 1287هـ. ويروي الصقلي عن الوتري، والسيد أحمد البرزنجي ومحمد بن جعفر الكتاني، والصقلي أجازه إجازة عامة، ويروي "سد الأرب من علوم الإسناد والأدب" عن المعمَّر الشيخ محمد بن عبد الله العربي العقوري المصري، عن إبراهيم الباجوري، والأمير الصغير، وحسن العدوي المالكي، ثلاثتهم عن الأمير الكبير صاحب الثبت، ويروي عن الشيخ نديم بن حسين الجسر مفتي طرابلس، عن والده العلامة الشيخ حسين الجسر.

أجاز لي من بلد الله الحرام في شعبان ووصلتني الإجازة في عاشر رمضان سنة ثمان عشرة وأربع مائة وألف، وزرته في منزله في الرصيفة بمكة المكرمة بعد صلاة المغرب يوم السبت رابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف، وكان جمع حافل من العلماء والمشايخ والطلاب والمريدين في مدرسته، وكانوا مشتغلين بأورادهم وأذكارهم، وبعد الانتهاء منها صلينا العشاء الساعة التاسعة، ثم تناول الجمع العشاء في مأدبته الحافلة، وبعد ذلك سمعت منه الحديث المسلسل بالأولية بروايته عن والده، وعن الشيخ حسن المشاط، والشيخ الفاداني، والشيخ عبد الله الغماري، كما أخذت عنه حديث المصافحة، وحديث المشابكة، وحديث المحبة بأعمالها وشروطها، ثم أجازني وأولادي إجازة عامة، وزرته في اليوم التالي صباحًا الساعة العاشرة، وقرأت عليه الموطأ (برواية يحيى) من الحديث الأول إلى الحديث الخامس والعشرين (أي قبل باب النهي عن الصلاة بالهاجرة بحديث)، وسمعت عليه بقراءة غيري إلى باب وضوء النائم، وقرأت عليه الحديث الأخير من الموطأ، وسمعت عليه حديثين قبله بقراءة غيري. ثم قرأت عليه أربعة أحاديث من أول صحيح البخاري، وسمعت عليه حديثين بعدها بقراءة غيري، وقرأت عليه الحديث الأول من كتاب الإيمان من صحيح مسلم، وسمعت عليه ثلاثة أحادبث بعده بقراءة غيري، وقرأت عليه الحديث الأول من كتاب الطهارة من سنن أبي داود، وسمعت عليه حديثين بعده بقراءة غيري، ثم سمعت منه الحديث المسلسل بالمحبة، وقرأ علينا سورة الصف، وقال: هذا أصح المسلسلات، وأضافنا على الماء والتمر، وسمعت منه الحديث المسلسل بالأسودين، وقال: هذا حديث موضوع.

ترك ثروة علمية من البحوث والدراسات في ذلك، منها: دراسات حول الموطأ، وفضل الموطأ وعناية الأمة الإسلامية به، ودراسة مقارنة عن روايات موطأ الإمام مالك، وشبهات حول الموطأ وردها، وإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وتحقيق تلخيص القابسي للموطأ، رواية ابن القاسم. ولعل من آخر ما كتبه في خدمة المذهب المالكي بحثه (الفقه المالكي وأحواله في ظل الفقه الحنبلي بمكة المكرمة في القرن الرابع عشر)، والذي قدمه في مؤتمر القاضي عبد الوهاب البغدادي (13-19 المحرم 1424هـ)، وهو يعبر عن جانب مهم من التاريخ المعاصر للمذهب المالكي في الحجاز، وجمع العديد من الأثبات والفهارس، وتنتهي إليه العديد من الأسانيد العالية، ومن كتبه في الدراسات الحديثية: (عناية الأمة بالسنة)، (كشف الغمة)، (المنهل اللطيف في أصول الحديث الشريف)، وغيرها، وله اهتمام كبير بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشمائله، ومن كتبه في هذا الموضوع: (محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل)، (تاريخ الحوادث النبوية)، (الذخائر المحمدية)، (مفاهيم يجب أن تصحح)، (شفاء الفؤاد في زيارة خير العباد)، (وهو بالأفق الأعلى)، (القدوة الحسنة في منهج الدعوة ضرورة الرجوع إلى السنة النبوية)، ومن مؤلفاته: (شريعة الله الخالدة)، و(المسلمون بين الواقع والتجربة)، و(مفهوم التطور والتجديد)، و(منهج السلف في فهم النصوص)، و(خصائص الأمة المحمدية)، و(المستشرقون بين الإنصاف والعصبية)، و(أصول التربية الإسلامية)، و(أبواب الفرج)، و(خلاصة شوارق الأنوار)، و(الحصون المنيعة)، و(زبدة الإتقان في علوم القرآن) و( القواعد الأساسية في علوم القرآن)، و(القواعد الأساسية في علم مصطلح الحديث)، و(القواعد الأساسية في أصول الفقه)، و(إتحاف ذوي الهمم العلية برفع أسانيد والدي السنية)، و( نور النبراس بأسانيد الجد السيد عباس).

توفي صباح خامس عشر شهر رمضان المبارك سنة خمس وعشرين وأربع مائة وألف في بلد الله الحرام مكة المكرمة، عن عمر يناهز الثلاثة والستين عاماً قضاها في خدمة العلم، وقد صلى عليه بعد عشاء يوم الجمعة في المسجد الحرام جمع غفير من العلماء والدعاة وأهل العلم والمعتمرين، وبعد الصلاة تخاطفت الأيدي جنازة الشيخ وحملتها مشياً على الأقدام سيراً حتى مقابر (المعلاة) حيث دفن بجوار والده رحمهما الله.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين