النفاق

النفاق

الأستاذ حمزة البكري


ما أجملَ أن يكون اللسانُ مُعبِّراً عما في القلب ... وما أجمل أن تكون حلاوةُ ما ينطق به اللسانُ من ألفاظٍ وعباراتٍ انعكاساً صادقاً عما يُكنُّه القلبُ من أحاسيسَ ومشاعر.
وفي المقابل ... ما أقبح أن يكون ما في اللسان حُلواً، وما في القلب مُرّاً ... وما أقبح أن يُظهِرَ الإنسانُ بلسانه محبةً ومودَّةً، ويُبطِنَ في قلبه حقداً وكراهيةً ... فما ذلك إلا نوعٌ من أنواع الكذب، وهو قبيحٌ مذمومٌ عند جميع العقلاء، ثم إنَّ مَرَدَّ ذلك ومَرجِعَه إلى مرض في القلب، وهو النفاق.


نعم ... النفاق مرضٌ من أمراض القلوب، حقيقتُه: أن يُخالفَ الظاهرُ الباطن، وأن يُباينَ القولُ العمل، وأن يختلف سـرُّ الـمرء عن علانيته. وأشدُّ أنواع النفاق: النفاق في الاعتقاد، وهو أن يُبطِنَ الـمرءُ الكفرَ ويُظهِرَ الإسلام، فيكون جاحداً في قلبه، ومؤمناً في لسانه، ولعلَّ أول ما ينصرفُ إليه الذِّهنُ عند سماع كلمة (النفاق) هو هذا المعنى، ولكنَّ هذا في الحقيقة هو أحدُ أنواع النفاق، وليس هو النفاقَ كلَّه.


وهذا النوعُ من النفاق شديدُ الخطورة، لأنه كفر، بل هو أشدُّ من الكفر، لأن الكافر والمنافق يشتركان في الكفر، ثم يزيدُ المنافقُ على الكافر في صفة أخرى، وهي أنه يُدلِّسُ على الناس ويخدعُهم ويمكرُ بهم عندما يُظهرُ لهم خلافَ ما يعتقد.
لكنَّ شدَّة خطورة هذا النوع من النفاق، لا تعني أن النوع الثاني منه أقلَّ خطورةً منه، أعني بالنوع الثاني: النفاقَ في العمل، والنفاقَ في القول، والنفاقَ في المحبة والمودة، ... وما أشبه ذلك. بل هذا النوعُ من النفاق شديدُ الخطورة كسابقه، بل إن هذا النفاقَ يبدأ في القول والعمل، ثم ما يزالُ بصاحبه إلى أن ينتهي به نفاقاً في اعتقاده، والعياذُ بالله عزَّ وجلَّ من ذلك.


فإن قلتَ لي: فهل لهذا النفاق ـ الذي هو مرضٌ من أمراض القلوب ـ من أعراض ظاهرة أستَدِلُّ بها على وجود هذا المرض في قلبي أو سلامته منه؟


قلتُ لك: نعم، له أعراضٌ وعلاماتٌ، فإذا ما رأى الواحدُ منا فيه شيئاً من هذه العلامات، فعليه أن يطلبَ لقلبه علاجاً من هذا المرض، كما يطلبُ لبدنه علاجاً من مرض يُصيبُه.
وهذه العلاماتُ قد جمعها لنا سيِّدُنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: «آيةُ المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وعد أخلَفَ، وإذا ائتُمِنَ خان»، وفي رواية أخرى عنه صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، وإن كانت فيه خَصْلةٌ منهن كانت فيه خَصْلةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: مَنْ إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وَعَدَ أخلَفَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ».


فمن علامات النفاق: الكذبُ في الحديث، أعني: أن تُحَدِّثَ جليسَكَ بحديث تُظهِرُ فيه أنك صادقٌ فيه، وأنت تعلمُ في قرارة نفسك أنك كاذب، وهذه خيانةٌ وأيُّ خيانة! وفي التحذير من شَرِّها يقولُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «كَبُرَتْ خيانةً أن تُحدِّثَ أخاك حديثاً، هو لك مُصَدِّقٌ، وأنت به كاذب».


ومن علامات النفاق أيضاً: الخُلْفُ في الوعد، ولا أقولُ لك: إنك إذا وعدتَ وعداً، وفي نيتك الوفاء به، ثم لم تستطع أن تفيَ به: أنك منافقٌ بذلك، بل أقول: الخُلْفُ في الوعد الذي هو علامةٌ من علامات النفاق: أن تَعِدَ وعداً، وفي نيتك يومَ وعدتَ أن لا تفيَ به، فهذا هو النفاق، لأنك عندما وعدتَ أظهرتَ أنك تريدُ الوفاء، وفي نيتك أن لا تفي، فخالفَ الظاهرُ الباطن، وبايَنَتِ العلانيةُ السِّرَّ، فكان نفاقاً.


ومنها أيضاً: خيانةُ الأمانة، وأداءُ الأمانة واجبٌ أخلاقيٌّ، قبل أن يكون واجباً شرعياً، وفيه يقول الله سبحانه وتعالى: (إن الله يأمرُكم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها) [النساء: 58]، ويقولُ أيضاً: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللهَ والرسولَ وتخونوا أماناتِكُم وأنتُم تعلمون) [الأنفال: 27]، وانظر كيف بلغت الأمانةُ من الأهمية منزلةً عظيمةً أن أوصى الله تعالى بها وحذَّر من خيانتها بعد تحذيره من خيانة الله ورسوله مباشرة، وفي الحديث عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائتَمَنَك».


ومن علامات النفاق: الفجورُ عند المخاصمة، والمرادُ أن يُظهِرَ الإنسان مودَّةً ومحبةً لغيره، ثم إذا وقع بينهمـا اختلاف، أو اختَصَما في أمر من الأمور، أظهَرَ له عندها كلَّ سوء، وخاصَمَه ونازَعَه بكل ما أوتي من قوة، وأراد أن يُظهِرَ أنه على صواب بكل وسيلة، وأنَّ صاحبَه على خطأ بكل حيلة، فمثلُ هذا يدلُّ على أنه لم يكن صادقاً في محبته ومودَّته، إذ لو كان صادقاً في ذلك لتسامح مع صاحبه، وتجاوز له عن خطئه، واعتذر عنه في مُراده، ... إلخ.


ولهذا ذمَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الرجلَ الذي يُكثرُ الخصومةَ ويشتدُّ فيها فقال: «إن أبغَضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ»، وفي المقابل رَغَّبَ في ترك المخاصمة وحَثَّ عليها، فقال: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنة لمَنْ ترك الـمِراءَ، وإن كان مُحقّاً». والرَّبَض: هو ما يكون حول المدينة، وليس فيها.
وأختمُ مقالي هذا بقول أبي العتاهية:


ليسَ دُنيا إلا بدِينٍ، وليسَ الدِّ  ينُ إلا مكارمَ الأخلاقِ
إنـما المكرُ والخديعةُ في النا  رِ هما من خِصالِ أهلِ النِّفاقِ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين