نقد الخطاب الديني الموجه للأسرة (3)

كنت أسمع لأحد الدروس الوعظية في برّ الوالدين، وقد رأيت الواعظ كأنّه استرسل في أسلوبه العاطفي، حتى خرج عن مقصود الشرع، كان مثلاً يستنكر بشدّة أن يقول الابن: إن أبي أو أمّي تعيش عندي في البيت، فهو يصحّح له سؤاله قائلاً له: أنت عندها وليست هي عندك، ثم يسترسل بالاستدلال والاستشهاد بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك».

الشيخ لم ينتبه إلى أنه قد خالف في استنكاره صريح قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) فبيت الابن هو بيته وليس بيت أبيه، وهذا حق التملّك الشخصي الذي لا ينبغي أن يوضع في الكفّة الثانية المقابلة لبرّ الوالدين، وهذا هو منهج الإسلام الكامل والشامل والمتوازن (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) فرحمة الولد بوالديه واجب إلى درجة إظهار الذلّ لهما والتواضع والصبر على ما قد يبدر منهما، لكن ليس معنى هذا أن تضيع الحقوق المالية له ولزوجته ولأولاده، ولذلك نرى أن آيات المواريث تقدّم الابن والبنت على الأب والأم، يقول الله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، فلو كان مال الرجل لأبيه على الحقيقة فكيف يورّث الإسلام ابن المتوفّى أو بنته أكثر من أبيه؟ جاء في تحفة الأحوذي: «أنه تعالى ورّث الأب من ابنه السدس مع ولد ولده، فلو كان الكل ملكه لم يكن لغيره شيء»، وقال الإمام الشافعي: «فإن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره، وقد يكون أنقص حظّاً من كثير من الورثة، دلّ ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه»، وقال ابن القيم: «واللام في الحديث ليست للملك قطعاً».

إن العلماء الأصوليين يتجّهون دائماً إلى التفصيل الدقيق وجمع الأدلة ومقارنتها واستنباط الأحكام منها، بينما يميل الوعّاظ إلى العموميّات والنصوص المجتزأة والخطاب العاطفي الذي يسير في الغالب باتجاه واحد، وينظر للأمور من نافذة واحدة.

إن الواعظ مطلوب منه أن يفكّر بمآلات كلامه، فإطلاق القول بأن مال الولد ملك لأبيه له تداعيات خطيرة قد لا يصل إليها نظر الواعظ، ومن ذلك إثارة أطماع بعض الآباء في الاستحواذ على أموال أولادهم، وقد ينبني على هذا نزاع وخصام، وهو بخلاف مراد الواعظ نفسه، وقد استفتاني أحد الناس بشأن والده الذي يصر على أخذ مال ابنه المجتهد في طلب الرزق، ليوزّعه على إخوته، وقد احتج عليه أبوه بهذا الحديث، فقال لي: لو أطعت أبي فيما يريد لفقدت الرغبة بالعمل، ولقعدت مثل إخوتي، وهذه نقطة أخرى قد تضرب التنمية والإتقان في العمل، وهما قيمتان عظيمتان من قيم الإسلام.

إن إعطاء الوالدين حق محو شخصية الأولاد في تخصصهم الدراسي، وفي اختيار أزواجهم وعلاقاتهم ووظائفهم، ثم في الاستحواذ على ممتلكاتهم ليس له صلة بمفهوم برّ الوالدين، بل هو غلوّ يصل إلى التقديس، وله آثاره السلبية على الأسرة وعلى المجتمع وعلى الوالدين أنفسهم.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين