حدث في السابع والعشرين من ذي القعدة

في السابع والعشرين من ذي القعدة من عام 1277 = 6/6/1861 انسحبت القوات الفرنسية من لبنان بعد أن مكثت فيه قرابة 10 أشهر في إطار اتفاق بين الدولة العثمانية والدول الأوربية الكبرى لإقرار الأمن في لبنان بعد مذابح وقعت بين المارونيين وبين الدروز في جبل لبنان، ونتج عنها مقتل آلاف من المارونيين، وبضع مئات من الدروز.

ويعيد المؤرخون جذور هذه المآسي إلى حملة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا الكبير، والي مصر، والتي انطلقت من مصر واستولت على بلاد الشام بأكملها وجزء من الأناضول، وكادت تهدد الدولة العثمانية في قعر دارها، قبل أن تقوم القوى الاستعمارية الأوربية بتوجيه إنذار لمحمد علي باشا بالانسحاب مقابل منحه رسمياً حق حكم مصر هو وسلالته.

وكان الدروز والموارنة يعيشون منذ قرون في جبل لبنان في قرى متجاورة ومختلطة، يتزعمها الدروز في الغالب، وكانت العلاقات هادئة على دَخَن لتسلط الدروز، وهم ملاك الأراضي، على الموارنة الذين كان أغلبهم يعملون لديهم في الزراعة، ومنذ أن ارتبط الموارنة بالكنيسة الكاثوليكية في أواخر القرن السادس عشر الميلادي صاروا يدينون بالولاء للجناح الكاثوليكي في أوربا والذي يتزعمه روحياً البابا وسياسياً الدولة الفرنسية، وفي المقابل كانت البعثات التنصيرية البروتستانية من بريطانيا وأمريكا وفرنسا تطمع في إيجاد كنائس محلية من نصارى لبنان أو غيرهم من الطوائف، وبخاصة الدروز الزعماء التقليديين لجبل لبنان، وكانت بريطانيا العظمى تعضد الدروز في إطار تنافسها مع فرنسا في إيجاد مناطق نفوذ في المشرق العربي.

وكان لبنان هادئاً أيام استيلاء إبراهيم باشا عليه من سنة 1830 إلى سنة 1841، وذلك لوجود صاحب القرار قريباً منه، ولشدة سطوة إبراهيم باشا وبطشه، وقبل ذلك كله لأن إبراهيم باشا اتبع سياسة عدل وإنصاف مع سكان الشام بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم، وبخاصة في جباية الضرائب، فانزاح عن كاهل ضعفاء الموارنة حملٌ ثقيل طالما اشتكوا منه، وكان النظام العثماني جائراً يعتمد في جباية الضرائب على إقطاع المناطق لمن يتعهد بتأدية مبلغ مخصوص عنها ويستوفيه هو من الأهالي أضعافاً مضاعفة بالجور والقهر، ووقف الأمير الماروني بشير الشهابي مع إبراهيم باشا وتعاون معه تعاوناً وثيقاً، وعندما أراد إبراهيم باشا تجنيد الدروز إجبارياً في جيشه، هدد هؤلاء بالتمرد، فقام الأمير بشير بتسليح 4.000 ماروني لقمع التمرد الوليد، وكان هذا أول صدام للسلطة في لبنان مع إحدى الطوائف التي تعيش في لبنان، فقد كانت الدولة العثمانية حريصة ألا تثير القلاقل في لبنان مع طوائف الأقليات.

كانت بريطانيا حريصة أشد الحرص على إخراج إبراهيم باشا من لبنان، في إطار التنافس بينها وبين فرنسا على طرق التجارة الدولية، ولحسن علاقاتها مع السلطنة العثمانية في مواجهة المطامع الروسية في المتوسط، ولذلك قادت مسعى دولياً تكلل بالنجاح، فانسحب إبراهيم باشا في أواخر سنة 1256= 1840، وبعد انسحاب القوات المصرية قامت الحكومة العثمانية بتعيين الأمير قاسم شهاب بدلاً من بشير الذي ذهب إلى المنفى في مالطة، اتباعاً لتقليد عريق وهو أن يكون متصرف جبل لبنان من أهله ومراعاة لاتفاقية عمرها 300 سنة تجعل من فرنسا حامية للمسيحيين في الإمبراطورية العثمانية، وكانت الحكومة العثمانية تتطلع لأن تتخلص من كل هذه الترتيبات ليتم حكم لبنان مثل غيره من المناطق في الدولة العثمانية.

وكان الدروز حانقين من تنامي القوة المارونية والنزعة الاستقلالية التي ظهرت إبان حكم إبراهيم باشا، فقاموا بعد الانسحاب وفي سنة 1257= 1842 بمهاجمة الموارنة واستولوا على بلدة دير القمر، وهي معقل أمراء الموارنة، وارتكبوا فيها فظائع منكرة، ثم زحف 8.000 درزي على زحلة أكبر حاضرة مارونية لاحتلالها، فدافع عنها أهلها ومعهم أهل بعلبك، وهزموا الدروز موقعين بهم خسائر فادحة، وتدخلت الحامية العثمانية وأوقفت القتال ولولا ذلك لامتدت الفتنة إلى بقاع أخرى من جبل لبنان.

وقامت الدولة العثمانية إزاء هذه الاضطرابات المتعاقبة فأبطلت جميع امتيازات سكان الجبل الممنوحة لهم قديما، وما منح لهم أخيرا باتفاق الدول عقب جلاء العسكر المصري، وكانت الدولة العثمانية قد قررت أن وجود هذه العناصر المختلفة تحت حكم وال واحد لا ينتمي إلى إحداها سيزيل كثيراً من الروح التنافسية ويخفف من الضغائن الدينية بين الموارنة وبين الدروز، ونصبت عمر باشا النمساوي والياً على الجبل.

ولم تقبل الدول الأوربية ذلك، فاضطرت الدولة العثمانية في سنة 1258 = 1842 أن تعيد للجبل بعض امتيازاته، واتفقت مع سفراء الدول على ان يكون للوالي العثماني نائبان، يدعى واحدهما قائم مقام، أحدهما ماروني والآخر درزي يتولى كل منهما النظر في شؤون ابناء طائفته، ويتبعان حاكم صيدا، واعتبر طريق بيروت - دمشق الخط الفاصل بين هاتين المقاطعتين.

وقامت الدولة العثمانية بفصل إقليم الجبل الشمالي الآهل بالموارنة وضمه إلى ولاية طرابلس بلا امتيازات، فعارض البطريرك الماروني هذا الإجراء، وأرسل إلى جميع قناصل الدول الأوربية يحتج ضد هذا العمل المنافي للاتفاق الأخير، مدعيا أن الدولة لم ترد بذلك إلا إضعاف العنصر الماروني وتقوية العنصر الدرزي. ولم تقبل الدول الأوربية بهذا القرار التي سيحرمها من وسيلة للتدخل في المشرق العربي، وبعد مباحثات استقر الاتفاق في سنة 1259= 1843 على أن يعين في القرى المختلطة وكيلان أحدهما درزي والآخر ماروني ويكون كل منهما تابعا للقائم مقام الذي على مذهبه، ولكن الدروز لم يقبلوا إلا أن تكون لهم السيادة على الموارنة في القرى المختلطة، وآثر الموارنة أن يفقدوا امتيازاتهم وأن يكونوا جزءاً من ولاية عثمانية عادية ولا أن يكونوا تحت سيادة الدروز أعدائهم التقليديين.

وانتقاماً من هذا الموقف هجم الدروز على النصارى في سنة 1261 = 1845 وقتلوا المسيحيين وتعدوا على قسس الكاثوليك الفرنسيين، وقتلوا رئيس أحد الأديرة واسمه شارل دي لوريت واثنين من رهبان الدير، وحرقوا جثثهم ثم أضرموا النار في الدير حتى صار قاعا صفصفا، بعد أن نهبوا كل ما به من المنقولات والأمتعة. ولاحظ المراقبون أن الدروز لم يتعرضوا لمقرات أو أشخاص المرسلين البروتستانت الأمريكان والبريطانيين، واعتبروا ذلك دلالة قوية على أن هذه المذابح لا تخلو من تأثيرهم حتى يثبتوا للموارنة الكاثوليك أنهم لو اعتنقوا المذهب البروتستانتي فسيصيرون في مأمن من تعدي الدروز.

وأرسلت الدولة العثمانية جيوشها واحتلت البلاد سهلا وجبلا بصفة عسكرية وأجرت فيها الأحكام العرفية، وجرت مباحثات طويلة بينها وبين الدول الأوربية حول الترتيبات التي تضمن السلم الدائم، وانجلت عن الاتفاق على أن يبقى في القرى المختلفة وكيلان؛ درزي وماروني، ويعين لكل من قائم مقام مجلسٌ إدارة برئاسته، ويتشكل هذا المجلس من عشرة أعضاء: خمسة قضاة، وخمسة مستشارين، اثنان منهما من الدروز، واثنان من الموارنة، واثنان من المسلمين، واثنان من المدنيين، واثنان من مذهب الروم الأرثوذكس، ويكون من اختصاص المجلس تقرير الضرائب الموضوعة على السكان بالعدل والمساواة دون نظر إلى اختلاف دين أو مذهب، وإن اعترض مندوب أي طائفة على الضرائب الموضوعة بدعوى انها مجحفة بحقوق ابناء طائفته، فإن الأمر يرفع للوالي العثماني فيحكم فيه نهائياً. وقبل الدروز هذه التسوية بتشجيع من بريطانيا التي أوحت إليهم أن يعتبروها خطوة على طريق أن تكون لهم مع الوقت السيادة على كافة الطوائف الساكنة بلبنان.

وفي سنة 1274 = 1858 اندلعت انتفاضة مسلحة في المناطق المارونية قادها طانيوس شاهين استهدفت إقطاعيي الموارنة فنهبت أراضيهم وحرقت منازلهم وطردتهم من المنطقة، وسيطر الفلاحون الموارنة على معظم أراضي كسروان، وكان من الطبيعي أن يبدأ الفلاحون الموارنة، بدعم من جانب رجال الدين، بالتحضير لانتفاضة على الإقطاعيين الدروز، الذبن استشعروا الخطر وبدأوا بتسليح رعاياهم من الدروز، وذلك بدعم من الوالي العثماني خورشيد باشا، واستنجدوا كذلك بأبناء عمومتهم من الدروز في حوران.

وكانت القوى الخارجية تغذي هذه الصراعات، فالفرنسيون على سبيل المثال، دعموا المسيحيين، في حين أيد البريطانيون الدروز، وغذى العثمانيون الصراع لزيادة سيطرتهم على الولاية المقسمة، واغتر البطريرك الماروني بما تحقق من انتصارات وبالدعم الفرنسي، فهدد بطرد الدروز من لبنان متوعداً إياهم بتشكيل جيش من 300.000 مقاتل، ورد الدروز على ذلك بهجوم شراذم منهم على قرية بيت مري في لبنان في أوائل سنة 1276 = 1859 فهُزِموا بعد أن أحرقوا ثلاثة قرى مسيحية وقتلوا بعض رجالها.

وبعدها بستة أشهر في ذي القعدة من سنة 1276= 1860 اندلعت الشرارة التي أشعلت القتال وكانت نزاعاً بين طفل درزي وبين طفل ماروني من دير القمر، فتدخلت عائلتاهما ومن ثم طائفتاهما، واندلعت على إثرها سلسلة من الهجمات الدرزية على القرى المسيحية، وشارك فيها دروز جبل لبنان ودروز حوران، ودمرت خلالها 60 قرية بالقرب من بيروت في ثلاثة أيام، وبعدها بأيام امتدت الاضطرابات إلى الأحياء "المختلطة" من جنوب لبنان، وجبال لبنان الشرقية، وحتى صيدا وحاصبيا وراشيا ودير القمر وزحلة، وحاصر الدروز الأديرة الكاثوليكية والبعثات وحرقوها وقتلوا رهبانها، ووقفت الحامية العثمانية موقف المتفرج في أغلب الأحيان والمساعد المؤيد أو المشارك في بعض الأحيان.

ولجأ عدد كبير من المسيحيين إلى بيروت وفتح مسلموها وفي مقدمتهم عمر بيهم أعظم تجار تلك المدينة بيوتهم للاجئين إليهم، وأخذوا يوزعون عليهم الأطعمة وحالوا بحكمتهم دون تدخل الرعاع من أبناء طائفتهم في الأمر فخففوا من غلوائهم.

وبعد ذلك انتقلت الفتنة إلى دمشق حيث قام الدروز والغوغاء من المسلمين بالهجوم على الأحياء المسيحية فيها وقتل أهلها ونهب مساكنهم، إضافة إلى حرق الكنائس والمدارس النصرانية، وانجلت المجازر التي دامت ثلاثة أيام عن مقتل ألوف من النصارى، وتدمير كامل لحارة النصارى في دمشق القديمة والتي كان يسكنها الكاثوليك، بينما نجا الأرثوذكس الذي كانوا يسكنون في حي الميدان خارج سور المدينة، بسبب حماية جيرانهم المسلمين لهم.

كيف انتقلت المجازر إلى دمشق مدينة التسامح واللطف؟ وكيف قام رعاع المسلمين بمعاونة الدروز في الهجوم على النصارى الذين عاشوا معهم 13 قرناً في صفاء وهناء؟

لا شك أن دروز حوران كانت يتطلعون للإيقاع بالنصارى امتداداً لما أوقعه بهم أبناء عمومتهم في جبل لبنان وشارك فيه عدد كبير منهم، وكان للدروز تجمع كبير في دمشق واتصال مستمر مع جماعاتهم في حوران يمكنهم من حشد المسلحين ليقوموا بهذه المجازر البغيضة.

ويُجمِعُ المؤرخون أن الأسباب التي أثارت الغوغاء من المسلمين للمشاركة في المجازر لا علاقة لها بحوادث جبل لبنان، وإنما تعود إلى حرب القرم التي خاضتها الدولة العثمانية مع روسية في سنوات 1270- 1272= 1853- 1856!

نشبت هذه الحرب بين روسيا في جهة وفي الجهة الأخرى الدولة العثمانية مع بريطانيا وفرنسا، وكان سببها الأول مطالبة الروس أن يكون لهم حق حماية النصارى الأرثوذكس من الرعايا العثمانيين، أسوة بفرنسا مع الكاثوليك، وسببها الثاني النزاع بين روسيا وفرنساة حول الامتيازات التي تتمتع بها الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية في الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، وانتهت الحرب بهزيمة روسية.

وكان من نتائج هذه الحرب أن أصدرت الدولة العثمانية إعلاناً سلطانياً أعلنت فيه المساواة بين كافة الرعايا العثمانيين، وكذلك أصدرت قراراً أعفت فيه النصارى من الخدمة العسكرية مقابل دفع بدل نقدي، وأثار ذلك تذمر المسلمين اللذين كان مبدأ المساواة غير مقبول لديهم، واستاءوا لوقوع عبء الخدمة العسكرية عليهم وحدهم، واعتبروه محاباة للنصارى على حساب المسلمين، وجاهر بعضهم بخلع دولة الأتراك والانضمام إلى دولة مصر.

ولم يرض المسيحيون عن القرار الذي ألزمهم بدفع البدل النقدي، فقد كان كثير منهم يتطلع أن يعفى من الخدمة تماماً، وقام النصارى في دمشق بالتجمهر لدى مطران الكاثوليك والاحتجاح لديه على حيف البدل النقدي، وطلب المطران من الوالي ردع المتجمهرين وإيقاع العقوبة بهم.

وبدا لوالي دمشق أن يتخذ بعض التراتيب الرادعة للغوغاء من كل الطوائف، فنصب المدافع على أبواب الجامع الأموي تخويفاً للمسلمين، وأمر في 20 ذي الحجة من عام 1276 بإخراج الرعاع المسجونين من المسلمين بقصد تطوافهم في الشوارع وهم مكبلون بالقيود إرهابا للثوار من المسلمين والدروز معا، فلما وصلوا إلى باب البريد هجم بضعة من المسلمين على الحراس وبطشوا بهم وخلصوا رفاقهم ونادوا بالجهاد، فهجم الأوباش على المسيحيين في بيوتهم ومحلاتهم ووضعوا السيف فيهم، وراحوا بالعروض والأموال، وقتلوا بعض الرهبان الفرنسيسكانيين.

وقد علل سبب فتنة دمشق نائبُ القنصل الأمريكي بدمشق ميخائيل مشاقة، المولود سنة 1214=1800 والمتوفى سنة 1305=1888، في كتابه مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان فقال: إنه لم يكن لها تعلق بحادثة لبنان بل نشأت عن تصرفات جهلة النصارى عندما عجز عقلاؤهم عن ردعهم، فلما وضعت الدولة قوانين المساواة بين رعاياها من أي مذهب كانوا، توسع جهلة النصارى في تأويل هذه المساواة بأن معناها أنه لا يجب على الصغير الخضوع للكبير، ولا للوضيع أن يحترم الرفيع، وتوهموا أن أدنياء النصارى هم بمنزلة عظماء المسلمين، ولم يريدوا أن يفهموا أن المساواة هي في الحقوق الشرعية والنظامية، وأن من الواجب حفظ اعتبار أهل الاعتبار بالدرجة اللائقة بهم من أية طائفة كانوا، خصوصا النصارى نحو المسلمين، وعليهم أن يعرفوا بأن كبراء البلاد ومعتبريها هم منهم، والسلطنة مع وزرائها وعسكرها وجميع عظمائها من المسلمين، وأن النصارى في سورية هم الجزء الأصغر والأضعف في كل شيء.

وتتباين التقديرات في عدد ضحايا هذه المجازر من 5.000 إلى 20.000 قتيل، ولكن المؤرخين متفقون أن ما حدث ما كان برضا أو تخطيط من الدولة العثمانية، رغم أن أصابع الاتهام أشارت إلى قائمقام حاصبيا أو والي دمشق وبعض قواد الحامية العثمانية المرابطة في جبل لبنان، وقد تأثر السلطان عبد المجيد الأول كثيراً لهذه الأحداث والضحايا، واتخذ إجراءات فورية ورادعة للقصاص من المتسببين في المجازر، وأرسل واحداً من أكفأ رجال الدولة العثمانية هو فؤاد باشا حاكماً على الشام بصلاحيات مطلقة، فوصل إلى بيروت ودخان الفتنة لا يزال يتصاعد، وشكل مجلساً حربياً وأجرى تحقيقاته وقبض على كثير من رؤساء الفتنة، وأعدم رمياً بالرصاص 111 شخصاُ، وشنق 57 آخرين، وحكم بالأشغال الشاقة على 325 شخصاً، ونفى 145 شخصاً، وكان على رأس من أعدم والي دمشق المشير أحمد باشا وعدد من كبار موظفي الدولة في الشام.

ولما وقعت الفتنة في دمشق برز دور عدد من المشايخ والوجهاء في إيواء المسيحيين وحمايتهم، كما يقضي بذلك الشرع الحنيف وأخلاق الإسلام، ويذكر المؤرخون في هذا الصدد الشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي، ومحمود أفندي حمزة، وأسعد أفندي حمزة، والشيخ سليم العطار، وسعيد آغا النوري، وعمر آغا العابد، وصالح آغا المهايني، إلى جانب عشرات غيرهم من أهل العلم والفضل في دمشق ممن فتحوا بيوتهم لإيواء مواطنيهم المنكوبين، وخطب الشيخ عبد الرزاق البيطار، المولود سنة 1237 والمتوفى سنة 1335، خطبة في جامع كريم الدين في الميدان بحرمة هذه الأفعال، وأنه لا يجوز التعرض للنصارى بحال، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن تعرض لهم بسوء فقد باء بالخزي والنكال، فانكف أهل الميدان واجتلبوا ما قدروا على اجتلابه من الرجال والنساء، لحمايتهم من الأشقياء، وقال الشيخ السيد محمود حمزة، مفتي دمشق سنة 1284، قصيدة في تقبيح ما صدر من رعاع الدمشقيين من أفعال القتل والنهب منها:

يا وحوشا صادفت في غابها ... آمِنا فاستقبلته بالسهام

إلى أن قال:

بئس مِصر قد خلت من حاكم ... جورُ سلطان ولا عدل العوام

ويبرز هنا بشكل خاص الأمير عبد القادر الجزائري، المولود سنة 1222 والمتوفى سنة 1300، وكان قد جاهد الفرنسيين في الجزائر 15 عاماً قبل أن يستسلم سنة 1263 = 1874، فنفوه إلى فرنسا ثم استقر في دمشق سنة 1271، وقد قام الأمير عبد القادر وأعوانه ومن انضم إليهم من أهل دمشق بالتسلح لردع الغوغاء وحماية 16.000 مسيحي لجأوا إليهم، وقد كافأته فرنسا على عمله هذا فمنحته وسام جوقة الشرف، وأرسلت له الملكة فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند خطاباً شكرت فيه صنيعه وقالت: إنها عرفت من سلوك سموه الفرق بين المسلم ذي العقل الراجح، والجبناء المتظاهرين بالتدين الذين عملوا بإثارتهم التعصب على إبادة كثيرين من النصارى العزل.

قامت الدول الأوربية بالاحتجاج لدى الدولة العثمانية على هذه المجازر، وطلبت فرنسا أن ترسل قوات لمساعدة القوات العثمانية أو الحلول محلها إن فشلت، فوافقت الدولة العثمانية في أول عام 1277 على إرسال قوة أوربية من 12.000 جندي، فقامت فرنسا على الفور بإرسال قوة من 6.000 جندي على أن ترسل الدول الأخرى قوات إضافية في حالة الحاجة إليها.

وصلت القوة الفرنسية بقيادة الجنرال بوفورت دو هاوتبول Beaufort d'Hautpoul والذي كان قبل قرابة 30 سنة رئيس أركان جيش إبراهيم باشا أثناء حملته على سورية الجنوبية، وكان وصولها بعد أن استقرت الأوضاع وهدأت النفوس، بناء على معالجة فؤاد باشا للأمور بسرعة وحزم، وكان الاتفاق أن تبقى القوة 6 أشهر، ولكنها بقيت أكثر، وجاءت مغادرتها لاعتراض الحكومة البريطانية التي قالت إن الوضع هادئ وينبغي أن يترك للسلطات العثمانية.

وبعد ذلك بشهرين اجتمعت لجنة دولية مؤلفة من فرنسا وبريطانيا والنمسا وبروسيا والدولة العثمانية للتحقيق في أسباب أحداث 1860، والتوصية بنظام إداري وقضائي جديد للبنان يحول دون تكرارها، ورأت اللجنة أن تقسيم إمارة لبنان في 1842 بين الدروز وبين المسيحيين كان السبب الرئيس وراء المجازر، وقررت اللجنة في عام 1861 تعويض المسيحيين بمبلغ 75 مليون قرش، وأوصت بفصل لبنان عن سورية، وتوحيده على هيئة متصرفية يديرها وال مسيحي يعينه السلطان العثماني بموافقة القوى الأوروبية، ومقره بلدة دير القمر، ويعاونه مجلس إداري مكون من اثني عشر عضوا من مختلف الطوائف الدينية في لبنان، وهكذا شهد لبنان قبل انسحاب القوات الفرنسية بيوم واحد أول وال مسيحي له هو داود باشا الذي كان أرمنياً من استانبول.

قال المندوب البريطاني في سورية اللورد دوفرين: لم يبق أدنى ريب أن المذابح الأخيرة وجميع الحروب والاضطرابات والمنازعات التي انتابت لبنان في مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة تعود إلى استياء الحكومة العثمانية من الاستقلال النوعي الممنوح للجبل، فجعلت غرض سياستها أن تبرهن على أنه يتعذر العمل بطريقة الحكم التي منحتها الدول لبنان في سنة 1845، ولهذا كان الأتراك يغتنمون الفرصة لإثارة دفائن الأحقاد القديمة بين الدروز والموارنة، ولما ازداد تعجرف المسيحيين وتعصبهم بقوة المساعدات الأجنبية التي فازوا بها، ثقل على الأتراك احتمال وطأة استقلالهم، فعقدوا العزم على اتخاذ الدروز آلة ليوقعوا بهم ويضربوهم ضربة أشد إيلاما مما تقدمها، بيد أن ما حدث في حاصبيا وراشيا ودير القمر قد تعدى ما كان مخططاً له لعدم توفر شروط اللباقة في خورشيد باشا وأعوانه لإنفاذ سياسة دهاء كهذه، فأفرطوا فيها بحيث افتضح سر سياستهم وكان له دوي هائل في الأندية الأوربية.

وقال أيضا: لما زرت هذه الأصقاع لبنان قبل استيقاظ الفتنة ببضعة أشهر شاهدت أماراتها بادية في عواطف الفريقين، فالدروز كانوا مستعدين للقتال، والموارنة كانوا يعتقدون أن قد دنت ساعة فوزهم، كما أن سجلات الجمارك أظهرت أنه قد دخل إلى لبنان من كانون الثاني 1857 إلى ربيع 1860 أكثر من 120.000 بندقية و20.000 مسدس، وكان من المشتهر انصراف المطران طوبيا وشركائه إلى إيقاظ الفتنة... فمن العبث وصف النصارى بأنهم شهداء قديسون فهم يضاهون جيرانهم الدروز في حروبهم همجية وظمأ إلى الدماء، وكثيرا ما كانوا يقتتلون بعضهم مع بعض ... وعليه فمن الخطأ وصف القتال الذي جرى بين الدروز والموارنة بمثابة اعتداء وثنيين برابرة على أتباع دين المسيح الودعاء، بل هو نتيجة تباغض طائفتين متساويتين في الهمجية، أنزل الفائزون في أعدائهم البلية التي كانوا مهددين بها فيما لو تغلب هؤلاء، وإذا كان الدروز ارتكبوا في هذه الحروب فظائع أكثر بربرية من المعتاد فالسبب فيه تدخل الأتراك وشدة حنقهم على النصارى وقد أثاروه بتهديدهم وعجرفتهم.

وبعد خروج القوة الفرنسية من بيروت بعشرين يوما توفي السلطان عبد المجيد خان، وقد تجاوز 40 سنة، ودام حكمه سنة ونصف اتسمت بالاضطراب والقلاقل كما رأينا في مجازر جبل لبنان، وتلاه السلطان عبد العزيز.

قال الأستاذ محمد كرد علي في كتابه خطط الشام في ختام حديثه عن هذه المجازر: والذنب كل الذنب على الحكومة وعمالها أولا لما أبدوه من الضعف، ثم على الأقرب فالأقرب من الأعيان والمشايخ والخاصة، ثم على العامة، ولو قام كل واحد من الأعيان والمشايخ بواجبه لخف الشر كثيرا في دمشق، وربما امتنع عامة الأشقياء عن أعمالهم على الرغم من تحريض الحكومة لهم سرا أو من إبدائها تساهلا ظنوا معه أنها تدعوهم إلى عمل ما عملوا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين