رحلة الحج (12)

يوم الاثنين 2 من ذي الحجة سنة 1439هـ

تفسير سورة الفيل:

وملخص ما شرحت لهم اليوم من تفسير سورة الفيل للعلامة الفراهي:

النظرة الثانية، وهي رمي أصحاب الفيل بالحجارة وكونها من الآيات العظام: لا شك أن رمي أصحاب الفيل بالحجارة كانت من الآيات العظام على عظيم منزلة الكعبة، ولكن عظمة هذه الآية ليست في كونها عجيبة ونادرة بعيدة عن العادة، بل إنها جاءت حسب سنة الله تعالى في إنزال آياته، ومن نظائرها ما وقع في غزوة بدر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها، وقال لأصحابه: شدوا، فلم يبق كافر إلا شغل بعينه، كما جاء في سورة الأنفال: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، وكذلك في هذه السورة، كانت قريش ترميهم بحجارة ينفحونهم بها عن الكعبة، فجعلها الله حجابا لما أرسل على أصحاب الفيل من الحجارة من السماء، وكما نسب الله تعالى الرمي في بدر إلى نفسه فهكذا ههنا نسب إلى نفسه أنه جعلهم كعصف مأكول، ثم ذكر من نظائرها بعض ما وقع لموسى عليه السلام من الآيات.

النظرة الثالثة، وهي فيما كان من أمر الطير التي أرسلت على أصحاب الفيل، إن الله تعالى أرسلها لتطهير ناحية مكة من جيف القتلى، ثم ذكر الأخبار المختلفة من تفسير ابن جرير، وتخلص إلى أنها أرسلت لتأكل القتلى.

ثم استدل بكلام العرب على أن الرمي كان من السماء والريح، وقال: فإن تأملت فيما مر من كلام العرب وجدت الذين شهدوا الواقعة ذكروا الطير وحصب الحجارة معا، لكنهم لم ينسبوا الحصب إليها، بل نسبوه إلى حاصب وساف، والحاصب يستعمل للريح الشديدة التي ترمي بالحصباء، والسافي يستعمل للريح التي تذري الغبار والورق اليابس، فالله تعالى رماهم بالحصباء والغبار من السماء والهواء، كما رنى قوم لوط، فأصابت أجسامهم من كل جهة، وكان ذلك بتصريف ملائكة الله، وهذا هو المراد بجنود الله.

مكتب الدعوة والإرشاد:

ونسق شيخنا محمد بن ناصر العجمي مقابلة لي مع الشيخ باسم بن عبد الغني منشاوي، مدير المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بجنوب مكة، خرجت مع الأخ عبد الحكيم في الساعة الحادية عشرة، ووصلنا إلى مكتبه حوالي الساعة الثانية عشرة حيث تم تعريفنا بالمكتب بأنه يعمل تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، ومتخصص في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، ويسعى لنشر الهدى النبوي في أوساط المجتمع عبر منظومة من الوسائل والوسائط النوعية، ويرعاه نخبة من أهل العلم والفضل، يرأسهم فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب، إمام وخطيب المسجد الحرام.

استقبلنا الشيخ مرحّبا بنا حافلا بوجه طلق ومحيا وضاح، واستضافنا على غداء، وخبرنا فيه من مكارم الأخلاق ما يحببه إلى الناس وما يشهد بتوفر صفات داعية ناجح فيه، وهو متطلع في شوق ووله إلى أخبار الجاليات الإسلامية في البلدان المختلفة، وشؤوونها الدينية والاجتماعية والعلمية، وقد زار الهند، وأعرب لنا عن استغرابه قائلا: إن المذهب الحنفي أكثر المذاهب انفتاحا وتوسعا، فما الذي حصل في الهند إذ يتعصب علماؤها في جمودهم وتزمتهم، ويتعادون فيما بينهم ويترامون بالكفر والفسق والبدعة على أمور تافهة، يقضي الإنسان منها العجب؟

قلت: للأمر سببان، الأول عدم التعمق في العلم، والثاني عدم تمييزهم بين أصول الدين وفروعه، فيرمي الواحد منهم أخاه بالكفر لأجل جزئية فقهية وهو لا يعلم أن تكفيره أشد ذنبا وأكبر إثما من الخطأ الذذي ارتكبه أخوه.

وجر بنا الحديث عن هذه الخلافات القبيحة والمشاقات المشينة إلى انقسام المدارس الهندية وتجافي أهلها المنتسبين إليها، وامتياز ندوة العلماء بالتوسع والرحابة واستقبال أتباع المذاهب المختلفة في جو من المحبة والأخوة والوئام والوفاق، وما تمتاز به من تدريس اللغة العربية والقرآن الكريم والسنة النبوية والفقه على طريقة المتقدمين بعيدا عن تكلف المتأخرين وتخلفهم الفكري وتدهورهم العقلي، وسألني أن أؤلف كتابا عن تاريخ ندوة العلماء، فقلت: قد عملته وسيصدر قريبا إن شاء الله، وحدثته عن مشاريعي العلمية الأخرى من كتاب الفقه الإسلامي، وشرح مقدمة أصول التفسير لابن تيمية، والرد على الحركات الأنثوية، وأشاد بقكرة هذا الرد منوها به، فإن فكرة الحركات الأنثوية أحدثت فسادا كبيرا في المجتمعات الإسلامية، وسألني أن أنقله إلى العربية، فقلت: لقد نويت أن أترجمه إلى العربية والأردية معا.

الشيخ محمد بن عجلان:

وخرجت أنا وبناتي سمية وفاطمة وعائشة مع الأخوين الكريمين عبد الله التوم وتركي الفضلي بعد صلاة العصر إلى الشيخ محمد بن عجلان، وهو الشيخ العلامة المحقق المسند السيد محمد بن علي بن محمد بن عبد القادر عجلان الرسي الحسني الهاشمي، ولد في مدينة الزيدية باليمن عام 1363هـ، وتربى في أسرته العريقة التي جمعت بين شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وراثة الهدي النبوي والعلم الشرعي، ونشأ مشتغلاً بطلب العلم على طريقة الحلقات والأربطة نحواً من عشر سنين في بلده الذي يعد من أعرق المدن العلمية في اليمن، وقِبْلة طلبة العلم من أنحاء كثيرة، وانتقل بعد ذلك إلى مكة المكرمة، وتتلمذ على أيدي مشاهير علماء الحرم المكي، ونال منهم الإجازات في مختلف الفنون، وامتدت تلك الفترة من عام 1384 - 1388هـ، ورجع بعد ذلك إلى اليمن فأقام في مدينة الزهرة عشر سنين خطيباً لجامعها ومديراً لمدرستها ومربياً لأَبنائها، وشارك في تأسيس المعاهد العلمية اليمنية، وتأليف مناهجها، وتولى مسئولية الإدارة العامة لمعاهد لواء الحديدة، وانتخب عضوا باللجنة الدائمة في فترتها الأولى والثانية، ثم انتخب عضوا في مجلس الشورى قبل قيام الوحدة اليمنية، ثم عضوا منتخباً في مجلس النواب بعد قيام الوحدة لمدة فترتين متتاليتين حتى عام 1977م ثم عين عضوا في المجلس الاستشاري برئاسة الدولة في الجمهورية اليمنية وعضواً في لجنة المناهج، ومن مؤلفاته: الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح، وسند علماء تهامة لصحيح البخاري، وحل الاشكالات الواردة على سند علماء تهامة لصحيح البخاري، وعدة الداعية وزاد الخطيب.

سمعنا من لفظه المسلسل بالأولية، ومنظومة المطلب الأسنى بالدعاء بالاسم الأعظم وأسماء الله الحسنى، وأبياتا تشتمل على دعاء مناسب للمقام من ختم منظومة "انشراح الصدر بنظم أسماء أهل بدر، وأجاز لي ولبناتي وأسباطي وتلاميذي ومن في استدعائي البريطاني، وأهدى إلي بعض مؤلفاته، فجزاه الله خيرا.

السيد سليمان بن محمد الأهدل:

ثم زرنا السيد سليمان الأهدل، وهو العالم الخطيب المسند الفقيه السيد سليمان بن محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الباقي بن الوجيه عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل، ولد في زبيد في 12 من ذي الحجة سنة 1362هـ، تربى في كنف والده، ودرس في رباط الإدريسي الأهدل، ورباط علي بن يوسف، وفي حلقات العلماء، وفي المدرسة العلمية في مسجد الأشاعرة، وأخذ عن العلامة عبد الله بن زيد المغربي (ت 1389هـ) ألفية ابن عقيل، وبعض الأمهات الست، وسبل السلام، وقرأ على المفتي محمد بن سليمان الأهدل متن أبي شجاع، والمنهاج للنووي وغيرهما من كتب الفقه، وعلى العلامة محمد السالمي (ت 1382هـ) الفقه وأصوله، وعلى الشيخ أحمد محمد خليل الخطيب الشافعي كتاب الإرشاد للمقري وعلم المساحة وعلم العروض والقوافي، وأخذ عن شيخ والده العلامة محمد صديق البطاح الأهدل، وأحمد داود البطاح الأهدل، وأسد حمزة، والمقرئ الشيخ محمد سعيد جمع، وشيخنا أبي الحسن الندوي وآخرين، ومن أعلى أسانيده عن والده سلمان بن محمد الأهدل، عن والده محمد بن سليمان الأهدل، عن الوجيه عبدالرحمن بن سليمان الأهدل صاحب الثبت الشهير (النفس اليماني)، ومن لطائف أسانيده: المسلسل بأبناء الوجيه: سليمان بن محمد بن عبدالوهاب بن محمد بن عبدالباقي بن الوجيه الأهدل، عن أبيه محمد، عن أبيه عبدالوهاب، عن أبيه محمد، عن أبيه عبدالباقي، عن أبيه الوجيه عبدالرحمن بن سليمان الأهدل.

سمعنا منه المسلسل بالأولية، وأجاز لي ولبناتي ولسائر المذكورين في استدعائي البريطاني، وانبسط إلينا في احترام لنا وتقدير، ومخايل الشرف والنبل بادية عليه، وسألني أن أدعو له ولأولاده وأن أجيزهم ففعلت، ثم سألته أن يدعو لنا جميعا، فدعا لنا، حفظه الله ورعاه.

منزل بني الموجان:

واسترحنا قليلا في شقة أخينا عبد الله التوم وأضافنا على العصير البارد، ثم خرجنا إلى بيت شيخنا الجليل عبد الوكيل الهاشمي، فإنه معزوم للإفطار في بيت بني الموجان، وقد دعونا كذلك للعشاء عندهم، اصطحبنا الشيخ في السيارة، واستفسرني عن شرحي لصحيح مسلم، ووجه إلي أسئلة عن الصحيحين، فأجبت عنها، ولعل الشيخ حفظه الله رضي بالجواب.

وكانوا قد استضافونا وسائر طلبة معهد السلام قبل ثلاث سنوات في بيتهم، وألقيت آنذاك في مدرسة لهم للبنات درسًا عن كتابي "الوفاء في أسماء النساء"، فلما وصلنا هذه المرة إلى بيتهم استقبلنا الإخوة إبراهيم وعبد الرؤوف وعبد الرحمن بنو حسين الموجان الغامدي مرحّبين بنا ومكرمين لنا، وجلسنا حول المائدة، وهي تنبئ عن ثرائهم وكرمهم، فتناولنا منها وصلينا المغرب.

وجلسنا نتحسى القهوة، وسألوني أن أتحدث لهم عن شرحي لصحيح مسلم، فبينت لهم العمل في شيء من التفصيل، وأعجبوا به إعجابا، وسألوني أن يطبعوه بعد تمامه ضمن مشروعهم لطباعة كتب السنة، فوافقت على مقترحهم، اللهم وفقني لإتمام الكتاب على ما ينبغي لشرح يخدم ثاني الصحيحين، واكتب له القبول، آمين.

وسمعنا على شيخنا الجليل أحاديث من بداية كتاب الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي، وأهدوا إلي كتاب (التعريف بالإسلام في مراتبه الثلاث الكبرى) تأليف أبي حامد محمد بن حامد آل عثمان الغامدي، طباعة دار طيبة الخضراء سنة 1439هـ، قال المؤلف في تعريفه بالكتاب بعد رواية حديث جبريل عليه السلام: "فموضوع هذا الكتاب إنما هو قبس من نور هذا الحديث العظيم، الذي اشتمل على بيان مكونات الإسلام الرئيسة في مراتبه الثلاث الكبرى: الإسلام، والإيمان، والإحسان، التي يتكون منها بناؤه، وتقام عليها شعائره، وتطبق على هديها شرائعه، ويقوم المسلمون فيها بعبادة ربهم، كل بحسب حظه منها، وجهده فيها، وقدرته عليها".

الشيخ حاتم العوني:

ثم زرنا فضيلة الشيخ حاتم العوني في منزله في سكن أساتذة جامعة أم القرى، ومعي بناتي، والشيخ مجاهد علي، والإخوة سلمان، وعبد العظيم، وسهيل، وكان الشيخ قد شرفنا بالزيارة في العام الماضي في كلية إبراهيم، حيث شاركته في بعض البرامج، فتعرف بعضنا على بعض.

وهو حاتم بن عارف بن ناصر بن هزاع بن ناصر بن فواز بن عون، الذي ينتسب إليه آل عون من العبادلة الأشراف الحسنيين ، أي من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولد في الطائف في رجب عام 1385 هـ، ونشأ وتعلم في مدينة الطائف، ودخل المدارس الحكومية من الابتدائية إلى آخر الثانوية بها، ثم التحق بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. واختار قسم الكتاب والسنة، بكلية الدعوة وأصول الدين. فحصل على البكالوريوس سنة 1408هـ، ثم الماجستير بسنة 1415هـ ثم الدكتوراه سنة 1421هـ، وله إجازات عالية من جماعة المُسْندين، من أهل الحجاز، ومن خارج الحجاز، في المغرب واليمن وغيرها، وله من المؤلفات: منهج المقترح لفهم المصطلح، والمرسل الخفي وعلاقته بالتدليس دراسة نظرية وتطبيقية على مرويَّات الحسن البصري، ونصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية، وذيل لسان الميزان، و إجماع المحدثين على عدم اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن بين المتعاصرين.

وهو شيخ علامة ذكي يمتاز بفهم عال وفقه دقيق، بعيد عن التقليد كل البعد، وهو غنيمة في عصر يتباهى فيه كثير من العلماء بالتقليد لغيرهم من دون نظر ولا تفكير ولا وعي للكتاب والسنة وأمور الدين، وحدَّثَنا عما يجري في العالم الإسلامي من التشدد والتطرف الديني، ومن الردة والمروق من الإسلام، فقلت: إن كلا التطرفين ناتج من الجهل بهذا الدين وإغفال مصادره وتسرع في الحكم والاستنتاج وتهور أقرب إلى الرعونة والغباء، أعاذنا الله من الغرور والطغيان والاستكبار، وجعلنا من المعتصمين بحبله المتين والمتمسكين بسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ولزوم جماعة المسلمين.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين