رحلة الحج (13)

يوم الثلاثاء 3 من ذي الحجة سنة 1439هـ

تفسير سورة الفيل:

وملخص ما شرحت لهم اليوم من تفسير سورة الفيل للعلامة الفراهي:

أسباب صارفة عن التأويل الراجح: لا يخفى أن التفصيل الذي اشتهر من قصة أصحاب الفيل صار سدًا دون التأويل الراجح، فبعد ما دللنا على خطأ ما اشتهر نذكر بعض أسباب هذه الشهرة، وهي سبعة:

الأول: إنهم ظنوا أن الخطاب في السورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم تأويل كلمة "ترميهم" إلى الخطاب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرميهم، ولكنا بينا من قبل أن الخطاب ههنا إلى أفراد أهل مكة، وكلمة "ترميهم" حال عن المجرور في "عليهم"، أو جملة مستأنفة.

والثاني: عسى أن يتوهم أن الحال إنما تبين هيئة الفاعل أو المفعول، والضمير في "عليهم" إنما هو مجرور، والحق إن مجيء الحال عن المجرور ذائع شائع، كما دل عليه القرآن، وكلام العرب، قال تعالى: "يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا" (ق 44).

والثالث: على تأويل "ترميهم" إلى الاستئناف عسى أن يتوهم أن مقتضى المعنى أن يؤتى بالماضي، فنقول: أصله "كنت ترميهم"، وحذف الأفعال الناقصة قبل المضارع أسلوب عام، مثلا جاء في القرآن الكريم: { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الحاقة 7).

والرابع: إن رمي الطير الحجارة كان أعجب إلى النفوس وأبين خرقا للعادة، فاشتهر بين الناس، فإن الجمهور يخرون على العجائب صما وعميانا، ويظنون البحث عنها خلاف التقوى، وقد علمت أن المعجزة لا تلزمها النكارة والندرة، بل الحمل على النظائر أولى.

والخامس: إن الذين شاهدوا الواقعة ذكروا الطير والحجارة معا، فتوهم بعض السامعين أن الطير هي التي رمت، ويمكن أيضًا أن بعض الشاهدين أنفسهم لم يفهموا إلا أن الطير رمتهم، فذكروا حسبما ظنوا.

والسادس: إن الوضاعين افتروا أخبارا كاذبة فيما جرى بين أبرهة وعبد المطلب، واعتمد عليها المفسرون، فلما ركز في قلوبهم أن أهل مكة فروا عن حماية الكعبة إلى شعف الجبال متحرزين عن جيش أبرهة، صار ذلك سدا عن حمل "ترميهم" على الخطاب، ولم يبق لهم إلا أن يقولوا بأن فاعل "ترميهم" هو الطير.

والسابع: إن كلمة "ترميهم" متصلة بكلمة "طيرا أبابيل" فتبادر إلى أفهامهم أن ضمير الفاعل راجع إلى الطير، وترك المتبادر إنما يقع بعد النظر والتأمل.

الطواف فوق سطح المسجد في الشمس:

نزلنا الساعة الحادية عشرة والنصف ناوين الطواف قبل الظهر، فلما دنونا من المسجد وجدنا المداخل قد سدَّت والحواجز قد نصبت، ودفعنا في بحر من الناس متزاحمين إلى سطح المسجد لا تظله إلا الشمس لافحة الوجوه، ونافذة في الأجسام من خلال الثياب ولاذعة لها لذعا، فسألت بناتي: هل يصبرن على لسعات الحر؟ فقلن: نعم، فأومأنا إلى الركن مستلمين له، وقضينا الطواف سبعة أشواط ذاكرين الله، متضرعين إليه، لامسين نفحات الكعبة، وسامعين إهلال المهلين ودعوات الداعين، وراجين رضا الملك الذي منح الملوك جلالها، وحَبَا الخلائق أرزاقها، وليست معاناة الحر شيئا إذا قارناها بالشدائد التي لقيها الآمُّون البيت الحرام رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق، وليست هذه المعاناة شيئا إذا استحضرنا الثواب الذي ادخره الله تعالى للطائفين حول هذا البيت وما أفاض عليهم من البركات، والمناسك كلها تربية الإسلام لله تعالى، فكل ما ساءنا أو سرنا، وكل ما آلمنا أو أبهجنا من الله تعالى، والذين يصبرون على المتاعب والمشاق في الدنيا ابتغاء رضوان الله تعالى ستؤنسهم صلوات من ربهم ورحمة وأنواع من النعيم في قبورهم وحين يحشرون يوم القيامة، وما ألذ التعب الذي عاقبته جوار رب العالمين!

الشيخ محمد أنس الندوي:

ولقيت بعد العصر أخانا الأكبر الشيخ الدكتور محمد أنس الندوي، فائضَينِ سرورا واغتباطا وجذلا وابتهاجا، ولا تسأل عن فرح متآنسَين فرَّق الدهر بينهما ستة وعشرين عاما، ويا لسعد بعداء يقتربون في بلد الله الحرام، ويا لحظِّ غرباء يجتمعون عند أداء المناسك، وأضافني على العصير والشاي، ووجدته راعيا لوشائج الود والمحبة، وغير متناس للعهد القديم ولا مغير له تغييرا، وتحدثنا عما جرى في حياتنا خلال هذه الفترة، وقد أبانت ملامح وجوهنا عن كثير مما لم تنبس به شفاهنا، وقد تنطق الأشياء وهي صوامت، وما كل نطق المُخبرين كلام.

وهو الدكتور محمد أنس الندوي الهندي الأصل الإسترالي الجنسية، نال شهادة الفضيلة من دار العلوم بديوبند سنة 1974م، وشهادة التخصص في الأدب العربي من دار العلوم لندوة العلماء سنة 1977م، والليسانس في الشريعة وأصول الدين من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1982م، والماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة عليجراه الإسلامية سنة 1997م، والدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة عليجراه الإسلامية سنة 2000م، وعمل منذ تخرجه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كداعية متفرغ من قبل رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، ثم من قبل الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالرياض في بريطانيا والهند، وأخيرا في أستراليا، وألف (القرآن الكريم والعلوم الحديثة)، و(الحج والعمرة) باللغة الأردية، وله أكثر من 500 مقالة باللغات الأردية والعربية والإنكليزية.

ومن التوافق القوي بيني وبينه أنه درس في إله آباد على العلامة المفتي محمد حنيف الجونفوري رحمه الله تعالى، وهو شيخي أيضًا، ومن قريتي، وكلانا مقرَّب إليه أثير، كما تجمعنا الموالاة للشاه وصي الله الفتحفوري أكبر خلفاء حكيم الأمة أشرف علي التهانوي، رحمهما الله تعالى.

الشيخ عبد السميع الأنيس:

وصادفت فضيلة الشيخ عبد السميع الأنيس بعد العشاء في المطاف قريبا من الركن اليماني، وأسمعني وبنتي فاطمة وعائشة المسلسل بالأولية، وأجاز لنا ولأولادي وتلاميذي ولمن في الاستدعاء البريطاني إجازة عامة، واستجازني أيضًا فأجزته ولأولاده ممتثلا لأمره، وتلك سنة أهل الحديث حريصين على الخير وآخذين عن الأكابر والأصاغر، ولا يمنعهم من التعلم حياء ولا استكبار.

تعرفت عليه في رمضان هذا العام في الرباط بمناسبة الدروس الحسنية، وتحول هذا التعارف إلى الأنس والصداقة، وقد لقيت أخاه الشيخ عبد الحكيم الأنيس قبل ثلاث سنوات في بيت شيخنا محمد مطيع الحافظ واستجزته.

وهو الدكتور عبد السميع محمد الأنيس، ولد في مدينة حلب، بسورية، سنة 1963، حصل على شهادة الدكتوراه في الحديث النبوي الشريف وعلومه من كلية العلوم الإسلامية، جامعة بغداد سنة 1995، وعنوان الرسالة: الفصل للوصل المدرج في النقل، للخطيب البغدادي: دراسة وتحقيق، وهي مطبوعة في دار ابن الجوزي، السعودية، 1997، وتلقى العلم عن مئة شيخ تقريباً، وحصل على إجازة خمسين منهم، ومن أبرزهم: الشيخ عبد الكريم الدبان (ت1413) والشيخ عبد الكريم المدرس(ت1426)، والشيخ محمد ياسين الفاداني المكي (ت1410)، والشيخ أبو الحسن الندوي (ت1420)، والشيخ محمد عبد الرشيد النعماني (ت1420) تغمدهم الله بسابغ رحمته.

ويعمل في قسم أصول الدين، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة الشارقة، وله من المؤلفات: الصيام رحلة العابدين وراحة المحبين، والصلاة رحلة الحب والشوق، وخواطر ومشاهدات في رحلة الحج والعمرة، وجوانب حضارية في السنة النبوية المطهرة، والأساليب النبوية في معالجة المشكلات الزوجية، بحوث تحليلية للحياة الزوجية في بيت النبوة"، وكتب أخرى، ومقالات وبحوث كثيرة.

ومما زادني حبا له إدراكه لمعاني الصلاة الدقيقة وإبرازه لها في كتاباته، وتفرست فيه الفهم ملتهبا، والحكمة على لسانه جارية، وهو مع ذلك متواضع ومتحلّ بالأخلاق السامية، وما عظيم لأهل الفضل أن يأتوا عظيما.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين