أعرابي في برلمان 

(رحم الله الأستاذ علي الطنطاوي الذي سبق في مقالتيه القصصيتين : أعرابي في السينما ، وأعرابي في الحمام)

قال لي صاحبي : أو عزمت على الرحيل ؟! قلت : إي والله ، فإنه لم يبق في حاضرتكم شيء لم أطلع على عجائبه .

فابتسم وقال : ولكنك لم تزر البرلمان .

قلت : وما البرلمان ؟ فنحن أهل البر نعيش فيه ، ونفعل ما يحلو لنا فضحك صاحبي ، وقال : هداك الله !إنه البرلمان

قلت : ما سمعت بهذا لا في مدر ولا في وبر .

قال : إنها كلمة ليست من العربية في شيء ، ومع ذلك فإن في زيارة البرلمان متعة ليست في غيره .

قلت : أيكون أحسن حالا من الحمام والسينما ؟!فماذا عندكم يا أهل المدن إلا التعري والروايات !

قال صاحبي ، وقد ذكر ما لقيتُ في الحمام والسينما من مفاجآت : علمُك بالشيء خير من الجهل به ، ففي البرلمان ستجد الحكومة ، وتجد ممثلين عن الشعب وجها لوجه ، وستسمع من يهاجم الوزير والمحافظ ، ولا أحد يقول له شيئا !!

قلت : الممثل يفعل هذا ؟! يتهم الحكومة ، ويهاجم الوزير وضربت كفا بكف و هتفت : ثكلتني أمي ، فما كان أغناني عن حياة البادية ، وما كان أغناني عن عملي دليلا فيها ؟! كيف الطريق إلى التمثيل ؟!

فضحك _ والله _ صاحبي ضحكا خلت أنه خلع قلبه ، ثم ضرب بيده على كتفي ، وهو يقول : ليس التمثيل كالذي رأيته في السينما ، وإنما هؤلاء يمثلون الشعب ، أي ينوبون عنه لأنه اختارهم ، فهم نواب و نائبات يطالبون ويقترحون…

فهممت أن أقول شيئا ، فقال صاحبي : وقد يَشتمون ويُشتمون ….

ولن أطيل عليك ، ففي غد نذهب معا ، ونحضر إحدى الجلسات ، وتشاهد من خلال شرفة الضيوف كيف يفعلون.

و والله ما كان إلا الغد حتى ذهبت مع صاحبي ، وأنا لا أدري كيف ساقني ،ولم أنس بعد ما حل بي في السينما والحمام . فوقفت معه أمام دار كبيرة ما رأيت مثلها من قبل ، فأوقفنا بعض الشرط فقدم لهم صاحبي قطعتين من ورق ، وأشار إلى نفسه وإلي فأدخلونا ، ثم استوقفنا آخرون عِراض المناكب ، كُلح الوجوه كأنهم لم يبتسموا مرة في حياتهم ! وبدؤوا يفتشوننا ، حتى وقعت يد أحدهم على خنجري ، فصاح غاضبا: سلاح ؟! قلت: إنه خنجري وهو شبر من حديد .فقال : ممنوع . اتركه في الأمانات ، وخذ إيصالا به .

فوقفت ، وأنا لا أصدق ما أرى ، وصاحبي لا يرى في ذلك بأسا ؟!!

وأعطاني ورقة أصغر من راحة اليد ، فهممت أن أعود ، ولكن صاحبي سحبني من يدي ،فقلت : ما أبخسها من صفقة ! أأستبدل هذه الورقة بخنجري ، وما هي بالتي يشترى بها شيء ؟!!

فقال : هوّن عليك ، فنحن ما بعنا ولا اشترينا ،فإن خنجرك سيكون في الأمانات إلى وقت الخروج . فمضيت وأنا منكسر القلب أردد قول  الشاعر :

أخاك أخاك إنّ مَن لا أخا له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ

فكيف وأنا غريب في هذه البلدة بلا أخ ولا سلاح .. فتبعته وأنا أجر قدمي ،فأجلسني على مرتفع ، وقال: هذه شرفة الضيوف فرفعت رأسي وإذا هي دار قوراء ، وإذا القوم جلوس على كراسيهم ، بعضهم يقابل بعضا ، وآخرون يديرون أقفيتهم ؟!

فقلت : ما أشبه هذه الدار بالحمام لولا أن القوم لم يخلعوا ثيابهم فابتسم صاحبي وقال : هذه قبة البرلمان ، أما سمعت في الأخبار عن القوانين التي تناقش تحت قبة البرلمان ؟!

قلت : ولولا أن القوم يقابل بعضهم بعضا ، وليسوا صفوفا لظننت أني في السينما ، وقد كذبت ظني حين رأيت القوم لا يطفئون الأنوار.

قال صاحبي : بعد قليل ستبدأ الجلسة ..ولم يطل بنا المقام حتى قام أحدهم ، وبدأ يتكلم وأنا لا أعي أكثر ما يقول ! ثم تناوب القوم الحديث ، بعضهم يقول ، وبعضهم يسمع ، وبعضهم لا يقول ولا يسمع ، وهو إلى النوم أقرب ، كأن الأمر لا يعنيهم فقلت : لعلهم ضيوف مثلنا ، ولكنهم أقرب إلى القوم ، فأجلسوهم معهم ؟!

وتفحصت الوجوه فإذا (معيضان )بينهم لا حول له ولا طول فقمت لأطل عليه ، وهتفت : معيضان … معيضان ! لقد بحثت عنك طويلا فلم أجدك ! في أي مكان تنزل ؟! وإذا أحد أولئك الشرط يمسكني ويردني ، ويهم بإخراجي . قلت : ويحك ! ماذا فعلت ؟ أنادي على واحد من قومي ، وهو يعرفني ، ووالله لقد أقرضته خمسين تيسا لمأدبة أقامها ،ووعدني بردها … فأشار صاحبي وهو يعض على شفتيه أن أنهي الحديث ، ثم اعتذر للشرط واعدا ألا يتكرر ذلك مني ، فجلست ، وأنا أكاد أتفجر من الغيظ . أي هوان هذا الذي أنا فيه! أنادي على بعض قومي ، وأُمنع من ذلك ؟ ومعيضان يتجاهلني ، ولا يرد ، ووالله ما مثلي ومثله إلا كما قال الشاعر :

سريع إلى ابن العم يلطم خده=وليس إلى داعي الندى بسريع

ثم التفت إلى صاحبي وقلت ! هل يستطيع معيضان أن يرد علي ؟

قال : نعم ، لأن له حصانة . قلت : والشرطي لا يخرجه ولا يمنعه ؟

قال : إنه نائب ، ويتمتع بالحصانة . فقلت في نفسي : والله لقد بزغ نجمك يا بن (شنيطة ) وعرفت الآن لماذا أقمت الولائم ، وجمعت الناس ، ثم قلت لصاحبي ، وقد ذكرت الخمسين تيسا : وهل سيكون معيضان بعد هذه الحصانة قادرا على وفاء الدين ؟

قال صاحبي : لا أشك في ذلك . فلسوف يتقاضى رواتبه ، ويعطى مخصصات عن هذه الجلسات .

ولم أطل التفكير حتى انبرى واحد من الجالسين يهدر ويزمجر ، وأنا لا أدرك كثيرا مما يقول ؟! فهمس صاحبي في أذني : إنه من المعارضة !

قلت : ما سمعت بهؤلاء القوم ! فأين تكون منازلهم ؟ قال صاحبي : ينزلون وراء الحدود ، فأكثر منازلهم خلفها ، وهذا إنما وصل لأنهم سمحوا له بالدخول . قلت: يسمحون له بالدخول والنزول ، ويزمجر عليهم ؟! ابتسم صاحبي وقال : لكنه لا يقول ما يؤذيهم ، صحيح أنه يهاجم الحكومة ، ولكنه لا يجرحها … ولم يطل به كلام حتى دمعت عينا امرأة كانت تقابله في المجلس ، فقلت : سبحان الله ، يهاجم الحكومة ، والمرأة تبكي !لعل الحكومة تكون من عشيرتها … قال صاحبي: إنها رئيسة الحكومة ! هل ترى الرجال المحيطين بها ، إنها

رئيسة لهم . ثم قام رجل من خلفها يشتد في كلامه ، فقلت : لعل الحكومة من عشيرته ، فهو لم يقبل هوانا يصيبها . فقال صاحبي : إنه نائب رئيس الحكومة . قلت : والله لقد أصابت حكومة فلربما منعت هذه المرأة من الحضور ، وربما أقسم عليها زوجها ألا تخرج من البيت ، فتبره في قسمه ، فهم لا يعطلون أعمالهم ، وأيقنت أن حكومة موفقة . فمن يدري ، فقد يطول بالرئيسة نفاس ، أو يعسر عليها المخاض . فينوب عنها رجل ريثما تعود بالسلامة .

ثم وقفت فتاه كَعاب تصرخ وتولول ، وتهتف : ارفعوا أيديكم عن المرأة . فقال صاحبي : إنها إحدى النائبات .

ووالله ما استطعت أن أصم أذني ، فقلت : ويح أهل الحضر ، قبل أيام هتفت امرأة في السينما ، وقد أحاط بها غادر خبيث ، يحاول أن ينال منها على مرأى منا ومسمع ، فاستللت خنجري ، و أقبلت أريده فأشعلت الأنوار ، وما ارتضيت أن أقيم على هوان ، واليوم تستغيث امرأة ، ولا من مغيث . فمن هؤلاء الذين وضعوا أيديهم على المرأة ؟!

فإن الطبيب يعاين نساءنا من وراء حجاب ، ولا يرضى أحدنا أن يعطيه اسمها ليكتبه في أوراقه . فثارت الدماء في عروقي ونهضت هاتفا : لبيكِ ألفا … لبيك ألفا ….

فجاء رئيس الشرط ومعه ثلاثة من أعوانه ، وأصر على إخراجي .. فقلت : تستغيث امرأة ، أإن لبيتُها تُخرجوني ؟! ووالله ما رأيت ألأم منكم ولا أقل مروءة. وعند ذاك عرفت لماذا أصروا أن يأخذوا خنجري قبل الدخول ، وذكرت قول ابن أبي ريشة :

رب وامعتصماه انطلقت=ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم ، لكنها=لم تلامس نخوة المعتصم

فتدخل صاحبي ، وقال : إنه غريب ، ولم يدخل قبل يومه إلى برلمان ، ولعلها آخر أخطائه ، وهو قريب أحد النواب ، فتركوني وهم يهمهمون.

وطال بنا جلوس ، والقوم يتهاوشون ، وأنا لا أعيرهم انتباها ، حتى وقف غلام أمرد يحمل صندوقا على كتفه قريبا منا ، فقال صاحبي : أتحب أن يصورك لتظهر في التلفزيون ؟ قلت : وماذا ينفعني هذا أو يضرني ؟ قال: لا شيء . قلت : لا أريد.

وحان وقت الظهر ، ولم أر أحدا من القوم يتحرك من مكانه ! فقلت لصاحبي : ألا أؤذن ، وأذكر القوم ؟ فضغط على يدي وهمس : يعرفون ذلك ولديهم ساعات يضبطون بها الوقت . قلت : إذن أصلي وأعود . قال : انتظر قليلا ، ألست مسافرا ؟ قلت : بلى . قال: إذن تجمع وتقصر .قلت : والقوم ! قال : هم كذلك مسافرون وقد قدموا من بلاد بعيدة . فأسكتني والله ، ولكنه لم يستطع أن يسكت جوعة بطني ، فقلت : ولكن القوم ألا يأكلون ، فقد يستمرون إلى العصر ، فلم أرهم صنعوا طعاما ولا دعوا إلى وليمة ، وليس من البر الصيام في السفر ، فلم يرد علي بشيء ، فأخرجت تمرات أشغل بها بطني ، وذكرت قول الشاعر :

لاتحسب المجد تمرا أنت آكله=لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

فقلت ، وأنا أتبلغ بتميراتي : وإن الجوع ليئس الضجيع …

ثم نهض القوم واقفين ، فقال صاحبي : انتهت الجلسة . فقلت : لابد أن أصل إلى معيضان . فخرجت أتبعه ، وهتفت عند الباب الكبير ، ولكن اللئيم ركب سيارة فارهة ، ولم ينظر إلي ، ومضى . وعاد إلي صاحبي بالخنجر ، ثم اعتذر لبعض شأنه . ووقفت وحيدا ، وقلت : لو أنني أقسمت ألا أدخل هذه الحاضرة بعد اليوم لكان حريا بمثلي أن يفعل ذلك . فهذه ثالثة الأثافي ، فأي داهية نزلت بي في الحمام والسينما والبرلمان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين