الإسلاميون وحقوق الإنسان والجهاد على بصيرة

 

شرعة حقوق الإنسان فرضت نفسها على الساحة العالمية منذ صدور الإعلان العالمي عام 1948 عن الأمم المتحدة. وقد فرضت نفسها لا لقيمتها الذاتية بالضرورة مع كون كثير من محتواها ذا قيمة إنسانية كبيرة ولكن لأنها كانت في حقيقتها نتيجة لجهود المنتصرين في الحرب العالمية الثانية من أجل ادعاء التمسك بالقيم السامية بعد شلال الدم الذي أغرق العالم في النصف الأول من القرن العشرين ومن ثم فهي اكتسبت شرعيتها وانتشارها من إرادة دول الحلفاء تحديدا.

ولو عدنا إلى الإطار الثقافي القيمي الذي صيغ الإعلان في سياقه لوجدناه يرتكز أساسا إلى إعلان الماغنا كارتا الإنكليزي وأدبيات الثورة الفرنسية. ومن ثم فمن الطبيعي أن لا يلحظ السياق الخصوصيات الثقافية غير الأوروبية رغم إسباغ صفة العالمية عليه قسرا وفرضه على باقي دول العالم.

على أن الإعلان لم يحجز الدول التي سوقته وادعت الفضل في صياغته عن انتهاك حقوق الإنسان كما فعلت فرنسا في الجزائر والهند الصينية وأميركا في كوريا وفيتنام والعراق وبريطانيا في الفولكلاند والاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية وأفغانستان ولاحقا روسيا في الشيشان وفي سوريا والصين في ساحتها الداخلية عبر ما عرف بالثورة الثقافية. ومن ثم بقي مفهوم حقوق الإنسان يستخدم انتقائيا من قبل الدول الكبرى كأداة ضغط ولي ذراع في العلاقات الدولية.

ولكن على صعيد آخر، تشكلت منظمات أهلية كمنظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش لتعنى بقضية حقوق الإنسان كما وردت في الإعلان العالمي في استقلالية كاملة عن الدول والمصالح ولعبة ممارسة النفوذ والهيمنة. هذه المنظمات أيديولوجية الطابع مبدئية التوجه تتعامل مع الإعلان العالمي تعاملا مطلقا وكأنه قرآنهم المنزل المقدس الذي لا حياد عنه ولا تساهل فيه.

موقفنا نحن كإسلاميين ينبغي أن يتمايز في ضوء ما سلف من سرد لطبيعة النشأة واختلاف اللاعبين. يمكن تأطير الموقف الإسلامي عبر النقاط التالية:

1) الإسلام كرم الإنسان أيما تكريم ورفع من قيمة العدل أيما رفع ومن ثم فكل جهد بشري يصب في اتجاه الحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه هو جهد مرحب به من حيث المبدأ.

2) كثير من بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية أو التصور الإسلامي في شيء بل تؤكد عليها نصوص الشريعة ومن ثم فإن الإشادة بهذه البنود وتبنيها في خطابنا الإسلامي لا غبار عليه مع التنبيه على رفض فكرة قبول الإعلان قبولا مطلقا بالجملة نظرا لاعتبارات اختلاف السياق الذي صيغ الإعلان في إطاره وعدم استيعابه للخصوصيات الثقافية الإسلامية. وقد كانت ثمة محاولات لصياغة بيان إسلامي لحقوق الإنسان صدر عن المؤتمر الإسلامي فضلا عن محاولات فردية من مثل الدكتور محمد عمارة والدكتور محمد الزحيلي وغيرهما. وهذه الجهود بحاجة إلى تجديد واستكمال ولعل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إطار مثالي للعمل هلى تطوير مثل ذلك الخطاب وتلك الوثيقة في وقت المسلمون هم أحوج ما يكونون لمثله.

3) رفض استخدام الدول الكبرى لقضية حقوق الإنسان استخداما انتقائيا بهدف الضغط وممارسة النفوذ أو تسجيل المواقف المجانية في لعبة العلاقات الدولية.

4) بالمقابل، دعم المنظمات الأهلية ذات المصداقية في الدفاع عن حقوق الإنسان التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية لا سيما ومنطقتنا العربية تعاني من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ظل الاستبداد السائد في ربوعها والجاثم على صدور شعوبها.

5) العمل على تجديد التكييف الشرعي لبعض الأحكام الفقهية بما يتلاءم مع تغير الزمان والمكان والعوائد الأحوال. والكلام هنا طبعا حول ما يسوغ فيه الاجتهاد وكان أو ما زال محل خلاف بين العلماء لا ما ثبت ثبوتا قطعيا بنص قطعي الدلالة. فحد القتل العمد مثلا لا مراء فيه ولو ولولت منظمات حقوق الإنسان والاتحاد الأوروبي وها هي أميركا تطبق عقوبت الإعدام غير عابئة بأحد. وكذلك حد السرقة من منظور إسلامي.

أما قتل المرتد ورجم الزاني ففيهما سعة للاجتهاد. ففي زمن لم يعد فيه الدين هو شرط المواطنة الرئيسي في الدولة الحديثة يصعب افتراض أن تغيير الدين هو مفارقة للجماعة بالضرورة ما لم يثبت على مغير دينه خيانة أو عمالة لدولة معادية. وأنا هنا لا أفتي ولكني أشير إلى أن مفهوم مفارقة الجماعة أصبح أكثر تعقيدا في ضوء تغير طبيعة الاجتماع السياسي وعلى أصحاب الاختصاص النظر في ذلك لا سيما في وجود آية قرآنية محكمة تعلن إعلانا صريحا أن "لا إكراه في الدين."

خلاصة القول: لسنا مجبرين بأخذ مفهوم حقوق الإنسان جملة أو تركه جملة. بل نأخذ منه ما وافق ديننا ومصالح أمتنا في إطار رؤية إسلامية رشيدة تعمل على إنتاج نسخة منه تتوافق مع قيمنا وخصوصياتنا الثقافية. وحتى ذلك الحين لا يمنعنا ذلك من النعاون مع من يعمل في هذا الإطار من المنظمات الأهلية المختصة ذات المصداقية. وكوننا لا نتوافق مع تلك المنظمات في كل الحقوق ولا نقر الدول الكبرى على توظيف مفهوم الحقوق توظيفا سياسيا بغية الهيمنة ولا نرضى من حكومات الاستبداد والظلم انتهاكاتها لحقوق الشعوب لا يجعلنا ممن يكيل بمكيالين بل نكون من المجاهدين على بصيرة في سبيل الله والمستضعفين في الأرض.

والله تعالى أعلم ...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين