رحلة الحج (8)

يوم الخميس 27 من ذي القعدة سنة 1439هـ

انطلقت لصلاة الفجر مع بناتي، وزرت بهنَّ بعد الصلاة موقع سقيفة بني ساعدة، وشرحت لهنَّ قصة الخلافة وإجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، ثم اتجهنا إلى باب السلام ومشينا إلى أن واجهنا القبر الشريف فسلمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

وزرنا البقيع من وراء الجدار، وذكرت لهن المدفونين فيها من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وبناته رضي الله عنهم أجمعين، وتجولنا حول المسجد حتى رجعنا إلى غرفتنا، وبعد قليل غادرت بناتي للصلاة في الروضة، والحمد لله على أنهن حققن أمنيتهن للصلاة فيها.

الخروج إلى مكة المكرمة:

ركبنا الحافلة إلى مكة المكرمة في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وأنا يراودني شعوران: شعور بالحزن على فراق مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشعور بالفرح لقصد بيت الله الحرام، فكلما ظهر علي الشعور الأول صليت على النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرت من الصلاة عليه ودعوت الله تعالى أن لا يجعل ذلك آخر عهدي بدار الحبيب المصطفى صلىالله عليه وسلم وما حوته من آثاره وآثار أصحابه وذكريات التاريخ الإسلامي المجيد، وكلما غلبني الشعور الثاني حملني على النظر في معنى الحنيفية وأن أتخلص من كل حب للدنيا وأسبابها وأن أوجه نفسي إلى الله تعالى في محبة وخشية، وظل الشعوران يخالجانني وقد سارت بنا الحافلة مرورا بطرق حول المسجد النبوي والبقيع باعثا في قلبي وجدا حديث العهد، ومستثيرا في نفسي ولوع وداد غير مرتثة حبائله، حتى برز لنا ميقات أهل المدينة فقسرت فكري على الإهلال بالعمرة، وصرفت شعوري إلى قصد بيت الله الحرام وقوافل الحجيج والمعتمرين متسابقة إليه:

يا حُداة العيس مَهْلا فعسى=يبلغُ الصبُّ لديـكم أمَلا

لا أخاف الدهر إلا حاديا=ظَلْتُ أخشاه وأخشى الجَمَلا

أودعوني حُرَقاً إذ ودّعوا=غادروا القلب بها مشتـعلا

آهِ من جسم غدا مُستوْطنا=وفـؤادٍ قد غدا مـُرتحِلا

شُعْبة شَرْقا وأخرى مَغْرِباً=منْ لـهذين بأن يشـتملا

ذو الحليفة:

وصلنا إلى ذي الحليفة بعد الساعة الثانية، وصلينا في مسجدها الظهر والعصر قصرا وجمعا، وأحرمنا للعمرة ملبين وحامدين ربنا، وما أحسن ما قاله أبو نواس في التلبية:

إلهَنا، ما أعدلَكْ=مَليكَ كلِّ من مَلَكْ

لبيكَ، قد لبَّيتُ لكْ=لبيكَ، إن الحمدَ لكْ

والملكَ، لا شريكَ لكْ=ما خابَ عبدٌ أمَّلَكْ

أنتَ لهُ حيثُ سلَكْ=لولاكَ ياربُّ هَلَكْ

لبيكَ، إن الحمدَ لكْ=والملكَ، لا شريكَ لكْ

كلُّ نبيٍّ . ومَلَكْ=وكلُّ من أهَلَّ لكْ

وكلُّ عبدٍ سألَكْ=سَبَّحَ، أو لَبَّى فلكْ

لبيك إن الحمدَ لك=والملكَ، لا شريك لكْ

والليل لمَّا أنْ حَلَكْ=والسابحاتُ في الفلَكْ

على مجاري المُنْسَلَك=لبيك إنَّ الحمدَ لك

والملكَ، لا شريكَ لك=يا خاطئاً ما أغَفَلك

اعمل، وبادِر أجلَك=واختم بخيرٍ عملَك

لبيكَ، إن الحمدَ لك=والملكَ، لا شريكَ لك

محطة الخدمات:

ونزلنا في محطة للخدمات قبل دخول مكة المكرمة بساعتين، تناول فيها الإخوة الغداء، وسلط الأخ ناصر من الضوء على فضائل مطعم البيك ما جعل الشبعان جائعا وحرك في النفوس كامن شهوة للالتذاذ، ودعاني هو وصاحباه الشيخ مجاهد علي والشيخ كبير الدين إلى أن أشاركهم في مأكلهم المستطرف المستطاب فاعتذرت، واقتصرت على تناول الشاي، فإني أتجنب في السفر أن أثقل نفسي بالأطعمة إثقالا.

وأول ما قرع أذني اسم البيك، لما تذاكره الأخوان الكريمان وائل الحنبلي وأحمد عاشور أيام الحج في السنة الماضية، وهي سلسلة مطاعم للوجبات السريعة، أنشئت في منتصف السبعينات الميلادية في مدينة جدة السعودية، واشتهرت بتقديم وجبة الدجاج والمأكولات البحرية مع البطاطا، ونالت رواجًا وقبولًا كبيرا بسبب جودتها العالية ومذاقها المميز الناتج عن خلطة البهارات والتوابل المستخدمة والسعر المناسب، ومع مرور السنين انتشرت فروعها في عامة أنحاء المملكة.

دخول مكة المكرمة:

دخلنا مكة المكرمة بعد الساعة التاسعة مارين بشوارعها الدائرة حول الحرم الشريف، وأتمثل هنا بأبيات من القصيدة التي خاطب بها الشاعر عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي (ت 521 هـ) مكة المكرمة:

أمكـةُ تفديكِ النفوسُ الكرائمُ=ولا برحت تنهل فيك الغـمائمُ

وكُفَّتْ أكُفُّ السوءِ عنْك وبُلِّغتْ=مُناها قلوبٌ كي تراكِ حوائمُ

فإنـك بيت الله والحـرمُ الذي=لِعِزَّتـه ذلَّ المـلوك الأعاظمُ

وقد رُفـعت منك القواعد بالتقى=وشادتْكِ أَيْدٍ برّةٌ ومـعاصمُ

وساويت في الفضل المقامَ كلاكُما=تُنالُ به الزلفى وتُمْحى المآثمُ 

عليكِ سلام الله ما طاف طائـف=بكعبتكِ العُـليا وما قام قائمُ

فندق سويس تل مكة:

ووصلنا إلى بوابة فندق سويس تيل بعد الساعة العاشرة، وهو واقع في أبراج الساعة المواجهة لباب الملك عبد العزيز، وغرفتي التي نزلت فيها تطل على الكعبة المشرفة، فما أروع هذا المنظر الآسر للمشاعر، وما أبهج هذا المشهد الأخَّاذ بمجامع القلوب، أرى الطائفين حول بيت الله فأغبطهم، والطواف يفعل في نفسي ما تفعله الصلاة، وما أحببت في البلدا الحرام عبادة ما أحببت الطواف، ما أطيب الطواف وما ألذه، تلهيني لذته عن كل لذيذ، ويشغلني طعمه عن كل طيب شهي، فسررت بموقع غرفتي سرورا وسعدت به أيما سعادة، ثم سرعان ما أخذني همٌّ، قويٌّ وقوي وكاد أن يقضي على ذلك السرور ويسلبني تلك السعادة، وهو أن يصدر مني سوء أدب وأنا أتحدث وأضطجع في غرفتي أو أن تزول من قلبي هيبة الكعبة وأنا قريب منها، وقد يسبب القرب قسوة في القلب وحرمانا.

العمرة:

صلينا في الغرفة المغرب والعشاء جمعا، ثم خرجنا لأداء أركان العمرة قبل الساعة الحادية عشرة، ودخلنا المسجد من باب الملك عبد العزيز، فلما وقع بصري على الكعبة سألت الله تعالى أن ينعم عليَّ بتقواه، ونزلنا إلى المطاف في الدور الأرضي، وهو مكتظ بالطائفين والمصلين، ولقينا مزاحمات شديدة ومضايقات، خفَّفها النظر في عظم الأجر والثواب، والشوق إلى الله تعالى وتذكر نعمه، وحمدت الله عز وجل على ما وفقني من عبادته دون استحقاق.

قضينا الطواف بعد الثانية عشرة ليلا، وصلينا ركعتين، ويممنا شطر الصفا، دعونا الله تعالى بدعوات، ثم بدأنا السعي ذاكرين الله وداعين، وانتهينا منه بعد الساعة الواحدة، ثم مشينا إلى صالون للحلاقة، وحلقت رأسي، ورجعنا إلى غرفتنا في الفندق، واغتسلنا واسترحنا قليلا.

العمال الهنود:

ويلاحظ الزائر للحرمين الشريفين أن العمال المسلمين من الهند وباكستان وبنغلاديش هم الذين يتولَّون تنظيفهما وسائر خدماتهما، ويغلب أكثرهم الشعور بواجبهم الديني تجاه المسجدين العظيمين، فتذكرت أن المسلمين الهنود خدموا الحرمين الشريفين لما كانوا أغنياء بإقامة الرباطات فيهما ووقف الأموال لهما والإنفاق على سكانهما، والآن يخدمونهما وقد انقلب لهم الأمر وصاروا فقراء، فطوبى لشعب اختاره الله لخدمة بيوته غنيا وفقيرا، ورأيت أخانا الكريم أحمد عاشور منذ لقيته أول مرة أنه كلما وضع أحد من منزلة مسلمي الهند بين يديه ذكَّره بصنيعهم لأهل الحرمين حتى الماضي القريب، جزى الله أحمد خيرًا، فما أعدله قولا وفعلا، وأقامه على صراطه السوي.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين